للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

ما يتعلم في السفينة
الشذرة الخامسة عشرة من جريدة الدكتور أراسم
في اليوم الخامس من شهر مارس بلغنا مينا جرافسند [١] حيث سلم مُعَرِّف
التأميز [٢] زمام سفينتنا إلى مُعِّرف البوغاز الذي أخذ الآن على نفسه إبلاغنا ما
وراء مصب النهر.
في نحو الساعة السادسة من المساء برز الربان على ظهر السفينة وتعهد
بنفسه ما شحن فيها من المؤنات كالماء والبقسماط وبراميل اللحم المملح , واستوثق
من سلامتها , ثم قضينا ليلتنا على المرساة.
وقرب حد الظهيرة من الغد سارت بنا السفينة تجرها باخرة صغيرة الحجم
شديدة القوة تسمى (نلسن) , وفي وقت مرورنا حيال منارة (نور) هبت علينا
ريح طيبة , فأمكنتنا من مد بعض الشُرع , ثم تغير لون الماء فصار ذا خضرة
كدراء.
كانت تلك الساعة هي المعينة لنزولي إلى حجرات المسافرين لعيادتهم فيها ,
وليس القيام بشئون الصحة في سفينة إنكليزية كبرى من الأعمال (الوظائف) التي
يؤجر صاحبها بلا كسب فإن (المونيتور) تحمل خمسة وثلاثين راكبًا من الدرجة
الأولى , وقل منهم من يقوى على أول صدمة للبحر عدو الإنسان، ويكون آمنًا من
العثار , فلم ينج من مرضه إلا هيلانة وامرأتان أخريان أو ثلاث.
وفى اليوم الثامن من الشهر بلغنا حوالَي الكثبان , فألقى معرف البوغاز مقاليد
السفينة إلى ربانها، ونزل بالساحل ثم رجعت الباخرة الجارة بعد إبلاغنا هذا المكان
من حيث أتت، ووكلتنا إلى قوانا أي إلى شُرُع سفينتنا، ولما رأى المسافرون
والملاحون أن هذه البقعة هي آخر موقف يؤذن لهم فيه بالاقتراب من البر حمل
كثير منهم المعرف رسائل إلى أصدقائهم تتضمن بالبداهة آخر وداع لهم.
جاء دور البحارة الآن في العمل , فمدوا أيديهم إليه بهمة وإقدام , واشتغل
الضابط الأول والثاني للسفينة بترتيب الحرس , فعيَّنَا لكل حارس عمله، ثم تدلت
من جميع السواري وهي في نصف ارتفاعها أنسجة طويلة نفختها الريح وصفقتها ,
فأنشأت السفينة تميد , وأحست باستقلالها من وقت أن ثابث إليها أجنحتها، وكانت
قبيل هذا تبدو عليها علائم الكآبة والخجل أن ترى مقودة بغيرها.
أديرت على الملاحين كأس من خمر عسل السكر استحقوها كل الاستحقاق
بكدهم ونَصَبهم.
مما عرفته من الأماكن في مسيرنا (بيشى هد) وهو رأس فى أميرية
(قونتية) صاسقس , وجزيرة وايت , وستارت بوينت , وقد صار الماء الآن ذا
خضرة بهيجة تطفو على سطحه أعشاب بحرية تشبه التبن الطويل. صادفتنا سفينة
راجعة إلى إنكلترا فخاطبناها بأعلامنا الملونة، وسألناها بهذه اللغة السرية أن تبلغ
سفر سفينتا مكتب الملاحة لشركة ليود.
انتهينا من اجتياز البوغاز , فخرجنا منه وكان الجو صحوًا , فصعد المسافرون
على ظهر السفينة لاستنشاق النسيم البارد.
