للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: إسعاف النشاشيبي


خطبة الأستاذ إسعاف أفندي النشاشيبي
مفتش معارف فلسطين، وعضو المجمع العلمي العربي في الشام

ألقيت في دار الجمعية الجغرافية الملكية بالقاهرة العربية
وشاعرها الأكبر أحمد شوقي بك
ليست دار العربية رمال الدهناء , أو هضبات نجد , أو الحجاز , أو إقليم
الشام , أو أرض العراق , بل دارها كل مكان ينطق بالضاد أهله، ويتلو فيه كتاب
محمد - صلوات الله عليه - قراؤه.
وأقوى القوم عربية بل العرب العرباء أعرفهم بأدب العربية , فأهل مصر إذًا
هم القبيل المقدم في العربية , وهم سادات العرب.
وليست اللغة العربية يا أيها الراجع من لندن , أو من برلين , أو من باريس ,
وقد لبث في تلك المدائن حينًا؛ ففتنته مدنية المغاربة السحرة ليست اللغة العربية
بلغة بدوية، بلغة صحراوية، حتى تعرض عنها إعراضك هذا , وحتى تؤثر عليها
غيرها حين جهلتها، ولكنها لغة سَامِيَةٌ سَامِيَّةٌ - إن كان ثمة سامٍ - قد نشأت من
قبل في جنات النعيم عند دجلة , ولم تنبت في القفر فتظمأ وتضحى، وقد جاورت كل
ذات مدنية (* إن العلا تعدي *) كما قال أبو تمام، وقد سطر أيوب الصابر بها في
ذلك الزمان سفره , أو قصيدته (كما قال فولتير في المعجم الفلسفي) وسفر أيوب
أجمل سفر في التوراة، وأيوب العربي كهومير هو من أكبر شعراء العالم.
ثم جاءت هذه اللغة مواطن الحجاز (وكم في الهجرات من خيرات) , فنشأها
الدهر هنا أفضل تنشئة , وهذبها خير تذهيب.
وإن البيئة التي أخرجت في الدنيا عظيمها هي التي جلت لغته , ولن تكون
لغة ذلك العظيم لغة محمد صلى الله عليه وسلم إلا عظيمة. على أن قد تخبث البيئة
بعد طيبها وصلاحها , فلا تقذف إلا خبيثًا {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} (الأعراف: ٥٨) كما قال الله.
ليست العربية بلغة بدوية صحراوية (كما قالوا لك) , بل هي اللغة الحضرية
كل الحضرية , بل هي (إن استكثرت هذا النعت) لغة الأناسية الكملة الألى سوف
يخلفون هذا الإنسان بعد أزمان كما خلف هو قدمًا الذين هم أدنى منه من جماعة
الربابيح المحاكية.
ولقد دعا العربية من قبل قرآنها (وهو القرآن هو القرآن) ؛ لتكتب معجزاته ,
فما وهنت , ولا عجزت , ولا ضاقت , بل اتسعت , وهذا الكتاب , وهذه آياته ,
وهذه ألفاظ في المصاحف تتكلم , وهذه معاني الكتاب , الكتاب العبقري , كتاب
الدهر، قد تجسدت , وتجسمت , وعهدنا بالمعاني معنوية لا تتجسم , فلن تعجز لغة
كتب بها الله [١] كتابه عن أن يكتب بها البشر.
ولقد دعا العربية في الزمان الأول كل علم وكل فن - ولا كتاب علم واحدًا عند
القوم في ذاك الوقت - فلباهما منها خير ندب وخير ظهير، وشهد الأقوام في برهة
من الدهر أكداسًا من الكتب مكدسة بل أجيالاً.
قال غستاف لوبون في فاتحة كتابه مدنية العرب: (إذا بحث الباحث عن آثار
العرب في العلم , وعما ابتدعوه؛ علم أن ليس هناك أمة ضارعتهم , فجاءت في
الزمن القصير بمثل صنعهم الكبير) .
فلو لم يك عند العربية عساكر من الثروة في اللفظ والأسلوب؛ ما أنفقت هذا
الإنفاق على علوم أصحابها , وعلوم سواهم , والفقير المسكين في الدنيا (يا
صاحب) لا يقدر أن يعول نفسه , بله أن يمون الناس.
