للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


تعليم القراءة والخط والرسم [١]

(المكتوب ٣١) من هيلانة إلى أراسم في ١٥ مارس سنة ١٨٥
لما يتعلم (أميل) القراءة ولا يكاد يعرف حروف الهجاء وربما كنت أنا
الملومة على ذلك؛ لأنني لم أحثه على التعلم إلا قليلاً، ذلك أنني لا أنفك أذكر تلك
الغضاضة والكراهة للتعليم الأول، وما سببه على ما أرى إلا الإكراه عليه وهضم
ما يجب لطفلة صغيرة مثلي من حق الحرية والاختيار، وأرى أن حملي أميل على
التعلم؛ لأن غيره يتعلم كما كان يقال لي جناية عليه لأن عاقبة هذه الحجة أن تطبع
الناشئ على التقليد الأعمى والاقتداء بالناس في جميع عاداتهم من غير تفرقة بين
الحسن والقبيح، لمَ نختار ركوب الصعب في هذا السبيل ولدينا المركب الذلول،
وهو حمل الطفل على التعلم بالتشويق والتنويه بما في المطالعة من اللذة، فقد
يستغني الإنسان عن الأشياء التي يجهل فوائدها ومزاياها.
أنا جاهدة في تلمس الوسيلة التي تنبه اشتياق أميل إلى الحروف المطبوعة،
وتبعث فيه الميل إلى معرفتها، وإذا علم أن القصص العجيبة والأساطير الغريبة
التي أفكِّهه بمُلَحها وأفاكيهها كلها مأخوذة من الكتب، فلم لا يجد به الميل وتحمله
الرغبة على أن يأخذ تلك الحكايات من مصادرها ويستخرجها من ينابيعها بنفسه في
يوم من الأيام؟ وإذا تولدت فيه هذه الرغبة يومًا ما فكل ما بعدها يتبعها من نفسه
وإنني لا أفتأ أنظر تولدها وانبعاثها الحسن فيه وقد طال تأخرها.
لقد صارت القراءة لنا حاسة سادسة بما رسخت ملكتها فينا، ومع هذا لم نحط
خبرًا بالعقبات التي تحول دون وصول الطفل إلى معرفة الحروف الهجائية بسهولة
أنا باحثة عما عساه يكون منشأ لهذه العقبات الثابتة الراسخة ويشق علي الوقوف عليه
فليت شعري أليس هو ما به الفرق بين علم القراءة والكتابة وبين سائر العلوم؟
فإننا نرى هذه العلوم يساعد بعضها على معرفة بعض، ويُعِدُّ متعلم أحدها ويؤهله
لفهم الآخر إذا هو انتقل إليه لما بينها من الصلة واتحاد طرق الدلالة، ونرى علم
القراءة والكتابة بخلافها نرى أنه لا صلة بين الأشياء وبين هذه الأشكال والرسوم
الصناعية التي وضعت للدلالة عليها، فإذا انتقل المتعلم من مسميات الأشياء إلى
أسمائها في الورق ينقطع الاتصال به فجأة، لا يصعب على أميل أن يميز فيما يراه
من صور الأشخاص المرسومة وجوه أصحابها إذا كان رآها؛ لأن الشكل في
الصورة والمصوَّر يكاد يكون واحدًا، فأما الاسم المكتوب فإنه لا يمثل له شخص
المسمى بحال من الأحوال، فهل توجد طريقة لربط هذين النوعين من الأشياء في
فكره وأعني بهما الرسم والكتابة؟ هذا أمر يُطلب منك.
أنا أكلم أميل بالفرنسوية، وهو يتكلم مع أهل كورنواي بالإنكليزية، فهو بهذه
الطريقة يتعلم لغتين من اللغات العصرية بلا مشقة، بل لا حرج علي إذا قلت بلا
شعور منه بذلك، إلا أنه يغلط فيهما غلطًا غريبًا فيمزج أحيانًا بعضهما ببعض مزجًا
يكون أشد من الأضاحيك استضحاكًا، مثل لنفسك غلامًا يقول مخبرًا لك بأنه يريد
الخروج (JE VOUDRAIS TO GO OUT ?) ألست تغرب لهذا الخلط ضحكًا؟ لا غرو فما كان تكوُّن اللغات المختلطة فيما سبق إلا في مثل هذه الحالة
وهي تجاور جنسين متمايزين واختلاطهما زمنًا في مكان واحد، أنا أعتقد أنني أعلِّم
أميل، وهو في الحقيقة معلمي؛ لأنه قد فتح عيني وهداني إلى عدة مسائل ذهب
تعبي في البحث عن حلها في الكتب سدى، وليت شعري هل تصدقني إذا قلت لك
إنه يعلمني التاريخ.
يعرف أميل الرسم والتصوير، وإن كان لمَّا يعرف القراءة والكتابة فهل وُلد
مصورًا ورسامًا؟ لا أنكر أن النظر إلى خرابيشه [٢] يضعف هذا الاعتقاد أو يذهب
به بعيدًا؛ ولكنها على كل حال صور آدميين وحيوانات ومساكن وغير ذلك، ولا
يكتفي بأن يحاكي بالقلم العادي أو الرصاصي شكل ما يقع عليه بصره بحسب ما
يتفق له، بل أراه يحاول التعبير عما في نفسه من الوجدانات، وما في فكره من
الحكايات بما يرسمه على هذه الأوراق من خرابيش الخطوط والصور، انظر كيف
حاول أن يكتب إليك مكتوبًا، أستغفر الله قد أخطأت في كلمة يكتب وكلمة مكتوب،
وكان ينبغي أن أقول: يرسم لك خطابًا بربائيًّا [٣] وإني لأخشى أن يصعب عليك فهم
الرسم الذي يرسله إليك، فأرجو أن أكون أنا في هذه الدفعة شامبليون هذا الرسم [٤]
فأقول:
تربية إحساس الشفقة
والرحمة وحادثة غرق
يمثل لك الرسم ريحًا عصوفًا هبت لليلتين من شهر أبريل، وظلت تعصف
إلى الليلة الثالثة منه، وليس هذا مما يحصل هنا نادرًا، ولله بيوتنا؛ فإنا مبنية
بالصوان (وهو الحجر الكثير في الضواحي) ولولا ذلك لتداعت، أو لدكت بقوة
العواصف والأعاصير الشديدة التي تضطرب لها هنا السماء والأرض والماء، على
أن البحر لم يُرَ منذ سنين بمثل هذا الاضطراب الذي أحدثته هذه العاصفة، ولا يجد
الواصف لهذه الحالة وصفًا إلا أن يقول: إن حجاب الروع والفزع قد أُسدل على هذا
الكون الذي لا نهاية له.
لا يسمع من لغط الناس المشئوم في هذه الحال إلا أخبار الغرق والغرقى تتردد
من ساحل إلى ساحل، ولم يكن لخفراء السواحل يومئذ هم منذ طلع الصباح إلا
مراقبة البحر الهائج بمناظيرهم المقرِّبة للبعيد يصوبونها إلى الأفق من على تلك
الصخور الوعرة المحيطة بالخليج، وكانوا لا يكادون يُرَون في ضوء ذلك الصباح
الملون بخضرة البحر الحوَّاء (الضاربة إلى سواد) على أن أشعة أبصارهم قد خرقت
تلك الحجب الجوية، وعلم الناس أنهم ميزوا من وراء تلك الأمواج المتراكبة
المصطخبة سواد سفينة على بعد قد وقعت في شعب مخيف، فانكسر صاريها
الأكبر وتحطمت جوانبها، فسقطت تضطرب كحوت أصيب بجروح عظيمة،
فصار يتقلب على جنبيه، وكان مما يثير ثائر الخوف أن تلك الأمواج التي تهيجها
العواصف فتعلو فجأة كالجبال، كانت تتلاعب بتلك السفينة فتقذفها آنًا بعد آن بتلك
الصخور الصم، وصار يتسنى للإنسان في ذلك الجو المطبق المحزن أن يميز في
ضوئه السنجابي اللون أيدي الناس في السفينة تحرك قطعًا من الشراع.
لم يكن للناس حينئذ من أمنية إلا نجاة هؤلاء الغرقى على أنهم لم يكونوا
يجهلون صعوبة إنقاذهم وتعسره، نعم إن أهل كورنواي أولو شجاعة ونجدة؛ ولكنهم
مع ذلك أصحاب حذر وفطنة، هدأت الريح قليلاً بعد شروق الشمس كامدة شاحبة،
والبحر ما زال متماديًا في طغيانه، مصرًّا على عدوانه، فكان يخيل لرائيه يتحرك
بنفسه أنه أخذته حمَّى نافض من القاصف، فأحدثت فيه هذه القوة العجيبة في
الرعدة والاضطراب، وكان بعض الصيادين المحنكين يرمون بأبصارهم إلى
الأمواج يتتبعون حركاتها بأعينهم المدرَّبة، ثم يُنغضون رؤوسهم وتعلو وجوههم
كآبة اليأس، وكان لسان حالهم يقول: لا حول لنا ولا قوة على إنقاذ هؤلاء المساكين.
