للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عجالة في رحلة الهند
لصاحب المنار
(١)

قد استفدت في رحلتي إلى الهند والبلاد العربية الشرقية فوائد كثيرة جديرة بأن
تنشر في المنار، وأن تدون في كتاب مستقل، ولذلك عزمت على تأليف رحلة
خاصة في ذلك , ورأيت أن أعجل لقراء المنار ببعض ما رأيت وما استفدت.
الإنكليز: رياضتهم وأخلاقهم
لا يرى المسافر في سفينة إنكليزية عِبرة تهديها عيناه إلى فكره أعظم من
انهماك الإنكليز في الرياضة البدنية في عامة أوقاتهم، فإذا هو زار الهند بعد ذلك ,
ورأى فيها حكامهم وعسكرهم يعيشون في ذلك الحرّ المُحرق بلا ضرر ولا ضجر
ولا سأم يعلم من أسرار تلك الرياضة البدنية ومنافعها ما لم يكن يعلم، ويرى كيف
وصل العقل البشري إلى الجمع بين الترف والنعيم والبأس والقوة، وكان هذا في
العصور السابقة أمرًا مجهولاً، ولذلك أهلك الترف أممًا كثيرة، وأفنى دولاً كانت
قبله قوية، وهل يعتبر بهذا أغنياء أمتنا، بل عامة أهل المدن منا؟ كلا! إننا
نراهم لا يأخذون عن الإفرنج إلا أسباب الترف والنعيم، ووسائل الراحة واللذة،
ينفقون في ذلك أموالهم وصحتهم، فبلادهم وملكهم، حتى يكونوا عبيدًا أذلاء , ومن
العجائب أن الذين يزعمون منا أنهم مصلحون سياسيون ويتصدون لزعامة الأمة
وقيادتها في ميدان الحياة الاجتماعية والسياسية، هم أشد أفرادها إسرافًا في الترف،
وانهماكًا في اللذات، وحرصًا على الزينة والنعمة، وإنما جهادهم وكفاحهم ضرب
من ضروب الكلام، وهو التشنيع على من سادوا بلادهم بالقوى البدنية والنفسية
(الأخلاق) والعلمية، وما يتبعها من القوى المالية والآلية , ولا نراهم يقودون
الأمة إلى ما يقوي أبدانها وإراداتها، ويهذب أخلاقها وصفاتها، ويوسع دائرة
علومها وثروتها، ومن خسر نفسه فأيّ ربح يرجوه في سواها؟
إننى سافرت من بور سعيد إلى بمبي في إحدى بواخر البريد الإنكليزية بين
أوروبة والهند , ولم يكن في الدرجة الأولى ركاب من غير الإنكليز سواي، فكان
أول عِبرة أطلت فيها الفكرة من أحوالهم ما ذكرت من عنايتهم بالرياضة البدنية، ثم
إن أخلاقهم وآدابهم ليست بالتي ينساها المعتبر، أو يغفل عنها العاقل المفكر، وإنها
لأخلاق عالية، وآداب سامية، وهل سادوا الأمم وبزّوا الدول إلا بعلو أخلاقهم،
وصحة أبدانهم؟ والمشهور عنهم أنهم أصحاب جفوة، وأنهم لا يبدأون غريبًا بشيء
من وسائل العِشْرة، ولكنني رأيت كثيرًا منهم يبدأني بالتحية، ويفتح لي باب الكلام
معه، ولكنني لسوء الحظ لم أكن أعرف من اللغة الإنكليزية ما يمكنني من محادثتهم،
ويسهل لي سبيل معاشرتهم.
ومما يتصل بمسألة الأخلاق والآداب ويعد من فروعها عنايتهم بنظافة السفينة
فإن الملاحين يغسلون كل يوم كل ما يمكن غسله منها كسطحها الذي هو محل
الجلوس والرياضة، ويمسحون ما عدا ذلك، فلا تشم فيها رائحة ما، ولا تقع يدك
على شيء يصرفك إلى الماء، ولا يمس ثوبك شيئًا يدعوك إلى استبدال غيره به ,
ولعلك لا تجد قصرًا من قصور الملوك والأمراء، ولا دارًا من دور أهل الفنع [١]
والثراء أشد نظافة من هذه البواخر الإنكليزية، وأما بواخرهم التي تتردد في الخليج
الفارسي فهي دون بواخر الشركة الخديوية في النظافة والخدمة والطعام وفي كل
شيء , وكانوا يسيئون فيها معاملة العرب إلى أن أُنشئت شركة البواخر العربية
فاضطرتهم إلى تغيير معاملتهم.