وقد أغرق التتر طوائف من تلكم الكتب في النهر , وحرق الأسبان نفائس منها
بالنار , لكن الباقي (والحمد لله) كثير , وجلت العرب عن أن تجرم إجرام ذينك
الجيلين.
وكذاب أي كذاب من قال: إنا حرقنا دار كتب في الإسكندرية. وكيف يقرفنا
القارفون بهذا ظلمًا , وما ندب الناس إلى العلم كمثل كتابكم كتاب، ولا دعا إلى
التفكير , وحب الدنيا كزعيمكم محمد زعيم.
وآوى إلى هذه العربية في آونة كثيرات كل أديب , وكل عالم , وكل شاعر ,
وكل كاتب , فبوأت معانيهم في أكرم مبوأ , وألبستها أفتن ثوب , وقرتها (وهي
المضيافة , وهي الكريمة بنت الكرام) خير قرى , فاجتلى الناس من تلكم المعاني
السماويات، في هذى الحلل العدنيات، حورًا عينًا رضوانيات.
فإذا لاقيتم في عصور المولدين , أو في عصور المتأخرين قبحًا في القول
يمض الأذن أن تسمعه , وتقتحمه العين إما أبصرته.
وإذا ألفيتم كلامًا بهرجًا قد وهت أعضاده , وتشوه تركيبه , وفقد ذاك الرونق.
وإذا وجدتم شعرًا سخيفًا قد عميت معانيه، وقد استعجم على تاليه، وإذا
سمعتم سجعًا غير طبيعي مرتجًا زحافًا متدحرجًا قد لعنته العربية - إذا وجدتم ذلك؛
فلا تلومن العربية , ولا تتنقصنها، ولوموا أمة ضعفت؛ فضعف قولها، وذلت؛
فذل شعرها، وحارت في دنياها؛ فاستجار كلامها.
لا تلوموا العربية , ولوموا أمة ركضت إلى الدعة - قبح الله الدعة - ثم قعدت.
ليس المروءة أن تبيت منعمًا ... وتظل معتكفًا على الأقداح
ما للرجال وللتنعم إنما ... خلقوا ليوم عظيمة وكفاح
(والحركة - كما قالوا -: ولود , والسكون عاقر) , وقد قال أبيقور: أي
معنى للكون بالسلم لفقدان الحركة؟ ولام هذا الحكيم (المظلوم والله بتلك التهمة)
هومير حين سأل الآلهة أن تصطلح كي تزول الحروب.
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا
وفريدريك ننشه، يرى أن عمل الرجال إنما هو القتال , وعمل النساء هو
تمريض الجرحى , ولا عمل لهما غير هذا.
وليس القصد يا بني أن تغلب , أو أن تغلب , بل القصد أن تكون حرب، أن
تكون حركة.
ألا أيها الباغي البراز تقربن ... أُساقِكَ بالموت الذُّعَافَ المُقَشَّبَا
فما في تساقي الموت في الحرب سبة ... على شاربيه فاسقني منه واشربا

لا تلوموا العربية , ولوموا أمة تعبدها حاكمها , وتفرعن عليها , و (استجار
كيدها وعدا مصالحها) كما قال ذاك الشيخ , فلم تغضب , ولم تمش إليه بالسيف ,
وقد علم أوائلها التلميذ الثاني لشائد الوحدة العربية طريقة تقويم الملوك.
لا تلوموا العربية , ولوموا أمة صغرت هممها , وتضاءلت عزائمها وتهزعت
(تكسرت) أخلاقها (يا أسفى على صوادق الأخلاق , يا أسفى على الأخلاق
الجيدة) , وكان ابن الخطاب يقول لها: (ولا تصغرن هممكم , فإني لم أر أقعد عن
المكرمات من صغر الهمم) , وكان معاوية كاتب وحي النبي يقول: (يا قوم، إن الله
قد اختاركم من الناس , وصفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها ,
فصونوا أخلاقكم , ولا تدنسوا أعراضكم , فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه،
والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه) .
