(بروتوكول لوندره ورفضه) سمي جمهور المبعوثين بعد ذلك (أوت أفندم) لتصديقهم على كلام الرئيس بدون مناقشة ولا مباحثة، ولكن كان فيهم - والحق يقال - فئةٌ عارفون بمصالح الدولة وطرق الإصلاح، جسورون على التكلم والدفاع عن حقوق الأمة والمناضلة في سبيل منافعها، غير أن الحال كانت ذات خطر شديد؛ لأن العدو كان يتأهب للحرب على الحدود، فأراد رئيس المجلس تحويل المذاكرات إلى المسائل الخارجية، لأن مندوبي الدول الست الذين عقدوا مؤتمر الآستانة اجتمعوا في لوندره وليس للدولة العلية مندوب معهم، ووقعوا بتاريخ ٣١ مارث (مارس) سنة ١٨٧٧ على (بروتوكول) أي مضبطة طلبوا فيها من الباب العالي عقد الصلح مع الجبل الأسود، والتفرغ له عن نحو عشرين ناحية من أملاك الدولة العلية، لكون لسانهم سلافيًّا ودينهم مسيحيًّا! ! ! كما طلبوا إجراء الإصلاحات الموعود بها تحت مراقبة الدول وإشرافها وغير ذلك، وأبلغوا هذه المضبطة إلى الباب العالي في ٣ نيسان (أبريل) سنة ١٨٧٧. جاء ناظر الخارجية إلى مجلس المبعوثان وقرأ على أعضائه ترجمة البروتوكول وشرح لهم أحوال السياسة الخارجية وأفهمهم أن رد البروتوكول تكون نتيجته إعلان روسيا للحرب علينا، وليس للدولة العلية عضد من بقية الدول كما كان لها في حرب القرم، ولا نقود في خزينتها. وكرر عليهم ما قاله مدحت باشا في المجلس العالي لدى مذاكراته في لائحة مؤتمر الأستانة، وكانت أكبر الصعوبات من العسرة المالية، وشدة الاحتياج إلى التجهيزات العسكرية. فاعترض أكثر المبعوثين على قبول البروتوكول، وأظهروا من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا مزيد عليه، وكان مبعوثو الأرناءوط المجاورة بلادهم للجبل الأسود أشدهم اعتراضًا، وقام مبعوث الأكراد , فقال ما ملخصه: تزعمون أن المالية في ضيق شديد، فكيف يمكننا تصديق ذلك وأنتم في هذه البهرجة والألبسة الغالية والدور المفروشة بأحسن الأثاث والرياش والعربات والخيل المطهمة؟ تعالوا إلى عندنا في كردستان وانظروا بؤس العيش ومرارة الحياة التي نحن فيها! ! لما كنت في بلادي لم يكن علي إلا ألبسة مرقعة بالية كبقية إخواني من أهالي كردستان، ولما رأيتكم ترتدون أحسن الألبسة وتتألق على صدوركم النياشين المجوهرة خجلت من نفسي فاشتريت الثوب الذي ترونه علَيّ من سوق الدلالين! ! وأنا مرهق، لا مِن المخازن الكبيرة وأنا موسر، وإذا كانت سلامة الوطن والمحافظة عليه تقضي علَيّ ببيعه فأنا أبيعه وأنا مغبوط وأعود إلى ثوبي المرقع. ثم قال الرئيس في ختام المذاكرة: هل يقبل المجلس ما جاء في البروتوكول لملاحظات ناظر الخارجية؟ فرفض المجلس قبوله بالأكثرية، وكانت الأقلية ثمانية عشر صوتًا من الروم المبعوثين عن الروم أيلي ومن الأرمن. فنظم الباب العالي نشرة مؤرخة في ٩ نيسان (أبريل) سنة ١٨٧٧ احتجّ فيها على بروتوكول لوندره المنظم بدون اطلاعه وانضمام رأيه، وقال: إن تكليف الباب العالي إجراء الأحكام على ما يقضي به هذا البروتوكول مخالف لاستقلال المملكة العثمانية الذي أقرته الدول في معاهدة باريس، فقرئت هذه النشرة على مجلس المبعوثان فاستحسنها وأقرها وشكر الباب العالي على تنظيمها، فأجاب عنها البرنس غور جاقوف في بطرسبرج بنشرة رفعها إلى الدول في ١٩ نيسان (أبريل) مضمونها: أن الباب العالي رفض إجراء الإصلاح الموعود به فصارت الحرب ضرورية؛ لأن روسيا مضطرة إلى إيفاء واجباتها نحو الأهالي المسيحيين! فأجاب الباب العالي بنشرة أخرى للدولة قال فيها: إن تركيا لا ترفض إجراء الإصلاحات، وإنما ترفض الإشراف والمراقبة على أعمالها؛ لأن في ذلك غمطًا لحقها وإزراءً بشرفها , وعبثًا باستقلالها الذي أقرت عليه الدول الموقعة على معاهدة باريس. وصارت النشرات (سير كولير) والمحررات السياسية تتطاير من عواصم أوربا والإنذارات (ميمو راندوم) والمذاكرات تتساقط على السفراء ونظار الخارجية، فلم يُجْدِ ذلك نفعًا بل أعلنت الحرب في ٢٤ نيسان (أبريل) سنة ١٨٧٧. * * * (مناقشات مجلس المبعوثان وانفضاضه) بحث المجلس بعد ذلك في لائحة نظام الولايات وتشكيل مجالس الإدارة وذكر في اللائحة أن مجلس إدارة الولاية يتألف من ستة أعضاء ينتخب نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، فاعترض بعض المبعوثين على هذا التخصيص الذي هو داعية للتفريق، وقالوا: إن القانون الأساسي أطلق على جميع الرعية اسم (عثمانيين) بدون تفريق بينهم في الدين والمذاهب، وإن الأكثرية في مجالس الإدارة تكون من حق المسلمين؛ لأن الموظفين كالوالي والدفتردار (رئيس المحاسبة) والمكتوبجي ونحوهم أعضاء دائمون في مجلس إدارة الولاية، وطلبوا إخراج المفتين من بين الأعضاء الدائمين لكونهم بمثابة الرؤساء الروحيين. فقال الرئيس: ليس للمفتين صفة دينية كصفة الرؤساء الروحيين، ورغم انتشار هذا الزعم الفاسد، فالمفتي ما هو إلا مأمور القانون، أي المحامي عن القانون والشريعة، وليس له سيطرة على المسلمين كسيطرة الرئيس الروحي على أبناء مِلَّته، وإنما هو من علماء الحقوق المعروفين عند الإفرنج باسم (Jurisconsulte) واعترضوا أيضًا على تسمية (متصرف) , فقالوا: إن هذا الاسم مشتق من التصرف الدال على الاستبداد والإذلال والاستعباد، فهو لا يوافق روح الحرية والمساواة. واستعلم بعض المبعوثين عن أحوال معسكر الأناضول ونقصان التجهيزات العسكرية، وعلى تعيين أحد الخدمة قائمقام، وقد كان (شوبقجي) أي حامل قصبة التدخين عند بعض الكبراء، إلى غير ذلك. ثم اشتغل مجلس المبعوثان بتدقيق ميزانية المالية، وطلبت الحكومة خمسة ملايين ليرة عثمانية للدخول في الحرب فتألف قوميسيون من أحد عشر مبعوثًا للتذرع بالوسائل المؤدية إلى الحصول على المبلغ المطلوب. فحاولوا اقتراضه من إنكلترا على أن يكون لها في مقابل ذلك واردات مصر، كما فعلوا قبلاً فرفضت إقراضهم؛ لأن التأمينات غير كافية، فقرروا عقد قرض داخلي بفائدة عشرة في المائة من واردات أصحاب الأملاك والتجار، وأخذ راتب شهرين من أصحاب الرواتب، فصدق مجلس المبعوثان على هذا القرض وعلى كل ما طلبته الحكومة منه , وختم جلساته في تموز (يوليو) سنة ١٨٧٧، فقال الرئيس: ارجعوا إلى ولاياتكم وأعيدوا الانتخابات واجتهدوا بأن ترسلوا إلينا مبعوثين أوفر عقلاً وأكثر وقوفًا على ما تحتاج إليه البلاد! ! . فيرى من ذلك أن مجلس المبعوثان - على ضعفه وعجزه وجهل أعضائه في السياسة والإدارة - لم يكن منه قصور أو تقصير في وظائفه، ولم يحصل فيه اختلاف شديد بين المسلمين والمسيحيين، وإنما كانوا جميعًا متفقين على مقاومة الاستبداد ومنع التعدي وتبذير الأموال، وكل منهم عارف بمصالح بلاده الخاصة؛ لأن معرفة ذلك لا تحتاج إلى علم كبير أو رأي ثاقب لبداهتها ووضوحها كالشمس في رابعة النهار، غير أن الواقفين منهم على مصالح الدولة العامة وسياستها الخارجية كانوا أقل من القليل، والحكومة أبت أن تعترف لهم بحق، بل نظرت إليهم نظر الوصي إلى الصبي! ! . * * * (الحرب الروسية العثمانية) استمرت الحرب الروسية العثمانية ثمانية أشهر (نيسان - كانون الأول سنة ١٨٧٧) ، وأبرزت الجنود العثمانية فيها من الشجاعة والصبر والثبات والقوة ما دل على حياة الأمة وفتوتها وسلامة جسمها من أعراض الهرم أو المرض الذي يصفها به العدو، ولكن نقصان التجهيزات العسكرية وسوء الإدارة كانا سببًا في انتصار الروس في أوربا وآسيا، وتجاوزهم نهر الطونة (الدانوب) وجبال البلقان، وأخذ القرص، ومحاصرة أرضروم من جهة الأناضول، وفتح بلفنا في الروم إيلي، ولقد أظهر عثمان باشا وعسكره من الشجاعة والمقاومة ما حير الروس وأوربا كلها فاعترفوا بفضلهم وقدروهم قدرهم (والفضل ما شهدت به الأعداء) ١٠ كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٨٧٧. * * * (طلب مدحت باشا وانتخاب المبعوثان ثانية) استنزفت هذه الحرب ثروة البلاد وأضعفت قوتها وأفرغت صناديق الحكومة من الأموال، لكثرة الإنفاق وانقطاع الوارد إليها من التكاليف والرسوم، فتقرر إعادة الْتِئَام مجلس المبعوثان، وطلب مدحت باشا من أوربا، وعقد قرض لوندره، وعقد الصلح مع روسيا، فجرى انتخاب ثان بأمور (أوامر) مؤقتة لا كما يقضي نظام انتخاب مجلس المبعوثان. * * * (افتتاح مجلس المبعوثان مرة ثانية وخطاب السلطان فيه) افتتح مجلس المبعوثان مرة ثانية في يوم الخميس الواقع في ٧ ذي الحجة سنة ١٢٩٤ و١٣ كانون الأول (ديسمبر) سنة ١٨٧٧، فذهب الوكلاء الفخام والوزراء الكرام والعلماء الأعلام وأعضاء مجلس الأعيان والمبعوثان وسفراء الدول الأجنبية إلى سراي بشكطاش، واصطفوا على الصورة الآتية: فكان عن يمين الحضرة العلية السلطانية أدهم باشا الصدر الأعظم ووكلاء الباب العالي ثم موظفو المجالس العالية ثم رؤساء المذاهب المختلفة , ثم أعضاء شورى الدولة ومستشارو النظارات المختلفة وكثيرون من أعيان رجال العسكرية والملكية بحسب رتبهم ومقاماتهم، وكان عن شمالها حضرات شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب أمير مكة المكرمة قبلاً , ثم العلماء من رتبة قاضي عسكر الروم إيلي والأناضولي , ثم (الفريقان) الكرام وفريق من العلماء الأعيان. وكان أعضاء مجلس الأعيان أمام الحضرة العلية السلطانية من ناحية اليمين على صفين، وأعضاء مجلس المبعوثان أمامها من ناحية الشمال على تسعة صفوف، وفي الساعة السادسة على الحساب العربي دخل السلطان الأعظم وسلم الرقيم المشتمل على نطقه لسعيد باشا باشكاتب المابين، فتلاه على الحاضرين، وهو: يا أيها الأعيان والمبعوثان: إنني اكتسبت الممنونية بفتح المجلس العمومي، وبمشاهدة مبعوثي الملة (الأمة) - ثم ذكر الحرب مع روسيا والمحافظة على الملية أي القومية واللغات وحق المساواة وإدخال غير المسلمين من الرعية في الجندية والمحافظة على القانون الأساسي وإصلاح المالية والعدل في جباية الأموال الأميرية وتنظيم القوانين - وختمه بقوله: يا أيها المبعوثان: (إن إبراز الحقائق في المسائل القانونية والسياسية، وضمان منافع البلاد، يتوقفان على مجاهرة أرباب الشورى بأفكارهم بالحرية التامة، وبما أن القانون الأساسي يقضي بذلك، فإنني لا أرى احتياجًا إلى أمر أو ترغيب آخر) . * * * (مذاكرات مجلس المبعوثان) ثم انعقد مجلس المبعوثان في الدائرة الخاصة به، تحت رياسة حسن فهمي أفندي (وهو اليوم باشا من النظار) , وشرع المبعوثون في المذاكرات والمباحث بقية شهر كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) وأوائل شباط (فبراير) سنة ١٨٧٨ , وكثر الجدال بين المبعوثين وبين الحكومة - لا بين الأعضاء المختلفين بالدين واللسان - وطلب بعضهم التدقيق في حسابات المالية، وحضور ناظرها لمناقشته الحساب، ومحاكمة المرتكبين، وسؤال المتهمين باختلاس الأموال الأميرية، وسوء الأعمال المختلفة المتعددة، وقام أحد المبعوثين وقال: إن الجاندرمة (فرسان الشرطة) في الولاية التي بعثت منها تنهب الأهالي، والمحاكم ترتشي على إبطال الحق وإحقاق الباطل، والضابطة تعذب المحبوسين بالضرب وأنواع العذاب. واعترض مبعوث آخر على المذابح التي جرت في بلغارستان، وطلب التحقيق والبحث عنها. وطلب جماعة من المبعوثين عزل خمسة من الوكلاء: منهم محمود جلال الدين باشا؛ وسعيد باشا؛ وكجوك سعيد باشا، والتحقيق عن كثيرين من رجال الدولة وقواد العساكر، ولا سِيَّمَا عن الاختلاس والإسراف في نظارة البحرية وغير ذلك. * * * (إلغاء الصدارة واستبدال مجلس الوكلاء بها) بعد ذلك تولى الصدارة أحمد حمدي باشا المعروف في ولاية سوريا، وذكر في فرمان التولية (إن اعتزال أدهم باشا مدة للأعمال، كان مراعاة لصحته، هذا مع التسليم بنزاهته ودرايته، ونحن راضون عنه من كل الوجوه أتم الرضى) إلخ. وبقي حمدي في الصدارة بضعة وعشرين يومًا، وفي غرة صفر سنة ١٢٩٥ و٤ شباط (فبراير) سنة ١٨٧٨ صدر الفرمان القاضي بإلغاء لقب (صدر أعظم) واستبدال رئيس الوكلاء به، وتوجيه هذه الرياسة إلى أحمد وفيق باشا رئيس مجلس المبعوثان مع رتبة الوزارة، وتعيين مسئولية (تبعة) الوكلاء؛ أي: النظار كما هي الحال في وزارات أوربا، فحضر (الباش وكيل) الأفخم إلى مجلس المبعوثان وقال لهم ما ملخصه: (إن جلالة السلطان الأعظم تريد في الحقيقة باطنًا وظاهرًا إدارة الملك، كما تقضي أحكام القانون الأساسي، ولذا استبدلت رياسة الوكلاء بمسند الصدارة، فالوزارة الجديدة المؤسسة على قاعدة المسئولية لا ترغب إلا في سلامة الدولة وترقيها، والوكلاء مستعدون للحضور دائمًا إلى المجلس عند الطلب، ولكنهم يرجونه أن يقبل في بعض الأحيان وكلاء عن أعضائه لكثرة شواغلهم وحرصًا على أوقاتهم! ! !) . فقام أحد المبعوثين وقال ما خلاصته: إن مجلس المبعوثان له الحق وحده، ومن شأنه خاصة إحداث تغيير عظيم مثل هذا التغيير، تقولون دائمًا: إنكم تريدون المحافظة على القانون الأساسي، إذًا فاحترموا حريتنا؛ لأننا نحن الذين نمثل القانون الأساسي، ونحافظ على أحكامه، وأنتم الذين تحاولون نقضه وإبطاله... , فأحيلت المسألة على قوميسيون مخصوص ليدقق فيها في ٥ شباط (فبراير) , وكانت الحرب أوشكت أن تضع أوزارها، وعساكر روسيا استولت على أدرنه وتجاوزتها، وطلبت أوستريا (النمسا) أن تجمع في فينا مؤتمرًا من مندوبي الدول الموقعة على معاهدة باريس لتنقيح المعاهدة الجديدة بين تركيا وروسيا، والتوفيق بين أحكامها وأحكام المعاهدات القديمة، وبعثت إنكلترا بأسطولها إلى بحر مرمره في ١٤ شباط (فبراير) سنة ١٨٧٨. * * * (المجلس العالي) تداخلت دول أوربا في المسألة الشرقية بعد أن تركن روسيا تفعل ما تريد في الحرب، وعدن إلى المناقشات والمحاورات - على عادتهن - في هذه المسألة، واعتمد المابين على ما بينهن من الاختلاف واستغنى عن مجلس المبعوثان فألف في ١١ شباط (فبراير) سنة ١٨٧٨ مجلسًا عاليًا من وكلاء الدولة ورجالها وأعيانها والرؤساء الروحيين، وطلب من مجلس المبعوثان خمسة أشخاص: الرئيس ووكيليه وأحد مبعوثي الأستانة، وهو الحاج أحمد أفندي كتخدا الاسترجية (الكدش) ومبعوث آخر يهودي، فقال لهم الحاج أحمد أفندي: إن طلبكم الآن رأينا في غير محله، فقد كان يجب عليكم أن تسألونا قبل الخراب، فمجلس المبعوثان يتنصل من كل تبعة تلقى عليه لأمر وقع بغير علمه، ولم يكن برأي من آرائه، وكرر القول بأن المجلس يرفض كل تبعة في الحال الحاضرة. * * * (تعطيل مجلس المبعوثان إلى أجل غير مسمى) صمم السلطان الأعظم حينئذ على العدول عن سياسة والده الماجد السلطان عبد المجيد خان في عمل الإصلاح بإطلاق الحرية والعمل بمقتضى أحكام القانون الأساسي، وجنح لسياسة جده السلطان محمود خان في إعمال القهر والاستبداد، مفضلاً هذه السياسة، اعتقادًا منه أن الشعوب التي وضعها الله تحت يده لا يمكن تسييرها إلا بالقوة! ! وكان حضر المندوب الروسي إلى الأستانة فلم يسر بوجود مجلس المبعوثان لخلو بطرسبرج من مثله، واستبداد القيصر برعيته، ففي ١٤ شباط (فبراير) سنة ١٨٧٨ قرأ الرئيس حسن فهمي أفندي على المبعوثين منطوق الإرادة السنية القاضية بتعطيل مجلسهم إلى أجل غير مسمى! ! ! * * * (استخذاء المبعوثين والأمة لتعطيل مجلس المبعوثان وأسبابه) خرج المبعوثون يتعثرون بأذيالهم، وأنذرت الضابطة المتطرفين منهم والجسورين على التكلم وإيقاظ أفكار الأمة بوجوب المهاجرة من الأستانة! فذهب بعضه إلى الولايات العثمانية، وبعضهم إلى مصر والبلاد الأجنبية. ولم تقلق الأمة أو تتأثر من هذا الاحتقار والامتهان، ولا حصل منها هيجان أو اعتراضات! كأنها جمل المحامل. يصرفه الصبي بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غِيَر لديه ولا نكير ولم يبق من المبعوثين مَنْ أصر على مبعوثيته إلى آخر نفس من حياته إلا أفرادًا قلائلَ، كمبعوث القدس الذي كان - بجراءته - يثبت على بطاقة الزيارة (كارت فيزيت) أنه مبعوث القدس، ويقدمها إلى وزراء الدولة ورجالها لدى زيارته لهم في الأستانة، وإلى سفراء الدول الأجنبية وموظفي نظارات الخارجية في أوربا، ولما اجتمع بصديقه خليل غانم مبعوث بيروت في الاجتماع الثاني للمجلس ومنشئ المقالات الرنانة في جريدة الديبا وغيرها من جرائد باريس وذلك قبيل وفاتهما - آخذه لكتابته في بطاقة الزيارة كلمة المبعوث السابق (Député- Ex) فمحا كلمة (سابق) ، لأن صفة المبعوثية إنما هي بإرادة الأمة وانتخابها، فهي لا تزول عن صاحبها إلا بانتخاب آخر، ومجلس المبعوثان لم يلغ إلغاءً، وإنما عطل إلى أجل غير محدود، فكان اجتماعه في كل سنة من قبيل الممكنات الجائزة عقلاً ونظامًا، ولكن أكثر المبعوثين تناسوا وظيفتهم كأنها وظيفة حقيرة لا يؤبه لها وقد عزلوا منها، ولم يجسر أحد على ذكرها في ترجمة حاله الرسمية، ولم يذكرهم بها مذكر ولا وعظهم واعظ! ! ولا حررت في هذا الموضوع جريدة من جرائد المملكة العثمانية. إن لهذا السكوت والاستخذاء أسبابًا كثيرة. منها أن الحرية أمر تستحوذ عليه الأمة بالغلبة والاستيلاء، وليست مما ينعم به إنعامًا أو تعطى جزافًا، ولقد كانت الأمة حينئذ منهوكة القوى مكسورة الجناح بسبب الحرب، لا دار إلا وفيها مأتم، ولا أسرة إلا وقد أصابتها مصيبة. وزاد البلاء بسبب البحران المالي، ونزول قيمة المسكوكات (النقود) فكانت الأسرة تبعث خادمها إلى السوق ليشتري القوت الضروري فيعود إليها خاوي الوفاض لعدم رواج النقود، فتطوي على الجوع وتتفتت أكباد الوالدين لبكاء أطفالهم. ثم إن الأمة هي عبارة عن أهل العاصمة منبع الاستبداد وأهالي الولايات والقرى، والعساكر المنظمة، المدربة على الحرب، المسلحة بالأسلحة الجديدة والمدافع، فأما أهل الأستانة ولا سيما المسلمون، فإنه لا يتصور قيامهم لطلب الحرية لأن جلهم - إن لم نقل كلهم - موظفون أو عائشون في ظل الموظفين، والعساكر المسلحون واقفون لهم ولأهل الولايات بالمرصاد، وقادرون على إخماد نار أية ثورة أو مظاهرة، وأن قيام طائفة مسيحية وحدها لطلب الحرية مما لا يرضى به المسلمون ولا بقية الطوائف المسيحية واليهودية، كما شاهدنا ذلك في أرمينيا ومقدونيا التي اشتدت فيها المناقشة بين الروم والبلغار والصرب والرومان، كما أن العساكر وحزب الأحرار العقلاء لا يرضون به؛ لأن قيام كل ملة على انفراد يقضي بتقسيم الممالك وتفريقها وضعفها، وإثارة أضغان العداوة الموروثة من الحروب الصليبية والقرون المتوسطة المظلمة، على أن هذا القيام كان مصدره الكنائس والأديار بإيعاز الرهبان والقسيسين والمبشرين والمرسلين، فكان سببًا لإيجاد المذابح والفظائع ومداخلة الأجانب. أما حزب تركيا الفتاة الذي أسسه مصطفى فاضل باشا وخليل شريف باشا، فإنه لم يكن في عهد مدحت باشا إلا فئة قليلة من صغار الموظفين وضباط العساكر والمتعلمين في المدارس الجديدة، والذين درسوا شيئًا من اللسان الفرنساوي أو الإنكليزي، واشتهروا باسم (إنكلز) لتعلمهم الإنكليزية فقط، مثل: إنكلز سعيد باشا، إنكلز كريم أفندي، إنكلز علي بك، والد أحمد رضا بك، روح هذا الانقلاب، أو الذين أصلهم من الأوربيين، فأسلموا ودخلوا في الوظائف، مثل عمر باشا المجري، ونوري بك بن المركي دوشاتونيف الفرنساوي، وكثير غيرهما، أو الذين تزوجوا بنسوة أوربيات وربوا أولادهم تربية إفرنجية أو غير ذلك، فكانت هذه الفئة متحدة بالفكر في إعجابها بالمدنية الأوربية وميلها إليها، ولم تكن لهم جمعية ولا رابطة غير الرابطة المعنوية الفكرية؛ لأنهم من موظفي الحكومة والوظائف تضطرهم إلى إخفاء الرأي، وإطاعتهم لآمريهم إطاعة يفرضها العقل والسياسة، وإلا كانت الأمور فوضى، ولكن الجامدين من المسلمين لم يفرقوا بين الدين المسيحي والمدنية الأوربية، واعتبروا كل إصلاح صدر من أوربا المسيحية مخالفًا للدين والآداب الإسلامية، وشتان ما بين المدنية الأوربية والدين المسيحي. * * * (سعاوي أفندي وحادثة جراغان) على أن بعض المتطرفين من حزب تركيا الفتاة ثاروا بزعامة علي سعاوي أفندي، وكان من طلاب العلم المعروفين بالصوفتاوات، مطلعًا على العلوم العربية والفنون الرياضية، وواقفًا على الأفكار الجديدة. نفي في أيام السلطان عبد العزيز وصدارة عالي باشا، وفر إلى باريس ولوندره ونشر ثمة الرسائل والمقالات، وكان ينفق على نفسه فيهما مما ينفحه به بعض رجال الأستانة، ثم عاد إليها وصار من حزب مدحت باشا أنصار القانون