أتى على الناس نحو نصف ساعة يتراوحون بين اليأس والرجاء، كان
كنصف قرن، ذلك أنهم كانوا يرون بعض إخوانهم بين مخلب الموت ونابه، وهم
يرجون منهم النجدة؛ ولكنهم لا يجدون لإنجادهم سبيلاً، وبينما هم في هذه الحالة
إذا بزورق النجاة قد أُحضر، فصاح الناس صيحة واحدة كانت منبعثة عن جميع
الصدور، وهذا الزورق يُعِدُّه الملاحون للدواهي الكبيرة، وقد أُحضر بقوة السواعد
والخيول، ووُضع في مكان من الساحل يرجى منه الوصول إلى الغرقى، وما عتم
أن امتلأ بالناس على وهنه وخفته وعظم الخطر في ركوبه، وقد تحمل قوبيدون
الذي تطوع في هذه الخدمة منذ سنتين أو ثلاث، كل مشقة الذود عن مكانه وحفظ
مجدافه، وكان الذين ركبوا الزورق يحسدونه على شرف التعرض لمخاتل المحيط
وفخاخه، وما نجح في ذوده ودفاعه هذا إلا بقوة حقوقه المكتسبة بسابق هذه الخدمة.
أنزل الزورق في البحر، وانحنى المجدِّفون الجريئون على مقاعد تعلو نصفها
الأمواج، وأوغلوا في البحر وكان أميل على ما أرى يأسف أنه لم يكن له من السن
والقوة ما يؤهله لمساهمة رفيقه قوبيدون في هذه السياحة الدالة على جراءة الجنان،
وشرف الوجدان، وأراه قد اكتسب في هذا المشهد من العبرة بإخلاص المخلصين،
والأسوة بإحسان المحسنين، ما لا أبيح لنفسي التعبير عنه بالكلام، ومحاولة شرحه
بفصاحة البيان، لئلا أضعف من قوته، وأشوِّه من صورته؛ فإن حضور المشاهد
العظيمة، ورؤية الأخطار الكبيرة، تعلِّمنا بغير كلام، وتربينا بدون إلزام.
غاب الزورق ساعات والناس في قلق مميت، وإذا بصائح يصيح: ها هو ذا
راجع، وكان يقترب من الشاطئ حقًّا، والناس في ريب من نجاحه، وما كان أشد
شجاعته في مساورة غضب الأمواج الثائرة! ! أنا لا أشك في أنك تعرف ما تأتي
به صناعة الملاحة من هذه العجائب وتلك الزوارق المنشأة من الهواء والبلوط التي
هي في الخفة كالريشة، وفي القوة والمتانة كما يحب الخير ويرضى، كان يخيل
للرائي في كل لحظة أن الفواعل الجوية المصطخبة ستبلع بقوتها هذه الصدفة
الخشبية التي تطاولت بجراءتها إلى منازعة البحر في غنيمته؛ ولكنها تطاولت
فطالت وحاربت فظفرت، فكأن هذا الزورق كان إنسانًا يسبح، وقد أعطته جِنِّية
طلسمها ليتقي به مفزعات النوء، وما كان أبدع منظر رجاله والماء يتدفق من فوق
قلانسهم المشمعة وثيابهم المزيَّنة، وهم راجعون أعزاء ظافرين، وإن كان الموج
نال منهم وترك أجسامهم كأجسام الضفادع ونحوها من حيوان الماء، وقذف بهم
أحيانًا في مهاوي عميقة كبطون الأودية، وطفر بهم أخرى إلى فتن عالية كشعاف
الجبال يظهرون بها للأبصار في ضوء الشمس السقيم، ولو أنه نزع مجاديفهم من
أيديهم لبادروا لاسترجاعها بقوة، كما يأخذ الشجاع سلاحه من عدوه.
صاح قوم من الملاحين كانوا على صخرة قائلين (نجوا) .
فلما سمعت هذا الصياح شخصت ببصري إلى الزورق الذي كان يدنو من
الشاطئ دنوًّا غير محسوس، وأنشأنا نميز بين رجال الزورق: ثلاثة من الغرقى
شاحبي اللون شحوبًا مفزعًا، وفتاة صغيرة ليس فيها أدنى علامة على الحياة.