لا تلوموا العربية , ولوموا أمة اجتزأت بالقليل , وقنعت من دهرها بالدون ,
وأنامها (قتلها) هذا القول الخبيث الأفيوني الكوكيني: (القناعة كنز لا يفنى) ,
وكانت ما ترضى قبل من شيء الكثير، وكانت ما تقبل حالاً وسطًا، لا شيء أو
كل شيء كما يريد نتشه.
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقالوا: عليك وسيط الأمور ... فقلت لهم أكره الأوسطا
وكان دستورها في دنياها: (القناعة من طباع البهائم) , و (عليك بكل أمر
فيه مزلقة ومهلكة) ؛ أي: بجسام الأمور.
وصاحب هذا القول الكريم هو ابن مصر صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم سيدنا عمرو بن العاص (سلام الله عليه ورضوانه) .
وقد راع تقهقر هذه الأمة , وتدهورها حين تقهقرت وتدهورت شاعريها
الأكبرين في عهد انحطاطها؛ فأنكرا الحال , واستفظعاها , وراح ابن الحسين يقول:
أحق عاف بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهدًا بها القدم
وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب ... ولا عهود لهم ولا ذمم
في كل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم
وقعد رهين المحبسين في كسر بيته:
يكفيك حزنًا ذهاب الصالحين معاً ... وأننا بعدهم في الأرض قطان
إن العراق وإن الشام مذ زمن ... صفران ما بهما (للعدل) سلطان
ساس الأنام شياطين مسلطة ... في كل قطر من الوالين شيطان
من ليس يحفل خمص الناس كلهم ... إن بات يشرب خمرًا وهو مبطان
متى يقوم (زعيم) يستقيد لنا ... فتعرف العدل أجيال وغيطان
صلوا بحيث أردتم فالبلاد أذى ... كأنما كلها للإبل أعطان.
فليست اللغة العربية (والحالة في تلكم العصور كما سمعتم عنها) بمستأهلة
أن تلام , أو أن تعاب , فإنها لابست ضعفاء؛ فلبست كساء ضعف، وعاشرت
وضعاء؛ فارتدت شعار ضعة، وما الضعف وما الضعة (والله) من خلائقها.
ولو استمرت تلك القوة , ولو استمرت تلك المدنية , ولو لم يكن ما كتب في
اللوح أن يكون لملأت بدائع العربية الدنيا، فإنها معدن البدائع، ومنجم كل عبقري
رائع.
على أن لغة العلم في العربية (وللعلم لغة وللأدب لغة) لم تضم ضيم أختها ,
وما المقاصد والمواقف , وشرحاهما , وأقوال ابن الخطيب , ومقدمة ابن خلدون
(على مغربيتها) , وكلها في العصور المتأخرة بالتي تذم (في أسلوب اللغة العلمي)
جملتها.
ويخيل إلي أن نفوس الحكماء العلماء تكون في أحايين الضعف أقوى من
نفوس الأدباء، فلا تهن وهنها، ولا تهون هوانها، أو كأن العلماء في الدنيا وليسوا
في الدنيا , ومن الناس وليسوا من الناس , وقد يلاقي هؤلاء القوم المساكين ربهم , ولا
أثر لحوادث دهرهم فيهم، وقد يقتحمون ميادين الحياة؛ فيتأخرون ولا يتقدمون , وكل
منهم ينشد متحسرًا:
وأخرني دهري وقدم معشرًا ... على أنهم لا يعلمون وأعلم
يئست من اكتساب الخير لما ... رأيت الخير وُفِّرَ للشرار
وربما لبسوا التبان للمصارعة؛ فيصرعون، وقد نازل أمس صاحبنا ولسن
ذينك العفريتين لويد جورج , وكلمنصو , فعقلاه عقلة في السياسة شغزبية [٢] ,
فصرعاه سريعًا {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} (طه: ٨٦) كما قال الله،
وأضحى جميع الناس ضحكة , ثم قضى كمدًا.
***
أين الأمم المحررة يا ولسن؟
ليست العربية يا سادة بالمقصرة , ولا العاجزة , وليس الضعف , وليس
العجز , وليس القبح من طبائعها.
