للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة الشرقية
سلسة مقالات لنا نشرنا ستا منها في المجلد الرابع عشر
(٧)
الجهاد في الإسلام
يقع الخلاف والنزاع والعداء بين البشر بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد،
وأعم أسباب سوء الفهم والتفاهم اختلاف المواضعة والاصطلاح: يطلق زيد
القول بمعنى فيفهمه عمرو بمعنى آخر فيؤاخذ زيد عليه، ويرى زيد أن قوله لا
يقتضي المؤاخذة وهو مصيب في هذا الرأي، وأن عمرًا ما آخذ، عليه إلا لسوء
أراد به، ونية رديئة أضمرها له، وإلا لم يؤاخذه على الصواب، وهو مخطئ في
هذا الرأي لأن عمرًا إنما آخذه؛ لأنه فهم من قوله ما لم يرد هو به.
واختلاف المواضعة والاصطلاح الذي قلنا: إنه أعم وأكثر أسباب سوء الفهم
له مناشئ متعددة، فإن اللفظ الواحد يكون به معنى أو عدة معانٍ في أصل اللغة،
ومعنى آخر في اصطلاح الشرع، ومعنى آخر أو أكثر في اصطلاح بعض العلوم
والفنون، ومعنى آخر في العُرف العام، ومعنى آخر في العُرف الخاص ببلد من
البلاد أو طائفة من الطوائف كالكتاب أو الفقهاء مثلاً. وقد قال علماؤنا (لا مشاحة
في الاصطلاح) وهذه الكلمة تجري دائمًا على ألسنتنا وأقلامنا ولكن لا يكاد يعامل
بها أحد منا غيره. فنحن في مشاحات وملاحاة لا تنقضي. وقد يكون غير معذور
ولكن البيان هو الذي يقطع التعلات والأعذار.
من الألفاظ التي من هذا القبيل لفظ (الجهاد) في الإسلام والظاهر لنا أن
بعض النصارى يفهمون أن المراد به اتفاق المسلمين كافة على قتال أو قتل كل من
ليس بمسلم سواء كان محاربًا لهم أم لا , وهذا المعنى ليس مدلولاً له في اللغة
العربية ولا في عرف القرآن والسنة ولا اصطلاح الفقهاء، وربما سرى فهمهم هذا
إلى بعض المسلمين الذين يجهلون اللغة والشرع ويأخذون المسائل الدينية من
المعاشرين لهم، وإن لم يكونوا من أهل دينهم، وكذا من جرائدهم.
ومنهم من يفهم من الجهاد القتال باسم الدين أو لأجل الدين ويقسمون الحرب
إلى دينية ومدنية ويفرقون بينهما بالتسمية وإطلاق لفظ الجهاد على الحرب الدينية
فقط، ويخصونها بالذم والتشنيع والتنفير. كأنهم الحرب التي يسمونها مدنية من
طرق الكسب والتجارة المحمودة، ويرون أنه لا حرج على من يحارب قومًا
يستضعفهم ليزيل استقلالهم ويجعلهم كالعبيد المسخرين لأبناء جلدته.
نشر أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة) مقالاً فيها ذكر فيه أن الحركة
الحاضرة بمصر الموجهة لإعانة الدولة العثمانية على حرب إيطالية قد ظهرت
بشكل الجهاد الديني أو الدعوة إلى الجهاد الديني، وأن هذا خطأ ضار بمصر ,
فساء قوله هذا جميع من ذكره أمامي من المسلمين، وسر جميع من ذكره من
النصارى. وما رأيت الكُتَّاب والباحثين في السياسة من هؤلاء حمدوا لمدير هذه
الجريدة غير هذا المقال. وقد اجتمعت في بعض السُّمَّار بطائفة منهم وخضنا في
هذه المسألة وكان مما ذكرته أن الجهاد ليس بالمعنى الذي يفهمونه، ولا أدري أي
معنى قصد به مدير الجريدة ولكنني أجزم بأن اتهام المصريين بالتأليب على
النصارى كافة والدعوة إلى قتالهم باطل، ويمكنني أن أحلف على أنني لا أعرف
أحدًا من المسلمين على هذا الرأي ولا سمعت الدعوة إليه ولا استحسانه بل ولا ذكره
من أحد منهم. ثم ذكرت معنى الجهاد في اللغة والقرآن، وورود ذكره في كتب
النصارى، فاقترح عليَّ بعضهم أن أكتبه وأنشره في المؤيد فقبلت الاقتراح ولم أُتم
ما بدأت بشرحه في السامر.