وصل الزورق بمشقة شديدة، ورسا في مرسى من المراسي المحمية بالخليج
فلم ألبث أن تلقفت بعض التفاصيل عن حادثة الغرقى فعلمت أن إنقاذ الغرقى كان
عسرًا خطرًا، وأنهم لقوا الألاقي الشديدة، ويُظن أنهم باتوا ليلتين على الطَّوى،
وقد وُجدوا معشِّشين كالطير البحري حول بقايا أدوات السفينة التي لم يدمرها البحر
كلها تدميرًا، ولا شك أنهم لما صاروا عرضة لجميع شدائد الجو تسلقوا هذا
الموضع الحرج عند اغتيال الأمواج سطح المركب، وثبتوا فيه بخوارق الشجاعة
وقد تعب منقذوهم في تخليص الحبال من أيديهم التي أيبسها البرد، وكانوا عاجزين
حتى بعد نجاتهم عن مدافعة النعاس الذي اسْرَنْداهم، ودفع النوم الذي أناخ عليهم
بكلاكله.
كان الناس يتساءلون: من هم ومن أين أتوا؟ ومما كان يزيد في سوء حالهم
أنهم ما كانوا يحيرون جوابًا؛ لأنهم لا يفهمون خطابًا، فحسبت أنهم يعرفون غير
الإنجليزية فخاطبتهم بالفرنسوية وبالألمانية، بل استنفدت جميع ما أعرف من
اللغات، فلم أر في وجوههم أمارة على فهم شيء منها، وكان في الميناء بعض
الملاحين الروسيين واليونانيين والزوجيين فلم يكونوا أسعد حظًّا في مخاطبتهم،
تجلت هذه الحادثة بشكل الأمور الغريبة، فكأن هؤلاء الغرقى في نظر الناس
أموات بُعثوا ولم يعرفوا لغات الأحياء.
وأما الفتاة الصغيرة التي يظهر أنها بنت خمس، فكانت نجاتها كمعجزة من
المعجزات، وكانت أبصار الملاحين قد زاغت دونها، ولم تهتد في الضباب الذي
أثارته الأمواج إليها؛ ولكن قوبيدون لمح بعينه التي تحاكي عين الفهد شبه كتلة
معلقة في بقايا أدوات السفينة، وخاطر بنفسه في التسلق لاكتشافها أشد المخاطرة
فألفاها بنتًا قد لفت في نسيج ولبوس، وعلقت على ارتفاع عشرين قدمًا وسط
الحبال المتقطعة، وكانت مغمى عليها من البرد والجوع والخوف، فأخذها وألقاها
في الزورق، فظلت غيبة نعاسها كذلك الطائر البحري الذي يُرى متخدرًا طافيًا على
سطح المحيط.
أُدرك هؤلاء الغرقى في الوقت الذي يجب إنقاذهم فيه، إذ لم يمض على ذلك
بضع ساعات حتى هاج البحر هيجة حطمت بقايا السفينة، وبددت ألواحها تبديدًا،
وكانت القرائن تدل على أنه لم ينج من ركابها إلا هؤلاء.
أُخذ الغرقى إلى ملجأ الملاحين ليساعدوا على ضعفهم، وطلبت أن تضم
البنت إليَّ والفضل كله في هذا البِر لإخلاص قوبيدون، ليت شعري من أي البلاد
هي؟ إن ملامح وجهها وشعورها الحالكة وجلدها الذهبي تدل على أنها من البلاد
الجنوبية، هل هي يتيمة؟ وهل غرق أبواها؟ ومن هو صاحب اليد التي علقتها
في بقايا الصاري، تلك أسرار محجوبة عني، ولكن الظاهر أنها ليست لأحد الذين
نجوا من الغرقى، ولا بد أن نقف قريبًا على خبر السفينة ومن فيها، وسأكتب إليك
بما أعلمه من ذلك، وأستودعك الله قائلة: إن من حبك أن أتأثر بمصائب الناس
وأهتز لها.
(حاشية)
عُرف اسم السفينة وهو (أياكوكو) وغرقاها من البورفيين الذين يتكلمون
بالأسبانية غير الصحيحة، هذا كل ما عُلم إلى الآن عن هذه الحادثة البحرية
المحزنة.
((يتبع بمقال تالٍ))