وقد كانت تنشد في هذا الدهر الأطول في أرجاء الأرض كافة هممًا بعيدات،
ونفوسًا سرياتٍ أبِيَّاتٍ، وارتقاء في أمة عربية وعلاء، كيما تتجلى في الدنيا تجليها،
وكي تضيء كعادتها إضاءتها، فلما ألفت في أرض مصر مرغبها، لما وجدت
(محمدًا ومحمودًا) ظهرت , بل ائتلقت , بل قد تحاقر عند ضياها نور الشمس ,
فكان (يوم التجلي) كما يقول إخواننا النصارى , وكان عيده , وأصبحت الدنيا ,
وقد علت كلمة العربية , وأعلن الدهر سلطانها.
وغدا محمود سامي يحمل الشعر , ويبشر الحال برسول في القريض يأتي من
بعد محمود اسمه (أحمد) , ولا تسأل يا هذا قوة سامي الشعرية أن تعطيك أكثر
أكثر مما أعطتك , فبحسبك ما أخذت , وحسب الرجل ما جاء منه، ولا تجود يد إلا
بما تجد.
وغدا الشيخ محمد عبده يحمل علم النثر , ويد جمال الدين عند محمد , وعند
مصر , وعند المشرق لا تكفر.
* فاذكر في الكتاب جمال الدين *
وأثن عليه بالذي هو أهله ... ولا تكفرنه لا فلاح لكافر
إن جمال الدين لم يكن شخصًا فذًّا، إن جمال الدين كان أمة، وإنه لم يتنبه
من أمم الشرق في ذاك الوقت إلا أمتنان لا ثالثة معهما , الأولى: هي الأمة اليابانية
والأمة الثانية: هي جمال الدين , فجمال الدين أمة وحده.
وقد أراد ابن الحريري في البدء، أن يقتل الإمام , فنجاه كتاب الله , وحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
فارجع يا فتى إلى أسلوب القرون الثلاثة الأولى , إلى الأسلوب الطبيعي
العربي , إلى الأسلوب الباريسي , إلى أسلوب القرن العشرين , بل الثلاثين , بل
الأربعين، وانبذ انبذ مقامات الحريري , ومقامات الهمذاني , وما شاكلها، ولا
تتصفحنها إما ابتغيت تعرفها، إلا خائفًا، وحذار بك أن يستعبدك متقدم في الزمان ,
أو متأخر، وإياك وأن تقلد في القول أحدًا، فالمقلد عبد , ولا يرضى بالعبودية
حر، والعاقل لا يهب كينونته لسواه، وإن ساواه أو علاه، وبعضهم لا يهبها لله
(عز وجل) , والتقليد عدم، والاستقلال كون، فلا يؤثر على الثاني الأول إلا
أحمق.
وقد دارت حول الأستاذ الإمام (العبارات الفقهية , والقوانين العلمية الخارجة
عن أسلوب البلاغة , والنازلة عن الطبقة كما يقول ابن خلدون , فما استطاعت
لبلاغته إضرارًا , ولا خدشت لملكته وجهًا) .
ولا يضر الفقهاء , وأهل العلوم تقصيرهم في هذا النمط من البلاغة , فللعلم
(كما ذكرت آنفًا) لغة , وللأدب لغة.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: (وقد استعملت في كثير من فصوله فيما
يتعلق بكلام المتكلمين , والحكماء خاصة ألفاظ القوم , مع علمي بأن العربية لا
تجيزها) , وقال أيضا: (استهجنا تبديل ألفاظهم , وتغيير عبارتهم , فمن كلم قومًا
كلمهم باصطلاحهم , ومن دخل ظفار حمَّر) [٣] .
وقد كتب الأستاذ في العلم بلغة الأدب (كدأب هنري بركسن فيلسوف فرنسة
وكفلامريون العالم في الفلك) , فراحت رسالته في التوحيد في هذا العصر معجزة.
ظهر محمد , وظهر محمود , فتقوت العربية بعد أن تضعفها الخصوم ,
وتعززت بعد إذلال , فغدا الدهر عند ذلك يعبد لنابغة يطلع على الدنيا طريقه.