الجهاد والمجاهدة مصدر جاهد، وهو بناء مشاركة من مادة الجهد أي التعب
والمشقة (ومن هذه المادة الاجتهاد أيضًا) وصيغة المشاركة تُشعر بأن الجهاد عبارة
عن احتمال الجهد والمشقة في مقاومة خصم أو عدو، فلا يدخل في معناه حرب مَن
لا يحارِب وقتل من لا يقاتل إذ لا مشاركة في ذلك.
قال الراغب في مفرداته التي شرح بها غريب القرآن أدق الشرح ما نصه:
(الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو (تأمل قوله: مدافعة)
والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس،
وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: ٧٨) ،
{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: ٤١) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: ٧٢) {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: ٧٢) وقال
صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) المجاهدة تكون
باليد واللسان قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم) اهـ
كلام الراغب، ولا أذكر من أخرج هذين الحديثين، ولكن روى الإمام أحمد وأبو
داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وجاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) وقد ذكر لفظ الجهاد في القرآن
بمعنى المعالجة والمكابدة في مواضع لا تحتمل معنى الحرب كقوله تعالى:
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: ١٥) يعني الوالدين , وأكثر أحكام الحرب ذُكرت في
القرآن بلفظ القتال؛ لأن لفظ الجهاد ليس نصًّا في معنى الحرب والقتال، ولم تذكر
مادة الحرب فيه إلا قليلاً ولم تسند إلى المسلمين. وكل ما ورد في أحكام القتال في
القرآن كان المراد به مدافعة الأعداء الذين يحاربون المسلمين لأجل دينهم منها ما هو
صريح في ذلك كقوله تعالى في سورة الحج وهو أول ما نزل في القتال:
} أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ (الحج: ٣٩) وقوله
في سورة التوبة، وهي آخر ما نزل في أحكام القتال:] أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (التوبة: ١٣) قوله] أَيْمَانَهُمْ [بفتح
الهمزة ومعناه عهودهم، وذلك كما فعلت إيطالية الآن فهي من الدول المعاهدة، وقد
نكثت العهد وبدأتنا بالقتال. ونزل فيما بين هاتين الآيتين آية البقرة
] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [ (البقرة: ١٩٠) .
وما ليس بصريح مثل هذه الآية يمكن أن يحمل عليه بقرينة الحال فإن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مع من حوله في حرب هم المعتدون فيها وكان يعاهد كل
من يقبل معاهدته على ترك الحرب مهما ثقل احتمال الشروط، وما عاهده أحد من
المشركين أو اليهود إلا من عَلِمَ منهم بأنهم أضعف من المسلمين، ثم هم الذين كانوا
ينكثون عندما يشعرون بقدرة، ويصادفون غرة، كما فعلت اليهود غير مرة، وكما
فعلت قريش بعد صلح الحديبية.
ويحمل على ذلك أيضًا ما ورد من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء والإلقاء إليهم
بالمودة سواء ورد ذلك في المشركين وأهل الكتاب أو عامًّا كما صرح بذلك في
سورة الممتحنة فقد قال تعالى في أولها:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [ (الممتحنة: ١) أي يخرجونكم من وطنكم مكة
ويطردونكم منها بسبب أنكم آمنتم بالله ربكم، فهذه علة أولى للنهي عن ولايتهم أي
نصرتهم وعن مودتهم، والعلة الثانية بينها في الآية الثانية فقال:] إِن يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [ (الممتحنة: ٢) ثم قال بعد آيات:] لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (الممتحنة:٨،٧)
فلم يكتفِ بنفي النهي عن موالاة ومودة غير المقاتلين المعتدين، وحصر الوعيد
فيمن يتولاهم، فإن كلمة] إِنَّمَا [للحصر وجملة:] أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [تفيد الحصر
أيضًا.