الأساسي، وعين مديرًا للمكتب السلطاني ثم عزل، فاتفق مع صالح بك الأرناؤوط، أحد الضباط، وجمعا فئة من المهاجرين فكانوا زهاء مائة رجل، وهجموا على سراي جراغان لإخراج السلطان مراد منها ومبايعته، واسترداد الحرية والقانون الأساسي، ففاجأتهم العساكر بالسلاح فشتت شملهم. وكانت هذه الحادثة في ١٣ مايس (مايو) سنة ١٨٨٧ زمن رياسة صادق باشا لمجلس الوكلاء. * * * (صدارة رشدي وصفوت وخير الدين التونسي) لبث أحمد وفيق باشا (باش وكيل) لمجلس الوكلاء مدة قليلة، ثم وجهت إلى صادق باشا، فبقي فيها تسعين يومًا، ثم استبدلت الصدارة (بالباش وكالة) , وعين فيها رشدي باشا، ودام فيها ثمانية أيام، ثم عين لها صفوت باشا، ناظر الخارجية، فاكتسب فيها ثقة الحضرة السلطانية، ولم تطل فيها مدته، وعين لها خير الدين باشا، الجركسي الأصل، والتونسي النشأة، وهو مؤلف التاريخ العربي (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) وله وقوف على العلوم العربية وعلى الفرنساوية، وتجول في ممالك أوربا، وقد طلب منها في سنة ١٢٩٤هـ كما طلب السيد جمال الدين الأفغاني وغيره، وعين رئيسًا لشورى الدولة ثم (صدر أعظم) سنة ١٢٩٥ وبقي في الصدارة ثمانية أشهر، ثم استقال وبقي جليس بيته إلى أن تُوفي سنة ١٣٠٧ في الآستانة. فكان في طلبه وتوظيفه شبه ميل إلى سياسة (بانسلاميزم) ولكن هذه السياسة لها معنيان: المعنى القديم الاستبدادي الذي مشى عليه خلفاء بني أمية والعباسيين، وهو مخالف لحقيقة الإسلام، ومُنافٍ لروح العصر الجديد والمدنية الحاضرة - والمعنى الحديث وهو يوافق أصل الإسلام والمدنية، ولكنه يخالف مسلك المستبدين بالأمر، ويحول بينهم وبين مآربهم، وهو أشد وطأة عليهم من القانون الأساسي وحزب تركيا الفتاة. * * * (صدارة كجوك سعيد باشا وأعماله) ثم عين لمسند الصدارة سعيد باشا، المشهور بسعيد باشا الصغير (كجوك سعيد) تمييزًا له عن سَمِيّه ناظر الداخلية الكردي الأصل والمتوفى قبل بضع سنين، وكان سعيد باشا الصغير محررًا في جريدة (حوادث) ، فاتصل بالداماد محمود جلال الدين باشا ودخل بوساطته المابين وصار باشكاتب له، وهو المتسبب في إبعاد مدحت باشا وتعطيل أحكام القانون الأساسي، وإعلان الحرب، وعزل القائد (السردار) عبد الكريم باشا وإخلائه موقع (بيله) أمام بلفنا، ومداخلة المابين في إدارة جميع الشئون العسكرية، وإصدار الأمور من السراي السلطانية أثناء الحرب، وتقسيم المملكة العثمانية في معاهدة سان ستفانو، التي نقحتها معاهدة برلين , إلخ، فإن الإرادات السنية في جميع ذلك كانت تصدر برأي سعيد بك باشكاتب المابين وتوقيعه، ولهذا كان مبغوضًا من حزب تركيا الفتاة؛ لأنه كان آلة وعونًا على الاستبداد، وعلى إدارة المصالح بدون رأي الباب العالي. مع أن باشكاتب المابين كان لذلك العهد ينتخب من قبل الصدارة العظمى، وكان الصدور لا ينتخبون لهذه الوظيفة إلا الذي يعتمدون عليه لعرض المضابط والمقررات والإنهاءات واستصدار الإرادات السنية بها، ولم يكن للباشكتاب نفوذ معارض لنفوذ الباب العالي صاحب التقاليد والأصول المرعية في إدارة المملكة، ولا سِيَّمَا في أيام رشيد باشا وفؤاد باشا وعالي باشا، فلما توفي عالي باشا , وتولاها محمود نديم تدنت أهميتها بسبب نفاقه وتملقه للمابين وتقديمه أموال الخزينة إليه بغير عد ولا حساب. ولما ولي سعيد باشا الباشكتابة زالت أهمية الصدارة بتة، وانحصرت الأعمال والإدارة في المابين، وصار للباشكاتب نفوذ يمكنه أن يطلب مدحت باشا الصدر الأعظم إلى المابين ويبلغه الإرادة القاضية بنفيه على الباخرة عز الدين! ! تولى سعيد باشا الصدارة بعد مدحت، واشتهر بالنزاهة والاستقامة، فلم يسمع عنه ارتكاب ولا انهماك في جمع الأموال وادخارها، ولهذا كان أقل الصدور ثروة، وكان شديد السطوة على المرتكبين، كثير البطش بهم والاستبداد فيهم، ولكنه عادل في أحكامه وعقابه. وفي زمن صدارته وضع نظام المعارف، وأسست المدارس على النسق الجديد، وصار للمعارف إيراد وافٍ من واردات الحصّة