للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


هل للقول من مستمع؟
وهل للداعي من مجيب؟

جاءتنا هذه الرسالة من أحد الملاويين صاحب الإمضاء الرمزي، كتبها بعد
قراءة مقالتنا الأولى (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) .
نطقت ألسن الجرائد والمجلات، وأذن مؤذنوها على منائر الأرجاء أن
سبب سقوط المسلمين وتأخرهم عن الأمم الحية هو الجهل الذي فشا بينهم، فنشأ
منه ما نشأ من عدم الاتفاق والاتحاد , وانتفت به الوحدة والتراحم والتواد , وبه
ورثت دولة منها ملكنا وأرضنا وديارنا وسادتنا، واستبدت فينا، فلم يشعر أحد منا
بما حل بنا من سوء هذا العذاب، فلا حول ولا قوة إلا بالله , نعم.. فشا الجهل بين
المسلمين على الإطلاق، ولكن ما سمعت الجرائد والمجلات وصفت أحوال المسلمين
كما وصفت أحوال مسلمي جاوه في الجهل وضعف النفس والهمجية، على كونهم
أكثر من ثلاثين مليونًا من المسلمين، وعابت علماءهم لعدم استعدادهم واطلاعهم
على أحوال العالم , وسياحهم لعدم اعتبارهم وتفكرهم في المخلوقات وأحوال الخلق
عند سيرهم في الأرض.
أطلقت الجرائد والمجلات كلمة مسلمي جاوه على جميع المسلمين في هاتيك
الأرجاء، على أن مسلمي ملايو (ماليزيا) غير مسلمي (جزائر جاوه) ، ولغتهم
غير لغة الجاويين. كالفرق بينهم وبين الهنود في اللغة والجنس، ولا جامعة تجمع
بين أولئك وهؤلاء إلا الدين الحنيف، غير أن الجاويين أكثر مخالطة للملاويين من
سائر المسلمين، وقد خرجوا من جزائزهم هاربين لأرض ملايو؛ لما أحدق بهم من
الضيق والاستبداد والاستعباد الذي لم يفعل ولن يفعل بغيرهم من رعايا هولندة فعله
بهم.
ذلك بأن الملاويين والجاويين هم سواء في الجهل، وعدم الاتفاق والائتلاف
بينهم، والتباغض والتحاسد فيما بينهم، ولكن ليس في الملاويين مثل ما في
الجاويين من دناءة النفس والخضوع الذميم وإن كانوا في الجهل سواء، ثم إن في
أرض ملايو عدة سلاطين، فكل سلطان يتصرف في بلده كيف شاء , واتفاقهم
محال , وليس في جزائر جاوه إلا سلطانان وهما الأخوان , وأهل ملايو على قلتهم
وتفرقهم وتباعدهم وجهلهم كثيرًا ما قاوموا الهولنديين الذين في بلادهم، ونازعوهم
وعصوا أمرهم، وأتشين (أجيه) في صومطرة تحاربها منذ أربعين سنة هولندة
وهى إلى اليوم لم تخضع لها خضوعاً، هل سمعت أن أهل جزائر جاوه على
كثرتهم قاوموا هولندة وعصوا أمرها؟ كلا ثم كلا؛ بل كانوا ولا يزالون خاضعين
خاشعين لها فوق خضوعهم وخشوعهم لرب العالمين. والحمد لله لم يوجد فيما نعلم
أحد من مسلمي ملايو تنصر أو تهود. هذا، ولا أعني بقولي هذا تفضيل الملاويين
على الجاويين، فكلهم معرضون عن طلب العلم ونشر التعليم بين أبنائهم وعن إزالة
التفرق والاختلاف بينهم، وما داموا في الجهل سواء فلا فرق بين الجنسين.
قول (المنار) : ومن عجائب خمولهم: أي (المسلمين الجاويين) وضعف
استعدادهم أن الذين يرحلون منهم لطلب العلم، يقيمون السنين الطوال بمكة أو
مصر، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا
أحوال هذا العصر شيئًا قط؛ لأنهم يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية،
يتعبدون ببعض كتب متأخري الشافعية؛ كابن حجر الهيتمي والرملي فإن
تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا الأنصاري والنووي ا. هـ
وأزيدك أيها القارئ علمًا بأن من يتعلم العلم منهم في مكة، إنما يتعلمه ليطفئ
نور همة غيرهم من المسلمين في إحياء العالم وإصلاح الطريق الموصلة إلى سعادة
الدارين , وليأمر قومه بالإفراط في الزهد، وترك الدنيا بالمرة، وتحقير النفس
والخضوع الذميم , لا ليعلمهم دينهم ويبين لهم حقيقته وأصوله، ولا لينجيهم من
تنصير الدعاة (المبشرين) إياهم.
ذلك بأن أكثر الشيوخ الجاويين في مكة، ينفقون أوقات تلاميذهم في قراءة
الكتب الفقهية كتابًا فكتابًا إلى ما لا نهاية له. وهؤلاء التلاميذ أكثرهم لم يفهموا شيئًا
من اللغة العربية، وهم يعلمونهم أيضًا النحو والصرف. ولكن لعدم مراعاتهم
طريقة التعليم المقربة للفهم أو لعدم علمهم بذلك، صار التلاميذ لا يفقهون ما
يقولون.
ولهذا نقول: إذا وجدت واحدًا في المئة يتعلم ويفهم بعد أن قضى في مكة
السنين الطوال فخير كثير , وكثيرًا ما سألت إخواني الطلبة هناك الذين جلسوا عشر
سنين و١٥ سنة عن الإعراب، فوجدتهم لا يعرفون الإعراب الظاهر فضلاً عن
الإعراب التقديري والمحلي، ومع هذا يقرؤون ابن عقيل والأشموني وشرحي
المنهج والمناهج. ومن أحوال أكثر هؤلاء الشيوخ أنهم يعلمون حجاج بيت الله
الحرام ما يسمونه الطريقة، ويأمرونهم بشراء السبح ويزهدونهم فى الدنيا، وهؤلاء
الحجاج المساكين لا يعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا أحكام الحج التي تجب عليهم
معرفتها قبل شروعهم فى العمل، وما ذاك إلا ليتصدقوا عليهم.
وإذا كان الحال كذلك، فكيف لا يكثر الدجالون هناك، وأعداء الإصلاح،
ومروجو الخرافات والخزعبلات وأنصار البدع؟
يا هؤلاء الشيوخ: لا تغلو في دينكم، ولا تأمروا تلاميذكم بترك الدنيا
وإخضاع أنفسكم وإهانتها للأمة المستبدة، فإن الإسلام لا يأمرنا نحن المسلمين بذلك
وإنه لا ينهانا عن المأكل اللذيذ ولا الملبس الحسن، وإنه ليس فيه حرج ولا غلو
ولا إفراط ولا تفريط، وعلّموا تلاميذكم كتاب الله وسنة رسوله.
إنني والله لأخشى يوم يتجلى رب العالمين أن يعاقب المعلمين؛ بصد
المتعلمين عن كتاب الله وسنة رسوله. بكتب أولئك الفقهاء وإن كانت دينية، أقول
قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولمن اتبع الهدى ورجحه على الهوى.
... ... ... ... ... ... القاهرة في ١٧جمادى الآخر ٣٢٩
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع