للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ولاية العهد للدولة العربية السعودية
وكتابان إسلاميان تاريخيان

كانت حكومة الحجاز وحكومة نجد وملحقاتها كل منهما مستقلة بنفسها إلا أن
ملكهما واحد يلقب بملك الحجاز ونجد وملحقاتها، وكان هذا التفريق خطأ عائقًا دون
الوحدة القومية الخاصة التي تربطهما، والتمهيد للوحدة العربية العامة التي يدعو
إليها المصلحون، فقرر أولو الأمر توحيد الحكومتين وجعلهما دولة واحدة بالاسم
المذكور في العنوان، واحتفل بذلك في مكة المكرمة بحضور جلالة الملك عبد
العزيز الفيصل مؤسس هذه الدولة المباركة في منتصف جمادى الأولى سنة ١٣٥١
ثم إنه في ١٦ المحرم من سنتنا هذه ١٣٥٢ قرر أركان حكومة الحجاز مبايعة سمو
الأمير سعود نجل جلالته الأكبر بولاية العهد للمملكة، وفي ٢٠ المحرم بايعه أهل
الحل والعقد من الحجازيين والنجديين في مكة المكرمة ومنهم العلماء والشرفاء
وأمراء بيت الملك السعودي الذي كانوا فيها. وقبل البيعة بالنيابة عنه سمو أخيه
الأمير فيصل نائب الملك لحكومة الحجاز؛ إذ كان سموه في نجد، ثم تقرر إرسال
وفد من مكة إلى الرياض عاصمة نجد برياسة الأمير فيصل فبايع سموه مع أهل
الحل والعقد من العلماء والأمراء هنالك وقبل المبايعة بمكة أرسل جلالة الملك برقية
إلى سمو الأمير سعود ينبئه بالبيعة ويوصيه بالوصايا العالية، فرد الأمير رجعها
بما يليق ببره وحسبه وأدبه، ثم أرسل إليه جلالة والده الكتاب التاريخي الآتي وهو
المقصود لنا بالذات؛ لأنه نموذج كامل لاتباع هذا الملك لسنة الخلفاء الراشدين
والسلف الصالحين في هديه وحكمه ويتضمن معاني وصايا البرقية وزيادة وهو:
كتاب جلالة الملك
برقيتك وصلت، وقد أحطنا علمًا بما جاء فيها، وهذا أملنا فيك، نرجو أن
الله يرزقنا وإياك الهدى والتوفيق.
وقد أحببت أن أكرر عليك نصائحي، توجه فيصل وإخوانك إلى الرياض
وبرفقتهم وفد من الحجاز. والحقيقة أننا رأينا في الحجاز أمرًا ما كنا نظنه. نحن
كنا على يقين من إخلاصهم وولائهم. ولكن الأمر تجاوز الحد وفوق ما كنا نظن،
فقد شاهدنا منهم محبة وشفقة على ولايتهم ونصحًا للمسلمين عظيمًا. نرجو أن
يوفقنا الله وإياهم للخير. وأما أهل نجد فقد كتبنا لهم كتابًا وعرفناهم أننا أجبنا
طلبهم فيما يتعلق بولاية العهد، وأما الأمر الذي أكرره عليك وأوصيك به فهو:
(الأمر الأول) تقوى الله والمحافظة على ما يرضيه وتفهم أن الحجة قائمة
على البشر بعد ما أرسل الله أفضل رسله وأنزل أفضل كتبه، فلا يوجد بعد كتاب
الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه حجة لأحد؛ لأنها المبينة المبشرة بالخير
بحذافيره، والمحذرة والمنذرة عن الشر بحذافيره، فلا حجة ولا معذرة بعد ذلك. ثم
تفهم أننا نحن آل سعود ما أخذنا هذا الأمر بحولنا ولا بقوتنا إنما مَنَّ الله به علينا
بسبب كلمة التوحيد.
وتفهم أن كلمة التوحيد معناها الإخلاص لله بالعبادة والانقياد له بالطاعة، أما
الإخلاص فهو عبادته وحده والاعتصام به والالتجاء إليه وترك ما سواه، وأما
الانقياد فهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه والعمل بالجميع بإخلاص ونية ومتابعة.
فبحول الله وقوته ما اعتصم أحد بالله وقام بسنة رسوله إلا وفق وهدي، والكلام
بذلك يطول وزبدته ما ذكرنا.
(الأمر الثاني) معلومك أننا في آخر زمان، ولقد أصبح الشح مطاعًا
والهوى متبعًا وأعجب كل ذي رأي برأيه، فبموجب هذا يخشى من التغيير والتغير.
قال الله سبحانه في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) وزبدة الحياة قائمة على قواعد (الأولى) ما ذكرنا أعلاه
(والثانية) مكارم الأخلاق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله
عنها: (يا عائشة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة) وقال الشاعر:
لو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق
كل الأمور تبيد منك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باق
وحسن الخلق يشتمل على أمور كثيرة منها: معاملات الخلق بالإنصاف
والعدل ومنها: حفظ سمت العرب وأخلاقهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت
لأتمم مكارم الأخلاق) ومنها بذل النفس والمال والنصح في محاله ومواجبه.
(الأمر الثالث) الحزم في جميع الأمور: منها ما رواه بعض الأدباء عن
انحطاط دولة بني العباس فقال أحدهم للآخر: إنهم قربوا أعداءهم تأليفًا لهم،
وأبعدوا أصدقاءهم وثوقًا بهم، وخزنوا المال، وأهملوا الجند، وتركوا حقوق الناس،
فلما وقع الأمر، وادلهم الخطب، وثب عليهم عدوهم، وتباعد عنهم صديقهم،
وصار الجند في ضعف، ولم ينفع المال لفوات الفرصة.
ويجب الحزم في مواقف أهمها تقريب المتقدمين من جميع الأصناف سواء
منهم من كان قريبًا أو بعيدًا، وأخذ خواطرهم، وعدم تركهم سدًى وإبعادهم بعلة
بسيطة لا تلحق بالدين ولا بالولاية، وأن يتألف من كان من الرعية على قدر عقله،
ويجلب خيره ويدفع شره، وأن تكون الحامية موجودة في كل محل ممن يوثق به
وثبتت بالتجربة أفعاله، وأن يؤمر الناس جميعهم بالمعروف وينهوا عن المنكر،
وأن يعاملوا بالعدل، ولا شيء أعدل من شريعة محمد، أما في الأمور التي تحيلها
الشريعة إلى الولاية فهذه ينظر فيها حسب المصلحة والأشخاص والأوقات بدون
تشنيع أو تنفير، وعدم مداهنة أو إرخاء العنان، والدليل على ذلك قوله تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:
١٢٥) وقوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:
١٥٩) .
ثم بعد ذلك تفهم أن كل شيء له حامية ومرجع، ومرجع المسلمين وحماة
دينهم علماؤهم، فالعلماء كالنجوم، زينة للسماء، وقدوة للسائرين، ورجوم
للشياطين، وليس العلماء في المقام على السواء، منهم من يؤخذ عمله ورأيه،
ومنهم من يؤخذ علمه ولا يناقش في الرأي؛ لأن أخذ الرأي من الكبير الذي يعرف
الأمور، وعدم العمل برأيه ليس بطيب، إنما يعمل مثل ما قال النبي صلوات الله
وسلامه عليه (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) [١] والعمدة على كل حال على ما
جاء في كتاب الله وسنة رسوله والسلف الصالح والخلفاء الراشدين، ومن حذا
حذوهم من الأمم ورؤساء المسلمين سابقًا ولاحقًا.
وعليك بحفظ العهود والمواثيق كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ
العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء: ٣٤) سواء كان العهد مع بار أو فاجر، عملاً
بقوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (الأنفال: ٥٨) لأن الغدر مذموم في الشرع
وعاقبته وخيمة مع أي كان [٢] .
ثم عليك أيضًا النظر في مصالح المسلمين وولايتهم في الصلح والحرب وفي
جميع الحوادث، فما كان من التمادي فيه مصلحة للمسلمين أو كف شر، فهذا
واجب العمل به، وما كان منه سعي وراء طمع أو إرهاق للنفوس فيجب التروي
فيه كما قال الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
وكما قيل:
وأحزم الناس من لم يرتكب عملاً ... حتى يفكر ما تجني عواقبه
والتبصر والتفكر والتعقل مذكور في كتاب الله وهو المُعَوَّلُ عليه.
ثم بعد ذلك عليك النظر في أقوال الناس وأهوائهم وآرائهم والتثبت في ذلك
كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: ٦) فالتأني في تبين
أمور الناس والتفكر فيه وعدم العجلة به يظهر الحقيقة ويحل المشكل.
ثم بعد ذلك عليك النظر في حال النفس، وما تحتوي عليه من عز وشرف
ولذات، فهذا أمر شاق وجهاد كبير، ولا علاج له إلا ثلاثة أمور:
(الأول) التضرع إلى الله بقول: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي
فبالاستعانة به يُكْفَى ابن آدم شر كل شيء.
(الثاني) يعرض الإنسان ما بدا له وما طمح إليه على كتاب الله وسنة
رسوله فما وافقهما عمل به وما خالفها تركه والله سبحانه خير عِوَض في كل حال
من الأحوال
(الثالث) النظر في أفعال الرجال من أهل العلم والعمل والحقيقة؛ لأن في
اتباعهم خير قدوة.
ثم عليك بعد ذلك النظر في المعاملات الداخلية من أي جهة كانت سواء في
الأمور الاقتصادية، أو في حالة الأمراء وأعمالهم مع الولاية والرعية، أو في
الوزراء وسيرتهم، أو في حالة الناس فيما بينهم، فإذا دقق الإنسان النظر في هذا
مع إخلاص النية وحسن القصد تبين له الأمر، وكان على بصيرة وهداية.