التي أضيفت إلى الأعشار، ونظمت نظارة العدلية وأصول المالية، وأسست إدارة الديون العمومية، وبُوشِرَ في مد بعض الخطوط الحديدية وإصلاح الطرق والمعابر، من دون أن يؤدي إعطاء امتيازاتها إلى ارتكاب فاحش. فكان أصلح الصدور في الدور الأخير، ولم ينتقد عليه حزب تركيا الفتاة إلا استبداده ومقاومته مشروع مدحت باشا وتوقيف أحكام القانون الأساسي وجميع ما صنعه وهو رئيس كتاب المابين. لم يصد سعيد باشا كونه من رجال الكامريلا - لأنه نشأ وتربى في المابين - أن يحاول الاستقلال في وظيفته وإعلاء شأنها ورفع مكانتها، وتمشية المصالح بالعدل، على قاعدة مطردة وأصول منظمة، كما كانت عليه في زمن عالي باشا. فأصبحت بذلك أعمال سعيد باشا موضعًا للريبة، وكثرت الوشايات به، فصار مبغوضًا منفورًا منه، ووضعت عليه العيون والجواسيس، وصارت أعماله تراقب مراقبة دقيقة، فأُحْدِثَ قلم للترجمة في المابين وانجمن التفتيش (مجلس التفتيش) والمعاينة في نظارة المعارف لمراقبة الكتب المطبوعة والتدريس ومصادرة المُضِرّ منها (!) على زعمهم وبِحَسَب اصطلاحهم، وقلم مراقبة المطبوعات الداخلية والأجنبية في الباب العالي. هذا ماعدا دوائر وشُعْبَ الخفية (الجواسيس) المتعددة المحدثة التي مركزها في المابين تحت نظارة السرخفية (رئيس الجواسيس) فهذا الذي قضى بسقوط سعيد باشا في الحقيقة والواقع، فذهب بإصلاحاته أدراج الرياح، وإن كان عزله في الظاهر بسبب احتلال البلغار للروم إيلي الشرقية، وإصراره على إرسال العساكر، كما تصرح بذلك معاهدة برلين. * * * (صدارة كامل باشا الصدر الحالي) تولى الصدارة كامل باشا الصدر الحالي بعد سعيد باشا، ومولده في جزيرة قبرص ومرباه في مصر، ولهذا نسب إليها، وله معرفة باللغات الأجنبية وبإدارة الدولة، لأنه تقلب في جميع وظائفها، فمن قائمقام إلى متصرف إلى والٍ إلى ناظر، ولكنه في نظر تركيا الفتاة كان أقلَّ شهرة من كثيرين من الوزراء والرجال الموجودين إذ ذاك. واستمرت صدارته ست سنوات، وهو آلة في يد المابين، مطيع لما يلقى عليه من الأمور، ثم ظهرت شجاعته فعارض وعاند، فأصابه ما أصاب سلفه سعيد باشا من سوء الظن به، والريبة في أعماله وشئونه مما قضى بَفَصْله. * * * (صدارة جواد باشا وضعف الدولة) لما ولي الصدارة جواد باشا، قوبل ذلك بالاستغراب العام، ولم يكن يخطر تعيينه ببال؛ لأنه من أمراء العسكرية، وهو صغير السن، غير متمكن من اختبار الإدارة الملكية، على أنه كان من النابتة الجديدة، وتخرج في المدارس العسكرية، وربما كان الغرض من تعيينه هو الإيهام بالعود إلى الإصلاح وإطلاق الحرية، ولكنه في الحقيقة لم يكن قائمًا بوظيفة الصدارة، بل كان ياورًا للحضرة السلطانية مكلفًا بتنفيذ الأمور التي تلقى إليه! ! كما كان رئيس الوزارة الألمانية ياورًا للحضرة الإمبراطورية، ولكنه غير مسئول أمام الريشستاغ! فلم يبق بعد ذلك شأن للصدارة، واستولى رجال المابين على الشئون كافة، وصار في يدهم العزل والتوظيف والحل والربط وإعطاء الامتيازات بمد الخطوط الحديدية واستخراج المعادن وسائر الأمور النافعة، وكانوا يتناولون الرشى من وراء ذلك بصورة فاحشة. واستولوا على الأوقاف، ووسعوا نطاق الخزينة الخاصة بانتزاع الممتلكات من أيدي أصحابها بالثمن البخس، وإقامة الموظفين فيها يعارضون بنفوذهم موظفي الحكومة ونفوذها، حتى أصبح المابين حكومة صغيرة قوية! ! داخل حكومة كبيرة ضعيفة! لأن مركز الحكومة نقل من الباب العالي إلى سراي يلديز السلطانية! ! * * * (الجاسوسية في الدولة العلية) ضعفت إدارة الدولة وجعلت تتدهور بسرعة إلى دَرَكات التأخر والانحطاط، بعد أن خطت خطوات محمودة في سبيل التقدم أيام صدارة سعيد باشا، وانقطع أمل الأحرار العثمانيين وخاب رجاؤهم بعد أن كانوا يؤملون تخليص الدولة والمملكة من المرض الذي مُنِيَتَا به قديمًا. فاضطهد هؤلاء الأحرار وأهينوا وعوملوا أسوأ معاملة، حتى ذاقوا أشد العذاب الوجداني والأدبي، وصار أرباب الدناءة والفساد يتقربون إلى المابين بالتملق