ومن سنن الله , ومن دساتير الطبيعة ألا يفاجئ نابغة , أو عظيم فيما قدر له
أن ينبغ أو يعظم فيه قومه مفاجأةً دون أن يستعدوا له؛ إذ النابغة في شيء ما إنما
هو جوهر أمته , ولا يلخص خير إلا من خير , وما حدث كون من عدم.
وقد أشار إلى مثل هذا واضع علم الاجتماع ابن خلدون حين ذكر أمر البعثة
المقدسة.
غدا الدهر يعبد لنابغة في القريض يطلع على الدنيا طريقة، وغدا أهل الدهر
يرتقبون شعرًا يسمى شعر النبوغ قد عدموه منذ عصور , ولم يجئ من بعد القرون
الثلاثة الأولى , ومن بعد الذي يقول:
وما تسع الأيام علمي بأمرها ... وما تحسن الأيام تكتب ما أملي
إلا مقصدات معدودات , وإلا مقطعات قليلات , وأبيات نوادر.
غدا أهل الدهر يرتقبون شعرًا يشع مثل الماس إشعاعًا , ويزهر كالدراري
المتوهجة زهورًا , بل يضيء كما تضيء الشمس , وقد جمل , بل قد تجسم من
الجمال , وقد نوره القرآن , فبان بيانًا.
غدا أهل الدهر يرتقبون شعرًا هو فوق الشعر , وكلامًا هو فوق الكلام , كان
ابن نباتة السعدي , وقد سمع مثله من شعر أحمد بن الحسين , فقال: (نحسن أن
نقول , ولكن مثل هذا لا نقول) شعرًا متنبيًّا غوتيًّا شكسبيريًّا يعلق به الخلود إذا
قيل , وينشده الدهر الناقد إذ سمعه.
انتظرت الأمم العربية برهة هذا الشعر النابغ , وخروج هذا الشاعر والأقوام
كلهم أجمعون متطاولون , والأعناق مشرئبة , والوجوه الناضرة كما قال الله:
{وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} (عبس: ٣٨-٣٩) , والعيون ناظرة
شاخصة , والقلوب في الصدر راقصة , والدهر الذي قد ضن أمس , وجاد اليوم
يبتسم؛ فتبلج (وقد تفتحت أبواب السماء بالدعاء) نور
***
أحمد
يملأ الدنيا وطلع على أهلها (شوقي) :
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلت ... تلكِ الدجى وانجاب ذاك العثير
فافتن فيك الناظرون فأصبع ... يُوما إليك بها وعين تنظر
يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر
وظهرت معه أمه اللغة العربية آخذة بيمينه , وقد انحدرت من مقلتيها دمعتان ,
(ومن السرور بكاء) كما قال المتنبي.
جاء (أحمد شوقي) , وقد أضاء عصر الكهرباء , وخرج هؤلاء العفاريت
من الإفرنج يسحرون الناس بالذي يأتونه.
وإن أعمالهم - والله - لساحرة، وإن مبتدعاتهم (كظلمهم العبقري) عبقرية
باهرة، وأقبلت هذه المدنية الغربية ناسخة المدنيات، وصاحبة المعجزات المجننات.
وما هو إلا أن تراها (بدارها) ... فتبهت لا عرف لديك ولا نكر
مدنية عجيبة مدهشة قد حار في أمرها القائلون , فما يقولون، وقد أعجزت
شعراءها , فما عادوا يبدعون , وقل , أو اضمحل فيهم في الشعر النابغون، فلم
يعزز شكسبير , وغوتي في الغرب بثالث.
جاء ذلك , وجاء أحمد شوقي , فما فر من أمام ما شهد فرار الجبان , ولا أفحم
إفحام العاجز، بل مشى مشية الليث (كمشي ذلك الحماسي) , ونادى لغته العربية؛
فأجابته، وأهاب بقوته الشعرية؛ فلبته.
هما عتادي الكافياني فقد ما ... أعددته فلينأ عني من نأى
فجاء في الشعر بهذا السحر الذي رأيتموه، وقال ذلك القول الذي سمعتموه،
وقذف بالشطر بنصف البيت قد اجتافه تاريخ أمة [٤] .