ومن وجوه العبرة في مسألة النظافة أن المسلمين قد انقلب فهمهم لها , فجعلوا
كل ما ورد في الشرع من أحكامها أمورًا تعبدية يمكن الجمع بينها وبين الوساخة
والقذارة , كأن الطهارة الشرعية لا يقصد بها ما يفهم من معناها في اللغة العربية،
ففي عرف جمهورهم أن الوسِخ القذِر الكريه الرائحة قد يكون وليًّا كاملاً في اتباع
الشريعة، وأن النظيف البدن والثياب قد يكون نجسًا إذا تعطر على نظافته ببعض
الأعطار التي تمزج بالكحول الذي هو أقوى طهورية من الماء إذ يزيل من
النجاسات والأقذار ما لا يزيله الماء ولو كان مع الصابون , وسنشرح هذه المسألة
في الرحلة إن شاء الله تعالى.
ومن آيات العبر التي أصبتها في هذه الرحلة عناية الإنكليز بأمر البريد في
البحر والبر، والتوفيق بين مواعيد السفن والقطارات التي تحمله، ولا غَرْو فالبريد
آلة السلطة والتصرف في الملك وفي عقول الناس وقلوبهم، ومحل شرح ذلك
الرحلة.
***
أزياء أهل الهند
إن أزياء أهل الهند هي أول ما يشغل نظر السائح فيها ويثير تعجبه , يرى
في بمبي - وهي زينة بلاد الهند في حضارتها وعمرانها وثروتها - ألوفًا من النساء
الوثنيات مكشوفات البطون والسوق والأفخاذ , يجلسن في الشوارع والأسواق،
غاديات رائحات، بائعات مبتاعات، ويرى الرجال حتى الأغنياء منهم مشدودي
الأوساط بأُزر بيضاء , مرفوعات الأطراف من بين الرجلين , بحيث يرى باطن
الفخذ والساق، ويرى كثيرًا من الرجال والولدان عراة الأجسام لا يسترون منها إلا
السوءتين فقط، وهم يبيعون أو يشتغلون في الأسواق، ويرى الألوف الكثيرة من
العمائم البيضاء الملونة بجميع الألوان , وفي داخل الهند أزياء أخرى للنساء:
تراهن في (بنارس) - مدينتهم المقدسة - وفيما يقرب منها من البلاد يضعن على
رؤوسهن قناعًا يسدلنه على الجانب الأيسر من البدن وعلى الصدر، ويبقى الجانب
الأيمن مكشوفًا بحيث يُرى نصف البدن الأعلى كله , ويرى الرجال والولدان في
محطة سكة الحديد عراة يغتسلون من الحنفيات التي بجانبها , ويسمون الخرقة التي
يسترون بها السوءتين (سبيلين) وقد أخذوا هذا الاسم عن المسلمين الذين كانوا
يُكرهونهم على ستر عورتهم بعد الفتح الإسلامي، والفقهاء يطلقون لفظ السبيلين
على القُبُل والدُّبر كما هو معروف.
وأما الحُلي فهو عام يشارك الذكور فيه الإناث , فيضعون في آذانهم الأقراط
وفي أعضادهم الدمالج , وفي سوقهم الخلاخيل , والنساء يستكثرن من ذلك حتى إنك
ترى في ساق الواحدة منهن عدة خلاخيل ثقيلة , وفي أصابع أرجلها كلها الخواتيم
الكثيرة , وأقراطهن كبيرة كأسورتهن , ويكثرن منها حتى يقول الناظر: كيف
يستطعن حملها؟ ويستكثرن أيضًا من الخزام في أنوفهن , وقد يكون كبيرًا مثل
السوار , يظن الغريب أنهن يتحملن العناء بحمله إلا أن يتذكر أن العادة تخف على
صاحبها وإن ثقلت على ذوق غيره , ويرى النساء والرجال في المزارع مشتركين
في العمل عراة وأنصاف عراة.
