للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الشبهات على حق المساواة في الميراث
- ١٣ -
وجملة القول أن الشرع الإسلامي قد عظم أمر الزوجية والأمومة الشرعية،
ففرض على الرجل القيام بجميع ما تحتاجه الزوجة والأم لتتفرغ المرأة للقيام بما
تقتضيه هاتان الوظيفتان التي قضت الفطرة بأن تكون الأولى منهن وسيلة والثانية
مقصدًا، فإن عجز الرجل عن النفقة أو مات كان على غيره من الأقارب القيام بها
وإلا فبيت المال، ولن تقوى المرأة على القيام بما تقتضيه الفطرة ودين الفطرة من
الاستعداد للحمل والوضع والرضاعة والحضانة والتربية للأطفال وجعل الدار
لهن خير مدرسة ومأوى ومطعم ومصح، إلا إذا كان الرجل يكفيها مؤنة الكسب وتثمير الأموال بنفسها في الزراعة والصناعة والتجارة واستخراج الكنوز والمعادن
وغير ذلك مما هو أقدر عليه منها، وكذا مؤنة أمور الدولة العامة والدفاع عن
الوطن بالخدمة العسكرية بأنواعها.
وكان مقتضى هذا بادي الرأي أن لا ترث المرأة شيئًا من المال والعقار؛ لأن
الشرع كفل لها رزقها على كل حال، وهذا ما كان يحتج به العرب في الجاهلية
على عدم توريث النساء مع أنهم لم يكفلوا لهن رزقهن كما كفله الإسلام؛ إذ جعله
حقًّا على الرجال بوازع الوجدان والإيمان، وكفالة الشريعة والسلطان.
ولكن دين العدل والرحمة راعى في أمر النساء سائر الأحوال التي وراء حال
الزوجية والأمومة، ففرض لهن من الإرث نصف ما فرض للرجال، ومن أحسن ما
يوجه به هذا الفرض أن يقال: إنه من قبيل الاحتياط ومراعاة شواذ الحياة
الاجتماعية، ولولا أنه فرض إلهي لكان لقائل أن يقول: إن النصف كثير؛ لأن الأمر
يؤول فيه إلى أن يكون مال المرأة أكثر من مال الرجل لأنه لا يُفرض عليها من النفقة
حتى على نفسها في عهد الزواج ما يفرض على الرجل، أو يفضي إلى إضعاف
الثروة العامة؛ إذ ليس للمرأة من القدرة على إدارة المال وتثميره ولا من
التفرغ لاستغلاله من جميع الطرق الاقتصادية مثل ما للرجل.
وأما الأمهات الفواجر غير الشرعيات فلا يفرض لهن الشرع الإلهي وجودًا
يقتضي حقوقاً مالية أو غير مالية، بل يفرض عليهن عقابًا شديدًا يقتضي إرهابًا يمنع
وجودهن إلا على سبيل الندور الذي لا يراعَى في القواعد التشريعية المنزلة ولا
الموضوعة، ومن ثم كان دعاة الفوضى النسائية والإباحة الذين رُزئت هذه البلاد
يهم يقترحون أصلاً للتشريع ينسخ شرع الله تعالى ويبطله مبنيًّا على إقرار أمومة
السِّفاح، فترى الدكتور فخري يقول - بغير خجل ولا حياء من الجهل ومكابرة
الحس والعقل -: إن المرأة (هي هي كل شيء في القيام بحمل الصرف المالي
على هذه الأمومة) وإنه لا يدري (لماذا يريد الرجل أن يعطيها نصف حقها في
الميراث؟ !)
نعم إنه لا يدري لأنه لا يريد أن يدري، أو لا يعترف بما يدري، فإنه
يخاطب المسلمين بقوله: (هي هي كل شيء..) وهي عندهم ليست بشيء من
ذلك، أما الأمومة السفاحية فلا وجود لها في شريعتهم كما قلنا آنفًا. ولا وجود لها
في الخارج أيضًا، فإن اللائي يلدن من حمل السفاح يلقين بالطفل المولود في أحد
الشوارع ليلاً على حين غفلة من المارين ليحمله رجال الشرطة أو غيرهم إلى
معاهد اللقطاء إن لم يخنقه عند الوضع ويدفنه حيث لا يعلم به إلا الله.
