للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد علي ضيف


الطلاق على الغائب والمعسر في السودان

حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامي:
اطلعت في المنار الأخير على مدحكم خطة قاضي قضاة السودان وما أدخله
من الإصلاح في المحاكم الشرعية وغيرها، فكنت أشارككم في الشكر له حتى انتهيت
إلى عبارة استوقفت نظري، فكنت محتاجًا لشرحها منكم بأجلى بيان وهي قولكم:
(ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان ونرجو أن تلحقها فيه محاكم مصر
الطلاق على الغائب والمعسر فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر المحاكم
منشورًا تؤذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك) ولقد أردت فهم هذه الجملة
على وجه الوضوح فلم أتمكن وذلك لأن قاضي قضاة السودان مأذون من قاضي مصر
النائب عن الإمام في الحكم على مذهبه فهو حينئذٍ ملزم بأن يحكم ويأمر بالحكم على
مذهب الإمام وأيضًا كثير من هؤلاء القضاة من هو حنفي المذهب فيكون مضطرًّا
لأن يحكم على غير مذهبه ومن المقرر في الفقه أنه إذا قضي القاضي بغير مذهب
الإمام وقد اشترط عليه أن يحكم به يكون حكمه لاغيًا وهو معزولاً من منصبه وكذلك
إذا حكم غير المجتهد بغير مذهب يكون أيضًا حكمه لاغيًا. فكيف يكون حكم هؤلاء
القضاة وهم مأذونون من قاضي مصر النائب عن الإمام وفيهم من هو حنفي
المذهب وليسوا بمجتهدين؟ الرجا توضيح هذه المسألة؛ ليكون لكم الفضل وعظيم الأجر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه أحمدعلي ضيف
... ... ... ... ... ... ... ... بالأزهر
(المنار)
إن ما قاله الفقهاء من اشتراط كون القاضي الذي ينفذ حكمه منصوبًا من قبل
الإمام أو السلطان ليس أمرًا تعبديًّا فرضه الله تعالى علينا في كتابه أو على لسان
رسوله لنعبده به، وإنما هو أمر لا بد منه لأجل وحدة الأحكام وتنفيذها. والسلطان أو
الإمام عندهم هو من ينفذ الأحكام الشرعية فإذا كان عاجزًا عن ذلك بالفعل فهو ليس
بسلطان ولا إمام. وأنتم تعلمون أن السلطان الذي نصب قاضي القضاة في مصر لا
يقدر على تنفيذ الأحكام الشرعية في السودان بالفعل، وأنتم تعرفون الذي يقدر على
ذلك. وإنما للسلطان العثماني حق الحكم في السودان بالتبعية لمصر، والإنكليز قد
احتلوا مصر بإذنه لمنع الفتن التي كانت فيها فلا يصح لهم أن يتغلبوا على جزء من
أملاكها باسم الفتح لأن يدهم على البلاد يد أمانة. وهذه مسألة سياسية تتبعها رسوم
معروفة، فإذا لم تقل: إن الأحكام في السودان كالأحكام في الهند، فقل: إنها تشبه
الأحكام في الجزائر أو تونس التي تعتبرها الدولة العلية من بلادها إلى الآن أو في
كريد.
الحق أنه ليس للمسلمين الآن إمام قادر على تنفيذ الأحكام الشرعية في بلادهم
كلها حتى البلاد التي ليس فيها أعلام أجنبية. فهذه مصر تحكم محاكمها الشرعية
ببعض الأحكام فلا تنفذ والخديو وقاضي مصر نائبا السلطان صاحب السيادة
(الاسمية الرسمية) على مصر يعلمان ذلك. لأجل هذا نرى بعض المعتقدين
بصحة قول الحنفية أنه يشترط في صلاة الجمعة أن تكون في بلاد تنفذ فيها الأحكام
الشرعية - لا يصلون الجمعة في بلاد مصر ولكنهم يصلون الظهر. وكان الواجب
على كل المعتقدين بهذا المذهب أن يسعوا في تنفيذ الأحكام الشرعية في مصر كحكم
قاضي (أبي كبير) وغيره بإلحاق زوجات الداخلين في الإسلام من القبط بأزواجهم
وأن لا يصلوا الجمعة حتى يتم لهم ذلك.
نرى السائل قد اضطرنا إلى ذكر أمور يجهلها الأكثرون ويستنكرها
المغرورون، وإنما ذكرناها لنذكره أين هو وأين السودان من السلطان. وإننا نرجع
بعد هذا إلى الحجة البيضاء الناصعة وهي أن جميع أئمة المسلمين قد اشترطوا أن
يكون القاضي مجتهدًا يحكم بما يرى فيه المصلحة، ولم يقل بجواز كونه مقلدًا إلا
بعض المقلدين الذين لا يعتد بأقوالهم، ونذكر هنا ما كتبناه في مقدمة طبع (تقرير
مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية) وهو:
(الأمر الثالث) أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما الأحكام التي
هي من خصائص المحاكم الشرعية يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت
الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا
للمصالح إلا إذا أخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم
رحمة للأمة. ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى. وقد
أشير في صفحتي ٣٨و٤٠ من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي وتوهم بعض
الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة وأن الأحكام بغير مذهب الحنفية لا تصح
ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور:
(١) جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه (فلو شرط المولي وهو حنفي
أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا
على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهو شرط باطل
سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا
فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب
الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه
النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن
يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك
قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا يصح مع
الجهل أن يكون موليًّا ولا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال:
قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت
الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل
الشرط اهـ المراد منه.
(٢) لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على مصلحة
الناس في هذا العصر إذا حكم فيها بمذهبهم وهذه حالة ضرورة أو حاجة تنزل منزلة
الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم لأن الحكم الذي تمس إليه الحاجة أو
يضطر إليه يصير متفقًا عليه. اهـ المراد هنا، ومنه يعلم الجواب والاجتهاد يتجزأ
على الراجح.