وسير البيت يعرض فيه للناظرين السامعين دولة
وابتدأ القصيدة في شأن فهاج قبيلاً، أو أهدأ قبيلاً , أو نشط لما يعلي , أو ثبط
عما يدني , فذهبت تلك القصيدة في الناس دستورًا.
وغاص , وحلق , فأتى (كما قال ابن الأثير في حق حبيب) بكل معنى
مبتكر، لم يمش فيه على أثر.
وعرف الشرق , وعرف الغرب , وعرف العصر (وقد جهل غيره عصره) ,
واكتنه سر التأخر والتقدم , فأعطي الحقيقة في الشعر، وهدى بالكلم الطيب ذي
الحكمة إلى الطريق الأقوم.
فكن كشوقي يا شاعرًا في هذا العصر , فشيع المجاز بالحقيقة (على أن ليست
حقيقة هذا الكون والله إلا مجازًا) واعلم أن علم الأقدمين دينهم، ودين المعاصرين
خاصتهم علمهم، و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: ٣٨) كما قال الله، وإن الدهر
دهر حقائق , بل لا تثبت الحقيقة فيه إلا في دار الاختبار بالشهود العدول، وإن
الحال كما قال، وإن الحال كما قال ذاك الشيخ ذاك الشاك:
فقلنا للهزبر: أأنت ليث؟ ... فشك وقال: علي أو كأني.
فحلق حين التحليق في طيارة، وغص عند الغوص في غواصة، وناج
حبيبك بالمسرة اللاسلكية [٥] , أو (بالرادي) , فإنهما أسرع من خاطرك.
ورب معان يهمهم بها الزمان همهمة , ولا يفصح، وتختلج في الصدور , ولا
تبدو , ويجهلها العالم , وهي منه مقتربة، وتغيب عن الألمعي , وهي لم تبعد عنه،
قد اجتذبتها قوة شوقي الشعرية , وبينتها أي التبيين للعالمين، فعجب الناس بل ما
كادوا يقضون العجب.
وقد حالف قصيد أبى علي [٦] الفن محالفة صدق , فاتضح اتضاحًا وتآخت
أبياته تآخيًا، فهي بنو أعيان , لا بنو علات , ولا أخياف , ولا أبناء عم، وتعانقت
معانيه عناق العاشقين , وتجلت مقاصده , وصرحت صراحة الوطني ذي الإخلاص.
وقد جمله , وقواه , وخلده عربيته، متانته، لغته ديباجته، وإن لهذا كما للمعنى
لقدرًا، وإن له لبهجة , وإن له في النفوس لأثرًا، وإنما المعنى واللفظ شيء واحد ,
فهما كالجسم والنفس، والنفس والجسم، كائن فرد لا كائنان متباينان.
واللفظ والمعنى كمادة الكون , وقوته , فليس هناك مادة قد انفرقت عن القوة،
وليس هناك قوة قد زايلت المادة، كما يقول (كنت) وغير (كنت) من المثنويين ,
أو الإثنيين (dualistes les) .
عمدتم لرأي المثنوية بعد ما ... جرت لذة التوحيد في اللهوات
ليس ثمة مفترقان، إن هناك إلا اتصال، إن هناك إلا الوحدة، كما يقول
محيي الدين , وسبنوزة , وأرنست هيكل:
إذا تبدى حبيبي ... بأي عين أراه
بعينه أم بعيني [٧] ... فما يراه سواه
بل ليس هذان المعدودان اثنين (أي: اللفظ والمعنى) إلا صاحبهما يتجلى
فيهما , ومن أجل ذلك يضعف قول , أو يقوى، ويقبح , أو يجمل، ويصغر , أو
يكبر، ويلتبس , أو يتضح.
واتل أقوال الأمم العربية في كل عصر؛ تنبئك بأحوالها , فأحوالها المتغيرة
ذات الضعف , وذات القوة هي في أقوالها , فاعرف أقوالها تعرف أحوالها.
وإذا لم يتجل ذو القول في قوله , فليس بذي كينونة , وإنه لسواء والعدم ,
وما قوله قولاً , وإذا تشاكس ذات مرة لفظ قول ومعناه , فما هو إلا مخلوق شائن
نعوذ بالله من مرآه.