أما نساء المسلمين فيقل بروزهن في الأسواق والشوارع، وترى على رأس
الواحدة منهن ثوبًا شاملاً يشبه الخيمة وعمود هذه الخيمة بدنها، ولها ثقبان بإزاء
العينين لهما شبكة من الخيطان , ترى منهما الطريق الذي تمشي فيه ولا يراها
منهما أحد.
وأكثر المسلمين يلبسون السراويل , لعله لا يتركه منهم إلا بعض الفقراء،
ومنهم المعممون ولابسو الطرابيش العثمانية ولا يلتزمون أن يكون لها زر، ومنهم
من يلبس الكمة (الطاقية) حتى إن كبار العلماء يحضرون الدعوات والاجتماعات
وليس على رأس الواحد منهم إلا كمة بيضاء، ورأيت الرجل يلبس تارةً عمامة
كبيرة وتارةً كمة وتارة قلنسوة، ولا ينكر عليه أحد بلسانه ولا بقلبه، ومن الناس
من يلبسون عمائمهم منسوجة بالذهب أو الفضة، فحريتهم في الأزياء واسعة جدًّا.
وترى أحسن أهل الهند زينة وأجمل أزياء نساء المجوس، والمجوس كثيرون
في بمبي قليلون في داخل الهند، وهم أرقى أهل الهند حضارة ومدنية وعلمًا وثروة
والسبب في ذلك أن الإنكليز عُنوا بتربيتهم وتعليمهم ما لم يعنوا بغيرهم لحاجتهم
إلى الاستعانة بهم على بعض الأعمال الوطنية، وعدم خوفهم من عاقبة ارتقائهم؛
لأنهم قليلو العدد , وهم على ارتقائهم في العلم والمدنية رجالاً ونساء محافظون على
شعائرهم ومشخصاتهم الملية , فهم يتركون أمواتهم للطيور تأكلها ولها بناء عظيم في
أعلى وأجمل مكان في بمبي , لا يأذنون لأحد أن يصعد إليه , ويسمون أنفسهم
ويسميهم الناس (الفرس) وأما الإيرانيون المسلمون فلا يسمون في الهند فرسًا ولا
يطلق على أحد منهم لفظ الفارسي , والفرس الخلص ينكرون كونهم من سلائل
أجدادهم ويقولون: إن هؤلاء قجارية وترك , والصواب أن مسلمي إيران مختلطو
الأنساب , فبعضهم من ذرية الفرس الأولين وبعضهم من العرب والترك والمغول
وأجناس أخرى، وكذلك مسلمو الهند ومصر والحرمين والأناطول والروملي
مزيج من السكان الأصليين ومن الفاتحين والمجاورين والمهاجرين، وبعض البلاد
كانت تكثر إليها الهجرة لما فيها من العلم أو الخصب والراحة كالبلاد الإيرانية في
عهد حضارتها الإسلامية، واللغة لا تدل على أصل الجيل والقبيل فإن أكثر
الناطقين بالتركية من مسلمي الروملي هم من الروم والبلغار والأرنئود لا من الترك
الفاتحين , كما تدل على ذلك سحنهم ومعارف وجوههم، فالترك العثمانيون والفرس
الإيرانيون المسلمون والعرب المكيون والمدنيون ليسوا تركًا وفرسًا وعربًا إلا
باللسان دون النسب، وأما أهل قرى الحجاز وباديته فهم كسائر عرب الجزيرة في
نجد واليمن صريحو الأنساب، الدخيل فيهم معروف لا يزوجونه منهم، إذ لا يزالون
يحافظون على أنسابهم وأنساب خيلهم.
***
العادات في الأكل والطعام
لا يزال أكثر وثنيي الهند يأكلون على ورق الشجر كما كانوا قبل الفتح
الإسلامي الذي غير كثيرًا من عاداتهم ولا سيما عادة العري، ولا يؤاكلون أحدًا من
غيرهم فلا يضيفون أحدًا , ولا يقبلون ضيافة أحد؛ لاعتقادهم أن جميع الناس نجس.