هذه جملة أحكام القتال في القرآن المتعلقة بمن يقاتلون، وهي في منتهى العدل
والحكمة، وبينا أن لفظ الجهاد فيه ليس مرادفًا للحرب والقتال، ولكن الفقهاء
اصطلحوا على تسمية القتال جهادًا، وهذا اللفظ ألطف وأخف من لفظ القتال ولفظ
الحرب؛ لأن معناه يتحقق ببذل الجهد في مقاومة لا يقتل فيها أحد أحدًا، والقتال
ليس كذلك إذ لا يتحقق معناه إلا بسفك الدم.
كل هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وقد زال من دونها كل
سحاب، فمن أين صار لفظ الجهاد الإسلامي هو المخيف الدال على الظلم والبغي
والوحشية وذبح الأبرياء من أهل السلم والولاء؟ أليس هذا من تعصب غير
المسلمين على المسلمين بتشويه محاسن دينهم وتحريف آياته عن مواضعها، وقلب
معانيها وتغيير أوضاعها، أو من الجهل بها على الأقل.
هذا وإن لغير المسلمين مع المسلمين أربع حالات ينقسمون بها إلى أربعة
أقسام:
١- أهل الذمة: وهؤلاء يساويهم الإسلام بأهله في الحقوق ويوجب حمايتهم
والدفاع عنهم إذا اعتدي عليهم وسد ضروراتهم، فإذا وجد فيهم من لا يقدر على
قوته كفوه أمره، وكذا غير القوت من الضروريات.
٢- أهل عهد وميثاق كجميع الدول الآن بعضها مع بعض ما عدا إيطالية مع
دولتنا، فهؤلاء تجب مسالمتهم والوفاء لهم بعهدهم كما هو، حتى إنه إذا حاربهم
بعض المسلمين غير الداخلين في جماعتنا العامة التي عاهدتهم واستنصرونالا
ننصرهم كما في الصورة التي بيَّنها الله تعالى في أواخر سورة الأنفال بقوله:
] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ
اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ (الأنفال: ٧٢) .
٣- أهل أمان وهم الذين يكونون أو يدخلون في بلادنا من المحاربين لنا
بالأمان على أنهم لا يعتدون على أحد ولا يعتدي عليهم أحد، ويسمون المستأمنين،
ويجب الوفاء لهم بالأمان.
٤- أهل حرب أو محاربون وأحكامهم طويلة، وكل ما ثبت منها في الكتاب
والسنة فهو مبني على قواعد العدل والرحمة. ومنه أن لا يقاتل إلا من يباشر القتال
فيمتنع قتال الشيوخ والولدان والنساء ورجال الدين المنقطعين للعبادة.
ومما ورد في ذلك الآية التي أساء في تفسيرها لورد كرومر وكأنه تبع في ذلك
بعض القسوس أو السياسيين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه عمدًا، تعصبًا منهم
وبغيًا، وهي قوله تعالى:] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: ٤) فهذه الآية من
آيات الرفق والرحمة في الحرب، والمسلمون متفقون على أن المراد بقوله تعالى:
] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ (محمد: ٤) لقيتموهم في المحاربة، وحاصل معنى
الآية أنكم تقتلون من تقدرون على قتله إلى أن تظهروا عليهم بالإثخان فيهم فعند ذلك
اتركوا القتل، واكتفوا بالأسر، وأنتم مخيرون بعد ذلك بين أن تمُنّوا على الأسرى
بإطلاقهم فضلاً وإحسانًا، وبين أن تأخذوا منهم فداءً. هكذا يكون شأنكم حتى تضع
الحرب أوزارها أي أثقالها أو آثامها. قال:] وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [ (محمد: ٤) فأمركم بجعل القتل على قدر الضرورة، وهو أن تأمنوا شرهم بالظهور
عليهم] لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [ (محمد: ٤) أي: ليختبر بعضكم ويجربه
بمعاملة الآخر بما يخالف هواه ويوافق المصلحة، ويتفق مع العدل والرحمة، بجعل
الحرب ضرورة تقدر بقدرها. هذا هو معنى الآية التي يشوهون بها جهاد الإسلام،
وهي شرف يفتخر به بين منصفي الأنام.