وإني أقسم بالقرآن وبلاغته وإعجازه وعبقريته وعجائبه التي لن تحصى أن لو
لم يكرم لفظ شوقي في الشعر كما كرم معناه , ولو لم تشرق هذه الديباجة الشوقية
المليحة ذات الحفلة ذلك الإشراق؛ ما كان أحمد شوقي شاعر العربية الأكبر , وما كان
ملك الشعر , وما كنتم أظفرتموه بهذا اليوم , ولكنه عاقل حكيم عرف كيف يقول ,
وكيف يبني قصيده , ويشيد أهرامه؛ ليخلد فيها، وقد قلت قدمًا: (ما يقي المعاني من
الدثور إلا متانة ألفاظها، وما يخدمها الدهور إلا تحقيق كلامها) , والدهر أثبت ما
كنت قد قلته.
وما التجدد يا قوم بصاد صاحبه عن الاحتفال في اللغة الأدبية بديباجة القول ,
وإحكامه , وصيانته من كل خلل، وتجليه أنيقًا ذا نضارة طبيعيًّا عربيًّا، بل التجدد
يحدو على ذلك؛ لأن التجدد أخو التقدم , وخصيم التأخر.
ومن التجدد أن تهيم بالفن , وهذا فن , ومن التجدد أن تقول القول الجيد
المضبوط؛ ليفهم الناس ما تقول , ومن التجدد أن تختار خير طريق في الإنشاء
والقريض , فتسير فيهما مستقلاًّ؛ لتبلغ , وتبلغ قومك من الارتقاء ما يجب بلوغه ,
ومن التجدد أن تشيد الأمة المتنبهة بنيانها على الأساس القوي؛ لئلا ينهار , ومن
التجدد أن تتقن يا هذا ما تعمل , وترصن ما تعلم , وأن تعد لكل أمر عدته ,
وللكتابة والشعر عدد، فقل لي: هل أعددتها؟ ومن التجدد أن يعلم أنه لا يجيء من
الضعف والانحطاط إلا الضعف والانحطاط , ولا يجيء من القوة والتقدم إلا القوة
والتقدم، والمتجدد الأريب إنما يريد أن يزداد قوةً وتقدمًا , ومن التجدد أن يعرف من
يروم تغييرًا كيف يغير , فلا يدع الحسن المجمع على حسنه إلى قبيح لا ريب في
قبحه.
ولقد أبهج كل أديب عربي أن عرف المجددون في مصر كيف يجددون , وأي
دين في التجدد يتبعون.
إن لم تكن القاهرة حاضرة الأمم العربية السياسية , و {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) , فإن القاهرة حاضرة الأمم اللغوية، ملك
الشعر فيها (شوقي) , والأقاليم العربية في المشرق والمغرب قاطبة من أعمالها،
وأدباؤها عماله، وأهلها رعية إحسانه.
وإن لهذا الملك علينا السمع، وإن لنا عليه الإجادة في القول، وقد (والله)
أجاد، وقد سمعنا وأطعنا، وجئت أحتفي به (يوم تكريمه) في المحتفين ,
وأعترف بقدرته المتعالية في القريض مع المعترفين.
جاء محمد [٨] , وجاء خليفته [٩] , وجاء محمود [١٠] , وخرج نابغة الشعر
العربي (أحمد شوقي) , وكان المقتطف [١١] , وجاءت هذه الدولة الأدبية العربية
المصرية , ومن رجالها الكاتب الأكبر، والشاعر الأكبر، والمفكر الأكبر، والأديب
الأكبر، والخطيب الأكبر , والنقاد الأكبر، والباحث الأكبر، والفقيه الأكبر،
والمتفنن الأكبر، والعالم الأكبر، وكل كبير في علمه وفنه , فصات في أرجاء
الكون هذا الصوت:
ألا إن محمدًا [١٢]
وذكر محمد
وقرآن محمد
ولغة محمد
وعربية محمد
وأدب محمد
كل ذلك لن يزول، كل ذلك لن يبيد , وفي الدنيا - مصر
... ... ... ... ... ... ... ... (إسعاف النشاشيبي)