أما المسلمون فهم أهل الضيافة والكرم والحفاوة الصحيحة , وعاداتهم في
الأكل كعادات عرب الجزيرة يمدون السماط على الأرض , ويضعون عليه الطعام
ويأكلون بأيديهم , وأكثر طعامهم الأرز مع اللحم يأخذون منه بالخمس ويدفعون
بالراحة , ولا تكاد تستعمل الموائد المرتفعة والملاعق والسكاكين في داخل الهند إلا
في بيوت الأمراء وبعض المتعلمين على الطريقة الأوربية من رجال الحكومة
بأضرابهم، وإنما يكون ذلك في الغالب لأجل ضيف غريب يعلمون أن ذلك من
عادته، وقد يسألونه ويخيرونه، وفي بمبي يأكلون على الموائد المرتفعة , لكن
بأيديهم في الغالب، وفي الدعوات الكبيرة التي أقيمت لأجلي في بمبي رأيتهم
يضعون لكل أربعة أو خمسة مائدة صغيرة عليها صينية من النحاس , يجلس الناس
حولها على الكراسي ويأكلون بأيديهم كل طعام إلا المهلبية (ومثلها الكريمة)
فيضعون لأجلها ملاعق صغيرة يأكلونها بها , وهذه عادتهم في داخل الهند أيضًا،
وإنه ليوجد في دار الغني منهم عشرات من الصواني النحاسية والموائد الصغيرة ,
فقد أُدِبت لي عدة مآدب كان يحضرها مئات من الناس , وما حضرت مائدة على
الطراز الأوربي من كل وجه إلا مائدة الأمير الكبير راجا محمود آباد في لكنهو
حتى إن الآكلين الذين كانوا معنا عنده قد التزموا الأكل بالشوكة والسكين، وكنا في
ضيافة النواب الكريم فتح علي خان بلاهور نأكل على الأرض بأيدينا , ولكنه إذا
جاء ضيوف من الإفرنج أو المتفرنجين يعد لهم مائدة أوربية الطراز، وصديقي
الشيخ قاسم إبراهيم في بمبي يأكل على الطريقة الأوروبية أيضًا، وإنما الكلام في
عادات مسلمي الهند في دعواتهم , وكانت مائدتنا في ضيافة الشيخ الجليل النواب
وقار الملك في عليكره على الطراز الأوروبي كل يوم إلا أن الكثيرين كانوا يأكلون
معنا بأيديهم.
وقلما يوجد في داخل الهند أفران , ولعل ما يوجد منها خاص بالإفرنج حيث
يكثرون , وأهل الهند يخبزون في بيوتهم وأكثر خبزهم الرقاق , يخبزونه على
الحسيدة التي يسمونها في سورية (الصاج) ، ويليه الخبز التنوري.
ويكثرون في الطعام من الأقاوية والفلفل الأسود والأحمر , فيكون شديد
الحراقة يتألم من بعضه من لم يتعوده، ويكثرون أكل اللحم , ويقللون من الخضر
وهذا لا يوافق طبيعة بلادهم الحارة.
ومن عاداتهم في الدعوات والمآدب أن يضعوا في عنق الضيف بعد الطعام
قلادة من أنواع الزهر الذي يوجد في البلد، ويعطوه بيده باقة منها مؤلفة تأليفًا حسنًا
وهي التي يسميها المصريون الصحبة، فإن لم يوجد زهر يجعلون في عنقه قلادة من
الزهر الصناعي أو ما يشبه الزهر، ولا يستثنى من هذه العادة عالم ولا حاكم ولا
شيخ كبير السن، وقد بلغني أن الإنكليز جاروهم في هذه العادة ولا أدري أذلك قليل
فيهم أم كثير.
ومن عاداتهم أيضًا أن يعرضوا على الضيوف الطيبَ على صينية فيها أنواع
منه فيصيب كل ما يختار , ولكن هذه العادة غير عامة في الهند، ورأيت أهل
الكويت لا يتفرقون من دعوة ولا زيارة عادية إلا بعد أن يعرض عليهم أهل الدار
ماء الورد , ثم مجامر العود الهندي فيتعطرون ويتبخرون وينصرفون.