ثم بعد ذلك عليك النظر في الأمور الخارجية وأحوال الزمان وتقلباته مع
الدول، ومعرفة الحكومات ومواقفها ونواياها (نياتها) وقواعد سياستها التي تسير
عليها في علاقاتها الخارجية. والدول كالأفراد تتألف وتتفق طبقًا للأغراض
والمصالح، وأساس صلاتها قائم في تبادل المصالح وتقارض المنافع ودفع الأذى
وحماية الثغور، فعليك التبصر في سياسة كل دولة ومعرفة أغراضها معرفة حقيقية
تمكنك من انتهاج خطة صريحة حيالها، فيما يُولِّيكَهُ الله من بلاد أنت المسئول عن
المحافظة على حرماتها ودفع العدوان عنها، وجلب الخيرات واستكثار المصالح
والمنافع لها.
وعليك الحذر والتأني في تلقي ما يُنْقَل إليك من الأخبار عن نوايا الدول،
وخذ ما يلقى إليك بالعقل والروية ولا تَسِرْ فيه بحكم الهوى والأماني، واحذر من
كلام يظهر لك في ظاهره النصح، وهو كلام حق يُرَاد به غيره، واتخذ ديدنك
النظر فيما كان من أفعال الحكومات ومواقفها تجاهنا، واجعل سياستك قائمة على
مصافاتها باطنًا وظاهرًا ومسالمتها سرًّا وعلانية، واعلم أيضًا مقامك ومقام بلادك
بين المسلمين وبين أبناء قومك العرب، ولا تنس واجبك تجاه كل مسلم وكل عربي،
واعمل في كل ذلك كما قيل: لكل مقام مقال ولكل يوم شأن.
الحقيقة أنني قد أطلت عليك الكلام، وهذا شيء لم أرده ولا يمكن أن تعمله
بالعجلة. ولكن إذا أحسنت النية من جهة الله وسألته التوفيق، واستخرت وشاورت
أهل الخبرة الناصحين، وكل فن عرفته من المختصين به فبحول الله وقوته على
طول الزمان تحصل النتيجة.
أحببت أن أبين لك ذلك حتى تضعه نصب عينيك وتفكر فيه في فراغك؛ لأن
هذا من واجبات الدين وواجبات الولاية، ومن الخواص التي لا يستغني عنها ولاة
الأمور. نرجو من الله أن يوفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه وصلى الله على محمد
وآله وصحبه وسلم، يوم الجمعة أول صفر سنة ١٣٥٢
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز
***
جواب سمو ولي العهد
مولاي جلالة الملك المعظم:
عرضت على جلالة سيدي ما كان من أمر البيعة، وقد قرئ كتابكم الملوكي
الذي حوى تلك النصائح الثمينة لخادمكم. والحقيقة أنه يصعب عليَّ بيان ما كان لها
من الوقع العظيم على مملوككم، وعلى جميع المسلمين الحاضرين، فإنها من أثمن
النصائح وأجلها قدرًا، وقد قوبلت من الجميع بالدعاء لجلالتكم بطول العمر ودوام
التأييد والنصر. ومعلوم سيدي أننا لو فعلنا مهما فعلنا لا نتمكن من الرد على
جوابكم، إلا أننا نسأل الله أن يديم بقاءكم ولا يرينا ولا المسلمين فيكم أي مكروه،
وأن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا. وأرجو من الله، ثم من حضرة سيدي
الدعاء لمملوكه بالهدى والتوفيق، وأن الله يرزقنا السعي فيما يرضي وجهه،
ويوفقنا لخدمتكم وخدمة عامة المسلمين والله يديم جلالتك ذخرًا وسندًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الابن سعود
(المنار) إن وصية هذا الملك بالاهتداء لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين واتباع العلماء
وتقديم العقلاء، وقد وقعت أحسن موقع من قلوب جماعة المسلمين، ونوهت بها
جرائدهم في المشرق والمغرب الإسلاميين، ولو سئلت عنها مجلة مشيخة الأزهر
(نور الإسلام) لأفتت بأنها ضلالة من ضلالات الوهابية يحرم على المسلمين
الموافقة عليها؛ لأن الإسلام في رأي هذه المجلة هو ما يذكر في كتب المقلدين
للمذاهب الكلامية والفقهية فقط، وأما الأمر بالاهتداء بالقرآن والسنة فهو إضلال
وإغواء، ونعوذ بالله من إغواء هذه المجلة، فهي شر من الشيطان؛ لأنه يوهم
عوام المسلمين أنه من أحكام دين الله، وهو هدم له من أساسه.
ومما يستغربه أهل هذا العصر من وصايا هذا الملك لولي عهده أمره بمصافاة
المعاهدين سرًّا وجهرًا، فإن هذا من فضائل الإسلام، التي تخالفها سياسة هذا
الزمان، وقد يكون في الصدق من الفوائد ما ليس في الكذب والخداع.