إذا محاسني اللاتي أدل بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر

طال المقال فزاد على ما قدرت له ويمكنني أن أؤلف في هذه المسألة كتاباً
حافلاً يفتخر به كل مسلم، ويخذل به كل متعصب سيئ النية والقصد، وحسبك من
القلادة ما زين النحر.
فإذا كان هذا هو الجهاد والقتال في الإسلام، وكان كل ما خالفه من حروب
ملوك المسلمين خروجًا عن هدي الدين في حروب كلها مدنية لم تقصد بها حماية
دعوة الإسلام إذا تركوا الدعوة بعد عصر السلف، فلماذا تقوم القيامة على المسلمين
كلهم إذا ذكر واحد منهم لفظ الجهاد أو حرفًا مما اشتق منه، ويعد هذا خطرًا على
النصارى أصحاب الدول الحربية القوية التي تحميهم وتنتصر لهم أينما كانوا ولو
بالباطل؟ ولماذا يحرض غير المسلمين بعضهم بعضًا على سلب مُلك المسلمين
والتنكيل بهم، وينفذون ذلك بالفعل، ولا يعدونه إثمًا ولا حرجًا، وإنما ينحصر
الإثم والحرج في الشكوى منه، حتى صار المسلمون أنفسهم يحجر بعضهم على
بعض أمثال هذه الألفاظ، التي لا ضرر فيها ولا ضرار، ولا تدل على جواز ذرة
من الظلم والعدوان؟
لو كان في كتابنا الإلهي من القسوة في أحكام الحرب مثل ما في التوراة التي
في أيدي أهل الكتاب لما كتمناه ولما تبرأنا منه كقوله في سِفر تثنية الاشتراع:
(٢٠: ١٦ وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تَسْتَبْقِ
منهم نسمة ما) بل يوجد في أناجيلهم من النصوص القاسية ما لا يوجد في القرآن
مثله كرواية لوقا عن المسيح - عليه السلام - في الفصل التاسع عشر ونصها (أما
أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) ولفظ
الجهاد الممقوت عند القوم ومقلدتهم؛ لأنهم يعدونه إسلاميًّا يوجد أيضًا في كتبهم
كقول مقدسهم: بولس (٢ تيم ٢: ٥ لا ينال أحد الأكاليل إلا ويجاهد جهادًا شرعيًّا)
وقوله (تيم ٦: ١٢ جاهد جهاد الإيمان الحسن، وأمسك بالحياة الأبدية التي
إليها دعيت) يقولون: إن المراد بهذا جهاد النفس والشيطان، ونحن قد قال علماؤنا
مثل هذا في جهاد القرآن كما تقدم، وكان سلفنا يسمون جهاد النفس الجهاد الأكبر،
وجهاد العدو الجهاد الأصغر، وروي هذا عن الصحابة رضي الله عنهم.
إني أختم مقالي هذا بذكر شيء مما يقال فينا، وما يحرض به علينا، وأعيذ
المسلمين منذ وجدوا إلى اليوم وإلى آخر الزمان من مثل ذلك.