وأما تحفة أهل الهند للزائرين التي هي كالقهوة في مصر وسورية والعراق
فهي ورق البان (بالباء المفخمة) وهو شجر معروف عندهم , وقد ذكره ابن
بطوطة في رحلته , يمضغون هذا الورق في مجالسهم وفي الأسواق والشوارع وبعد
الطعام، ويضيفون إليه مواد أخرى منها شيء يسمونه (الفوفل) ويحدث من
مضغه لون أحمر أو برتقالي , فترى شفاهم وأشداقهم كأنها مخضبة بالحناء , أو
تحسب أنه يخرج منها الدم، ومنهم من يبقى ظهور هذا اللون في فمه لأيام،
ومن الطُّرَف التي سمعتها من علمائهم في ذلك , وهي من قبيل المثل في مدح الهند:
من دخل هندستان، وأكل الأنب والبان، نسي الأهل والأوطان , والأنب هو
الثمر الذي يسمونه في مصر (المنجو أو المنجا) بالجيم المصرية وهو اسمه
بالإنكليزية , وهو أجود فاكهة الهند , ويكثر فيها جدًّا ومنه الجيد والرديء
والوسط , وينضج في بعض البلاد قبل بعض، ففي شهر إبريل رأيت ثمرته في
البلاد التي مررت بها صغيرة خضراء في حجم حب المشمش , وكان يرد الكبير
الناضج منه إلى بمبي من بلاد أخرى، وهو في الهند أجود منه في مصر , فإن
أردأ ما رأيته منه في بمبي كأجود ما يوجد منه في مصر.
***
الحالة الاقتصادية
أعجبني من أهل الهند قلة استعمال الماعون الأوروبي , وعدم تقليدهم
للأوربيين فيما يتوقف استعماله على جرف ثروة البلاد إلى أوربة , وكذلك قلة
استعمالهم للأزياء الأوربية , فإن الكثير من النسيج الذي يلبسونه أو أكثره من
صنع الهند , وحسبهم الضرائب الفاحشة التي تأخذها الحكومة الإنكليزية منهم , ولو
كانوا في التفرنج كالمصريين لكان يندر أن يوجد فيهم غني أو متوسط في الثروة.
ينام الفقراء على الأرض وأهل النعمة واليسر على سرر من الخشب , ويقل
من هذه السرر ما كان سريرًا تامًّا تنصب عليه الكلة (الناموسية) , والكثير الشائع
بقوائم ليس لها عمد مرتفعة , ووسط مشدود بأمراس متشابكة قد تغني عن الفراش.
والصناعات الوطنية والمعامل المشيدة على الطريقة الأوربية كثيرة في الهند
وهي للأفراد وللشركات الوطنية , فالهند من هذه الجهة أرقى من مصر والآستانة
فما دونها من البلاد الشرقية , ولعله لا يفضلها إلا بلاد اليابان.
***
التعليم الدنيوي والديني
للحكومة مدارس كثيرة في جميع البلاد والتعليم فيها دنيوي محض؛ الغرض
منه نشر اللغة الإنكليزية وإعداد عمال صغار للحكومة، وتحويل الأفكار والقلوب
عما هي عليه من المقومات والمشخصات الاجتماعية والملية، وإشرابها عظمة
الدولة الحاكمة وترغيبها في العادات التي تروج تجارة أمتها في البلاد، فالتعليم في
هذه المدارس لا يرتقي بالأمة إلى أعلى من المقاصد التي وضع لأجلها، ولولا ذلك
لأمكن للحكومة الإنكليزية أن ترقي أهل الهند في هذه المدة التي استولت عليهم فيها
إلى الدرجة العليا، فقد علَّمت وربت منهم عدة أجيال , ولكن هذا ليس من المعقول،
وإنما المعقول هو الذي عملته فهو عين الحكمة التي قامت به مصلحتها، وثبتت
به سلطتها , ولدعاة النصرانية مدارس يقفون فيها عند حدود مدارس الحكومة في
التعليم الدنيوي , ويزيدون فيها تعليم الديانة النصرانية.
وللأهالي مدارس كثيرة أرقاها وأكثرها مدارس المجوس في بمبي والوثنيين
في بنغالة ثم في غيرها، ويذهب كثير من الوثنيين إلى مدارس أوروبة ومدارس
اليابان العالية فيتممون دروسهم , ويتعلمون من العلوم النظرية والعملية ما لا يوجد
في شيء من مدارس الهند , ولطائفة السنك من الوثنيين عناية بتعليم دينهم ونشره
بالدعوة إليه وتعليمه، وهذه نزعة جديدة لم تعرف عن أحد من وثنيي الهند من قبل،
وهم على وجود الأصنام عندهم موحدون، وقد أسمعنا كاهن منهم طائفة من كتابهم
المقدس , فإذا هو من أعلى الكلام في توحيد الله تعالى وتقديسه وتوجيه القلوب إليه
وحده، ولئن سألتهم عن هذه الأصنام ليقولن: إنها وسائط كقبور الأولياء عندكم،
وأما دين البراهمة فهو مبني على وحدة الوجود , وقد جرى بيني وبينهم في بنارس
حديث في ذلك علمت منه أنهم يعتقدون أن الأولياء الواصلين من المسلمين كشمس
الدين التبريزي وابن العربي إنما غاية عرفانهم هي الوصول إلى حقيقة دين
البراهمة , وسأشرح هذا في الرحلة إن شاء الله تعالى.