إني قلما رأيت اللج مرة لم يكن مرآه فيها مثارًا للعجب في نفسي , ولكن
أخص ما شغل ذهني منه الآن هو جملة العلوم التي استفادها الإنسان من ممارسة
البحر. انظر إلى النظام الكوني تجد علم الهيئة الذي يبحث فيه عنه إنما تولد من
الملاحة , فإنه لولا أن حاجة الإنسان إلى الاهتداء في سيره على ظهر البحار دفعته
إلى درس الفلك؛ لكان من المحتمل أن لا يخطر بباله أصلاً أن يتقصى سرًّا من
أسراره , فاحتياجه إلى السعي في طلب الغنى هو الذي اضطره إلى قياس الزمان
والأبعاد قياسًا مضبوطًا , فترى الملاح الساذج مع أنه لا يعرف القراءة دائمًا حائزًا
بالتحقيق لكثير من العلوم العلمية. سله إن شئت , وليكن ذلك عن بعض الأمور
الطبيعية؛ تجد كلامه فيها يرجع إلى ما قرره العالم الذي قضى سنين كاملة في دار
من دور الكتب، وإذا كنا الآن قد أنشأنا نظن أن للرياح والزوابع قانونًا، فإنما كان
ذلك بسبب ما جمع من ملاحظات البحارة المختلفين في السفن الموزعة على جميع
البحار , فأصبح أشد الفواعل الكونية تعاصيًا عن الضبط منقادًا إلى قانون، ودخل
أبعد الحوادث عن النظام في نظام العلم العام، وكشفت المسابير أغوار قعر المحيط
وقفاره المفروشه بأسلاب فرائسه , وأضحى الآن من الميسور رسم خريطة لتيارات
البحر السفلية، ثم إن الفضل فيما عرفناه من العلوم الصحيحة عن شكل العالم راجع
إلى الملاحين.
خلق البحر مثالاً للأزل لأنه مثال للحركة , فشهد تولد اليابسات المتعاقبة
وانعدامها وارتفاع الجبال، وما وقع على مر الدهور من ضروب فعل الأرض
وانفعالها مما لا يزال يرتجف منه فؤاده , وهو اليوم كما كان في مبدأ العالم لا
يعتوره نصب في جهاده وجلاده، فتراه يعض بعض سواحله، ويقرض ما يقاومه
من الصخور الصوانية , ويقتلع بعض أجزاء الأرض من أماكن مختلفة فينقلها من
أحد نصفيها إلى النصف الآخر ليبني بها سواحل جديدة وجزرًا ورءوسًا لابد أن
يهدمها بعد، وبِدَأْبِه على العمل يتحول من مكان إلى مكان على تعاقب العصور
بالقوة الساكنة التي توجد فيما لا يموت من الأشياء، وكما أنه رحم للخلائق
العضوية الأولى هو أيضًا أكبر مستودع للحياة.
من المحقق الذي لا مرية فيه أن ممارسة البحر قد وسعت دائرة علومنا،
ولكنا قد استفدنا منه ما هو أجل من العلم نفسه ألا وهو ما يتحلى به الرجال من
الفضائل التي ينميها في النفس الجهاد مع المحيط المخوف , فلولا هذا الجهاد لما
عرف الإنسان شيئًا يستحق المعرفة فما أمثل الملاحة طريقة للتربية! فذلك المربي
القاسي العبوس وأعني به البحر يبث كل يوم في أذهان غلمانه الذين يتغذون بلبان
معارفه أن النفوس متساوية , وأن الفلاح في الاعتماد عليها , ويعلمهم من البسالة ما
لا تزعزعه الخطوب , ومن الصبر ما يقوون به على احتمال كل ضروب الحرمان
واقتحام جميع المخاطر، ومن ذا الذي في وسعه أن يصف ما آتى الجنان من الثبات،
وما ألبس النفس من درع القوة , وهو - وإن غلبه الملاحون بمثابرتهم على قهره
وثباتهم في طلب الظفر به - يحق له في نفس هذا الغلب أن يفخر بغالبيه , فإنه هو
الذي أنشأهم وهم تلامذته اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))