جاء في العدد ٨٤٣ من جريدة (وقت) الروسية التي صدرت في ١٨ سبتمبر
(أيلول) بالحساب الشرقي ما ترجمته:
جاء في برقية من بودابست أن فمبري المستشرق المشهور كتب مقالة في
جريدة (بودابست هيرلاب) قال فيها: إن حماية الإسلام بعد الآن خطأ لا يفيد فائدة
ما، وهو سيفنى ألبتة ولا يستحق غير الإفناء، المدنية توجب أن تنقرض من
ممالك الإسلام عدوة المدنية. المسلمون قوم لا طبيعة لهم ولا يعرفون كلمة الطبيعة
هم يعبدون ولكن لا يعملون، ولا شيء فيهم من الحياة غير شعورهم الديني،
وليس لهم مسلك (مبدأ) ولا مقصد , ولا ينبغي أن تهتم جد الاهتمام بدستور تركية
فإن حالها الآن شر مما كانت عليه، واحتمال حياة ثلاثمائة مليون مسلم خيال باطل
لا شائبة للحقيقة فيه اهـ.
وقد تعجبت جريدة وقت من قول فمبري هذا؛ لأنه مشهور بمحبة الترك
والمسلمين وقالت: إنه يجب التأمل فيه، ونحن نقول إذا كان هذا قول من يحبنا
منهم فهل يقول أحد من المتهمين منا بالتعصب وبعض الأغيار مثله أو قريباً منه.
يقولون يجب إعدام هؤلاء الملايين من المسلمين باسم المدنية وفي روسية
ملايين من النصارى هم أبعد عن المدنية من مسلميها ومسلمي العثمانيين فلماذا يجب
لهم البقاء؟ إذا كان مثال المدنية ما فعلته إيطالية فالصلاة والسلام على التوحش
والهمجية.
بل قال بعض أساطين السياسة مثل كلام هذا المستشرق أو أشد، منهم الأستاذ
مكسيليان هاردن صاحب جريدة (زنكفت) النمسوية قال في خطبة له أرسل
ملخصها مكاتب التيمس في فيينا إلى جريدته فنشرت فيها (أنه لا توجد دولة تقدر
أن تساعد الحركة الحاضرة التي تسوق الإسلام إلى الوراء، ثم قال: إن الإسلام
دين خطر وبقاؤه خطر، وإني على رأي أن كل ولاية أخذت من الإسلام فهي غنيمة
للدول الأوروبية) .
هكذا يقولون جهرًا في خطبهم وجرائدهم ولا نزال نغش أنفسنا بقول الذين
يسخرون منا من الإفرنج والمتفرنجين بزعمهم أن هذه الحرب لا علاقة لها بالدين
ولا يقصد بها المسلمون لأجل دينهم.
يقولون المنكر ويفعلونه ويمدحون أنفسهم عليه، ونقول الحق فنلعن عليه
ونهدد. ولا ندري ماذا بقي عندهم من التهديد فنخافه، أولئك عبيد القوة القاهرة،
ولو أنهم أقوياء لما سموا حقنا باطلاً، بل كانوا يسمون ما ربما تدفعنا إليه القوة من
الباطل عين الحق ولباب الفضيلة، والإسلام نفسه هو المظلوم المهضوم بيننا وبينهم،
نحن تركنا هدايته وجنينا عليه، وهم جعلونا حجة عليه، حتى أقنعوا أبناءنا الذين
تولوا تربيتهم المادية الشهوانية وتعليمهم الفاسد في مدارسنا ومدارسهم بأن يلصقوا
ذنوبهم بالإسلام ويصدون عنه على علم أو جهل.
إذا عوقب جناة النصارى أو تعقبت عصاباتهم الثورية في مكدونية قامت
أوروبة لهم وقعدت، وأرغت وأزبدت، وإذا أظهرنا التألم من تدمير مدافعهم لبلادنا
وحصدها لإخواننا، نلعن على تعصبنا، فإلى متى يبغي الأقوياء، وينخدع
الأغبياء، ربنا افصل بيننا بالحق وأنت خير الفاصلين.
... ... ... ... ... ... ... فى ٢ ذي القعدة سنة ١٣٢٩
((يتبع بمقال تالٍ))