وأما المسلمون فتأخروا في البدء بالتعليم العصري عن جميع شعوب الهند؛
لأنهم كانوا أشد جفوة للإنكليز من غيرهم , وكان الإنكليز يرتابون فيهم ما لا
يرتابون في غيرهم، ويخشون جانبهم ويحذرون قيامهم عليهم؛ لأنهم كانوا أصحاب
السيادة والقوة قبل استيلاء إنكلترة على البلاد , ولم يزالوا كذلك حتى قام السيد أحمد
خان وأسس مدرسة عليكره بمواطأة الحكومة الإنكليزية وتعضيدها؛ لأنها رأت
الوثنيين قد ارتقوا ارتقاء مبينًا تُخشى عاقبته , وأنه لا بد من تهيئة المسلمين؛
ليكونوا مع الحكومة عليهم إذا هم خرجوا عليها، وقد لقي السيد أحمد خان في أول
العهد بالعمل مقاومة من المسلمين وتضليلاً وتكفيرًا من رجال الدين، ولكنه كان
يأوي إلى ركن شديد، فنجحت مدرسته وعضدها أغنياء المسلمين وأمراؤهم من
جميع الفرق والنحل، وطلابها الآن ألف ومئتان أو يزيدون.
جعلت الحكومة التعليم في هذه المدرسة محدودًا بالحدود التي أرادتها وجعلتها
تابعة لنظارة معارف إله آباد , فهي التي تتصرف في برنامجها كما تشاء، وكان
ناظرها ولا يزال إنكليزيًّا، وأما مجلس الأمناء الكبير الذي ينظر في شئون إدارتها
والمدبر الذي يسمونه (السكرتير) فكلهم من وجهاء المسلمين وأكبر الفائدة من
وجودهم جعل المدرسة موضع الثقة والمساعدة من المسلمين , وأما التعليم فيها
فمتوسط لا يصل إلى درجة العالي في الواقع ولا عرف الحكومة , فمن أراد الشهادة
بالتعليم العالي من المتخرجين فيها فيجب عليه أن يرحل إلى إنكلترة , ويتم تعليمه
فيها لينال هذه الشهادة , وقد توجهت الهمة أخيرًا إلى جعلها مدرسة كلية جامعة ,
ووافقت الحكومة على ذلك فجمعوا لها الإعانات من الأغنياء حتى تم المبلغ
المطلوب لذلك وهو ٣٥ لكًا من الروبيات الهندية تساوي ٣٣٣'٢٣٣ من الجنيهات
الإنكليزية , وبلغني أن الحكومة قيدت أو تريد أن تقيد المدرسة في هذا الطور بقيود
ثقيلة تجعل مجلس أمنائها أقل حرية واستقلالاً مما كان عليه من قبل، ولكنني فهمت
من فحوى حديث النواب وقار الملك خلاف هذا , فإن مما قاله لي: إن نصائحك
التي أودعتها خطبتك وما حثثت عليه من ترقية التعليم العربي والديني سينفذ عن
قريب عندما تحول المدرسة إلى كلية جامعة، فلعل من أخبرني ذلك الخبر يحكي
رأي الذين يسيئون الظن بالحكومة الإنكليزية , ويعتقدون أنها لا تمكن المسلمين من
الارتقاء الحقيقي وسيكشف المستقبل القريب الحقيقة في هذا، وموعدنا بإطالة القول
عن هذه المدرسة الرحلة.