وأما الأم التي يطلقها زوجها فلها من النفقة مدة العدة ومدة الحضانة ما هو
معروف للعامة والخاصة من الناس. ومن المطلقات المعتدات بالقروء مَن تنكر
حيضها وتدَّعي امتداد أجل عدتها بحيث تعد بالسنين، ويجبر القضاء بمذهب
الحنفية الرجل على النفقة عليها حتى تعترف بمرور الثلاثة القروء عليها وقلما
تعترف بذلك في ظل القضاء الحنفي إلا إذا أرادت الزواج!
فأما الأم التي يموت زوجها فترث هي وولدها كل ما ترك إن لم يكن له زوج
أخرى أو أولاد من غيرها أو أبوان وهو الغالب، وكثيرًا ما يترك الأبوان نصيبهما
لولد ولدهما إذا كانا موسرين، وإذا هو لم يترك مالًا يكفي أولاده وجبت نفقتهم
على من قدر عليها من أولي القربى أيهم أقرب كما تجب نفقتها هي أيضًا على أولي
قرباها بالتفصيل المفصل في كتب الفقه.
وما أظن أن جميع دعاة الإباحة الإلحادية يوافقون الدكتور فخري على جعل
أمومة العُهر موجبة لمساواة المرأة بالرجل في الميراث لما تقتضيه من انفرادها
بالنفقة على نفسها وعلى أولادها غير الشرعيين إذا لم تكن ذات فراش تفتري هذا
البهتان على صاحبه، وتلصق هؤلاء الأولاد بنسبه، ولعل أكثرهم يتعجبون مع
أهل الدين والصيانة من اقتراح مثله لهذا الرجس من التشريع وهو من أعلم الناس
بقبح الفاحشة وأمراضها الخبيثة المعدية؛ لأنه من أطبائها الأخصائيين العاملين
المطلعين على ذلك، فكان الواجب عليه أن يقترح ما يقلل هذا الفساد إذا لم يمكن
إزالته، لا ما يمكِّن المسافحات (البغايا) ومتخذات الأخدان (المرافقات) من
تكوين بيوت جهرية لأولاد الزنا، يعرف كل واحد منهم أمه ولا يعرف له أبًا، إلا
أن تتبع الحكومة فيهم ما حكي عن التشريع البلشفي من الأخذ بقول المرأة في إلحاق
كل ولد بالرجل الذي تدعي أنها علقت به منه، فتُلزمه الحكومة النفقة عليه [١]
وحينئذ يمكن أن يكون لكل أم من هؤلاء الأمهات غير الشرعيات بضعة أولاد
لبضعة رجال تتقاضى من كل واحد منهم نفقة رضاعته وحضانته وتربيته! ! إلى
أن تتولى الحكومة أمر رزقه إذا صارت بلشفية خالصة؛ لأن التشريع من بعض
جوانب الشيء يفضي به إلى سائر الجوانب، ولولا استباحة الزنا وكثرته لما اقترح
الدكتور فخري ما اقترحه.
بيد أن الفواجر لا يعترفن بمن يضعن من أولاد السفاح في هذه البلاد بل يلقينه
ليلاً في بعض الشوارع؛ ليوضع في ملاجئ اللقطاء، ومنهن من تقتل الطفل عند
وضعه وتدفنه سرًّا؛ إذا لم تكن ذات فراش تفتريه على بعلها فيه كما قلنا آنفًا، ولا
يصدها عن إلقائه أو خنقه أن تكون ذات مال تكفله به، فإنها إنما تفعل ذلك فرارًا من
عار الفاحشة، لا لأجل العجز عن النفقة، فمساواتها لأخيها في الإرث لا يهون
عليها احتمال العار والاحتقار اللذين يلصقان بها من الأمومة غير الشرعية، فهي
لن ترضاها لنفسها إلا أن يهبط تجديد الإلحاد والإباحة بالأمة كلها إلى حضيض
المساواة بين حضانة الزوجية وإباحة الفاحشة في عدّ كل منهما حسنًا شريفًا لا عار
فيه! فإن هبطت دعاية هذا التجديد بالأمة إلى هذه الدركة السفلى من المساواة
بين الفضيلة والرذيلة - لا سمح الله - فإنه لا يبقى بين دعاته وبين المساواة في
الإرث وغيره إسلام يُتبع، ولا قرآن يُتعبَّد به، ولا توراة ولا إنجيل أيضًا، وحينئذ
يكونون هم أصحاب الرأي النافذ في الحكومة البلشفية التجديدية؛ فإنه ليس في
الأرض أجدر منها، وإن لم يتجرؤوا (على ذمهم لكل قديم ومدحهم لكل جديد)
على التصريح بها، كما ظنوا أننا لا نتجرأ على التصريح بطلب تنفيذ الشريعة
الإسلامية كلها، وها نحن أولاء نصرح به لأنه حق ومصلحة، فنحن الشجعان لأننا
نجهر باعتقادنا كله، وهم الجبناء لأنهم لا يجرؤون على التصريح بكل ما يستحسنونه.
أقول هذا لأنه من لوازم هذه الدعاية الحمقاء، ولا أجزم بأن أفكارهم القصيرة
الخطى الكثيرة الخطأ قد وصلت إليه، أو قصدت إركاس الأمة فيه، وإنما أرجح
أنهم يجلبون المال والجاه والزعامة الأدبية لهم ولمن يرتبط بهم بتحويل أفكار النابتة
الجديدة من المسلمين وقلوب النساء عن هداية الإسلام وتشريعه، إذ لا يمكن لزعنفة
قليلة أن تتبوأ مقام الزعامة والقيادة في أمة كبيرة هم أعداء الأكثرية الساحقة الماحقة
منها في كل ما تعتقد حقيته وقداسته من أدب وتشريع، ومنافع هذه الزعنفة من
ساسة الأجانب ومبشري دينهم رهينة بتأثير كلامهم في هذين الصنفين من المسلمين-
أعني الشبان والنسوان - وجل الظلم والخسران في هذا كله واقع على أكتاف
هؤلاء النسوان كما سنبينه في خاتمة هذه المقالات إن شاء الله تعالى.
هذا وإن الدكتور فخري ختم احتجاجه على وجوب مساواة المرأة للرجل بأنها
إنسانة مثله وأخت له - وأعاد ذكر واجبات الأمومة - ثم قال: وإن كان حق
الميراث ناتجًا (كذا) عن النبوة فهي أكثر منه عطفاً على والديها وهي أكثر منه
برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما. اهـ.
ونقول في تفنيده: إن الإنسانية ليست مناطاً للإرث ولا سببًا لتحديد درجات
الوارثين فذِكْرها في هذا البحث لغو. وأما كون الوارثة أختًا للوارث معها وبنتاً
لمورثهما فهي إنما تقتضي المساواة بينهما في نفقة الوالدين عليهما وفي عطفهما أو
إكرامهما لها، وهذا حق قررته الشريعة الإسلامية فلا يجوز للوالدين تفضيل بعض
أولادهما على بعض فيما تتساوى حاجاتهم فيه عرفاً؛ لأنه ظلم وسبب للتحاسد
والتعادي بينهم، والواقع بالفعل أنهما ينفقان على البنت أكثر مما ينفقان على الابن
في الغالب؛ لأنها تحتاج من الحلي والحُلَل الحريرية وغيرها ما يفوق ثمنه ما ينفق
على ملابس أخيها، والذي أعرفه في بيوتنا وتربيتنا الإسلامية أننا نكرم البنات
ونخصهن بعطف زائد عل عطفنا على البنين، فلا أذكر أن أحداً من رجالنا ضرب
بنتاً ضرب التأديب الذي لا يسلم منه أحد من البنين وقد كنت في بيت أبي أضرب
إخوتي الصغار وأوبخهم وأنهرهم بغليظ القول، ولم أضرب أختاً من أخواتي قط،
ولا أذكر أنني أغلظت على إحداهن في القول. ولو شئت لذكرت ما هو أبلغ من
ذلك في تربيتنا الإسلامية ولله الحمد.
ثم إن الوالد يجهز البنت عند تزويجها بأضعاف ما قد يدفعه مهرًا لزوج الابن
إذا لم يدفعه هذا من كسبه، وقد اعتاد المسلمون المغالاة في هذا التجهيز حتى صاروا
يبذلون فوق ما تسمح لهم به ثروتهم، فيقترضون بالربا ولو فاحشاً أو يبيعون
الأرض والعقار بأقل من ثمن المثل لأجله، ولا يستحيي هؤلاء المفتاتون على
المسلمين في شريعتهم وبيوتهم من عيبهم بالتقصير مع الإناث وهضم حقوقهن وهم
يعلمون كل هذا.
وأما الإرث فلا يناط بدرجة القرابة وعاطفتها، بل هو ركن من أركان تكوين
الأسرة ومصالح الأمة الاقتصادية، وكل منهما يقتضي أن يكون جل الثروة في
أيدي (الجنس القوي النشيط) لأنه أقدر على جميع أنواع التثمير والاستغلال
والقيام بشؤون النفقات المنزلية (العائلية) والقومية والدولية، والذي يقعد
(بالجنس اللطيف الضعيف) عن مجاراته في الأمرين (الاستغلال والإنفاق) هو
وظيفة الأمومة؛ الأمومة التي عكس الدكتور فخري القضية وخالف مقتضى الفطرة
فجعلها سببًا للمساواة.
وجملة القول أن الإسلام خالف جميع الشعوب وشرائعها بما شرعه من العناية
بالنساء، وإعطائهن أكمل حقوق الزوجية التي تقتضيها سنن الفطرة السليمة،
ومنحهن في الإرث نصف ثروة الأسرة من جميع وجوه القرابة النسبية والزوجية
ولم يضع عليهن من الواجبات المالية نصف ما وضعه على الرجال، فقد ترث
المرأة المتزوجة أباها وأمها وبعض إخوتها وأخواتها وعمومتها وهي في حجر
زوجها ينفق عليها وعلى أولادها، ولا يكلفها الشرع أن تنفق من ذلك شيئًا على نفسها
ولا على أولادها فضلاً عن زوجها، إلا أن تتفضل بالتبرع بذلك فتكون لها المنة.
وأما أخوها الذي يشاركها في هذا الإرث كله فيأخذ منه مثلَيْ ما تأخذه فهو
مكلف أن ينفق على زوجة أو أكثر وعلى أولاد قد يكونون كثيرين، فأيهما يكون
أكثر مالاً، وأحسن حالاً، وأضمن مآلاً؟
إذا تيسر للمرأة استغلال ما ترثه كما يستغله أخوها أو أحسن إما بنفسها عند
توفر الوسائل وانتفاء الموانع الزوجية والوالدية، وإما باستخدام أولي الكفاية من
الرجال - فإن ثروتها تزيد على ثروة أخيها المثقل بنفقات الزوجية والأبوة أضعافًا.
ولو شئنا لوضعنا لذلك مُثُلاً حسابية تتجلى بها تفاصيل هذه المسألة المدهشة،
وذلك مما يتيسر لكل من يعرف علم الحساب على تفاوت الناس فيه.
وأراني قد أتيت في هذه المسألة بما قامت به حجة الإسلام تتبختر اتضاحاً،
ودحضت شبهة الإلحاد والإباحة تتضاءل افتضاحًا.
وأرجو من قراء الكوكب المنير أن يمنحوني إجازة في الخمسة الأيام الباقية من
رمضان وأسبوع العيد.
أعادهم الله تعالى عليهم وعلى سائر الأمة بالخير والنعمة وكشف كل غمة
وسأشرح لهم بعدها سائر الحقوق إن شاء الله تعالى.

(المنار)
عرض لنا في أسبوع العيد وعكة تجددت لنا بعدها شواغل فوق الأعمال
المعتادة فأخَّرنا بقية مسائل الموضوع، ثم عرض بعد ذلك الانقلاب المعروف في
سياسة الحكومة، وكان من نتائجه تعطيل جريدة كوكب الشرق، وسننشر بقية
المقالات في المنار، وبعد إتمامها ستصدر في كتاب مستقل إن شاء الله تعالى.