وللمسلمين مدارس دنيوية أخرى أعظمها مدرسة (أنجمن حماية الإسلام) في
لاهور ثم مدرسة (أنجمن إسلام) في بمبي، وفي دهلي مدرسة كبيرة تسمى
(المدرسة العربية) كانت أنشئت؛ لأجل التعليم باللغة العربية وإحيائها، ووهب لها
أحد كبراء المسلمين في حيدر أباد مبلغًا كبيرًا من المال يصرف بواسطة الحكومة
الإنكليزية , وفيها مئات من الطلبة لا يعرف أحد منهم من العربية شيئًا، بل معلم
العربية فيها لا يعرف العربية! ! والعبرة في هذا أن الإصلاح لا يحصل بمجرد
بذل المال لأجله، ولا بوضع النظام الحسن له والقيام به، فمن أراد أن ينفع بماله
ويكون مصلحًا فليبحث عن المصلحين المخلصين القادرين على العمل بما يزجيهم
إليه إخلاصهم , وليساعدهم عليه، فكم وقف سلفنا من الأرض والعقار على العلوم
والأعمال النافعة , فذهبت أوقافهم وضاعت لفقد العاملين المخلصين.
هذا وإن الحكومة الإنكليزية موجهة بعض عنايتها في هذه الأيام إلى توسيع
نطاق تعليم اللغة العربية في الهند ومساعدة المسلمين على ذلك، كما أن كثيرًا من
الإنكليز يعنون بتعلمها وقد سرني هذا جدًّا , ونوهت به وأثنيت على الحكومة لأجله
في مجالسي وخطبي في المحافل والمدارس , ورأيت بعض المسلمين مرتابين في
سببه , فبعضهم يظن أنها تريد به أن تشغل كثيرًا منهم عن إتقان الدروس الإنكليزية
التي تؤهلهم لخدمة الحكومة؛ ليقل عدد طلاب الوظائف منهم، وهذا رأي ضعيف,
والأقرب عندي أن سببه سياسي وهو طمع هذه الحكومة بالاستيلاء على البلاد
العربية في الخليج الفارسي وغيره , فهي تعد مسلمي الهند للوظائف في هذه البلاد
لا أنها تريد به صرفهم عن الوظائف كما يظن بعضهم، وأنا لم أفشِ هذا الرأي في
الهند؛ لأنني كنت أتحامى السياسة فيها بقدر الإمكان , وأن كل مسلم عاقل يسره أن
ينتشر تعليم العربية في الهند مهما كان سبب عناية الإنكليز به؛ لأن تعليم العربية
يقوي الدين الإسلامي نفسه ولا ضرر فيه ألبتة، ولا دخْل له في تقوية مطامع
الإنكليز في العراق واليمن , ولا يمكن أن يكون سببًا ولا جزء سبب في نيل
مطامعهم هذه، وإنما مدار هذا الأمر على سياسة الدولة العثمانية صاحبة السيادة
على هذه البلاد وإدارتها , فإذا هي أحسنت الإدارة والسياسة وعنيت بأمر القوة
المحلية في جزيرة العرب وَقَت البلاد من الاستيلاء الأجنبي , وإلا فالخطر الواقع
واقع ما له من دافع.
أما رأيي في القوة التي يجب أن تعدها الدولة لوقاية جزيرة العرب فهي تعميم
تسليح العشائر والقبائل فيها , وإرسال ضباط إليهم يعلمونهم النظام العسكري
والأعمال الحربية ولا سيما حرب العصائب، وأن تقر جميع الأمراء والزعماء في
الجزيرة على ما كانوا عليه من الرياسة في قومهم، وتستعين بهم على ما تريد من
تعميم القوة في بلادهم , وقد بينت هذا الرأي في المنار من قبل , وذكرت به بعض
رجال الدولة، ويؤيده ما جرى في طرابلس الغرب , ولا خوف على الدولة ولا على
سيادة العنصر التركي فيها من ذلك , وقد ازددت بسياحتي هذه في البلاد العربية
إيمانًا ويقينًا بما كنت أعتقده من قبل من إخلاص العرب للدولة العثمانية واستعدادهم
لبذل أرواحهم في سبيلها , وأن إظهار ثقتها بهم لمما يقوي هذا الإخلاص في أنفسهم
ويسرع بإظهار ثمراته فيهم.
إن الدولة الإنكليزية قد اشتدت في منع إدخال السلاح لليمن ولعمان والعراق
من عدة سنين , وهي تسعى الآن بجمع السلاح من العراق وسواحل الخليج وعمان
حتى إنها تشتريه بالثمن , فهل عرف رجال الدولة هذا , وفكروا في أسبابه وحكمته،
وفي عاقبته ومغبته؟
وكتب في البصرة في جمادى الثانية سنة ١٣٣٠
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))