والوشاية والتجسس على إخوانهم وأعمامهم وآبائهم! ومنهم من تجسس على أمه وأخيه فنفيا من الأستانة، فكانوا - بمفترياتهم - يصورون الرعية الصادقة للسلطان الأعظم كالوحوش الضارية، تريد افتراسه ونزع تاجه، ويزينون في عينيه الاستبداد، ويبعدون عنه الخبيرين بأمور الدولة، العارفين بطرق الإصلاح، زاعمين أنهم من ذوي الأفكار المتطرفة وحزب تركيا الفتاة، حتى اختلّ نظام المملكة، وبطلت مراعاة الأحكام القانونية، والسير في إدارة الدولة على الأصول والتقاليد المعروفة من القديم، وفسد التعليم في المدارس، وانحرفت إدارة الأمور الداخلية والخارجية عن محورها، ومالت إلى التدلي والانحطاط، رغم الأبهة الظاهرة، والعظمة الكاذبة، ولا سيما في موكب صلاة الجمعة، إذ تصطف العساكر في ساحة المسجد الحميدي أمام باب السراي صفوفًا مضاعفة بعضها وراء بعض رجالاً وفرسانًا، وتتسابق مركبات الكبراء والسفراء الأجانب، ثم تشرق المركبة السلطانية من مطلع السراي و (المشيرون وكبار رجال المابين حافّون من حول المركبة، مشاة خشع الأبصار، ترهقهم ذلة من جلال تلك العظمة الإمامية، وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الفرس، وقياصرة الرومان، كبرًا وجبروتًا، وكلهم في أمواج الملابس الذهبية يسبحون وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف الأبصار) . وكان في كل نظارة من نظارات الداخلية والعدلية (الحقانية) والمالية والمشيخة الإسلامية وغيرها رجال معروفون يبيعون الوظائف والرتب بأسعار معلومة، ويقتسمونها هم وكبار الموظفين، فمن اشترى وظيفة بمائة ليرة فأكثر، فإنه يجتهد في استغلاله منها أضعاف ما بذله بإرهاق الأهالي وظلمهم أو اختلاس الأموال الأميرية أو بكليهما. * * * (الميل عن إنكلترا إلى ألمانيا والحوادث الأرمنية) انحرفت سياسة المابين عن إنكلترا الملحة في طلب القيام بالإصلاحات وتغيير الإدارة المستبدة الظالمة، واتجهت نحو ألمانيا التي لا ترى بأسًا في إدارة الدولة بالقسر الاستبدادي، فجنح بعض ساسة الإنكليز للأرمن ومالوا إليهم، وساعدوا جمعيتهم السرية التي في لوندره، وأشار عليهم بعض رجال السياسة كغلادستون بالقيام والهيجان، حتى إذا حدثت في البلاد مذابح كمذابح البُلْغار هاجت الأفكار العمومية في أوربا، وتسنى لحكوماتها المداخلة في طلب الامتيازات لأرمينيا، كما حدث في البلغار والجبل الأسود والصرب. ويساعد على ذلك نص المادة الحادية والستين من معاهدة برلين، فقد جاء فيها ما معناه (يتعهد الباب العالي بأنه يسرع في القيام بالإصلاحات والتحسينات التي تقتضيها حال البلاد الداخلية في الولايات الآهلة بالأرمن، وبحمايتهم من الجراكسة والأكراد، ويعطي الباب العالي في معظم الأوقات معلومات عن التدابير المتخذة في هذا السبيل للدول المشرفة على القيام بالإصلاحات) . وفي سنة ١٨٩٠ تشكلت جمعية انقلابية أرمنية [١] لتحرير الأرمن التابعين للدولة العلية وروسيا والعجم، وكان رأس مالها مائة وثلاثين ألف فرنك، وميزانيتها اليوم مليون فرنك، منها ثلاثون في المائة للقيام بالحركات الانقلابية والسياسية، وخمسة وعشرون في المائة لتسليح الأمة، وعشرون في المائة للنشرات والتبشير، فأحس أحرار العثمانيين بذلك وتأثروا جدًّا، فاجتمعوا سرًّا وتشاوروا، وخابر بعضهم كبراء الأرمن وعقلاءهم , وقالوا لهم ما حاصله: لا مَحَلّ لإصلاح ولايات أرمينيا وحدها دون باقي الولايات العثمانية، فالواجب طلب الإصلاح للمملكة العثمانية كلها. نعم إن الأرمن يتألمون من الإدارة الحاضرة، ولكن الظلم والاستبداد ليسا موجهين إليهم خاصة، بل هما شاملان للأرمن والأتراك وعموم المسلمين والمسيحيين، فإنهم جميعهم يَئِنُّونَ تحت أثقال التكاليف وارتكاب الموظفين ومعاملاتهم القسرية والاستبدادية، ويتحملون أنواع الظلم والاعتساف وهضم الحقوق. وحظ المسلمين من ذلك أكبر، لقيامهم وحدهم بأعباء الخدمة العسكرية التي تقعدهم عن زرع الأرض واكتساب الثروة والرفاه والنمو والازدياد في العدد، وإن اتفاق الأرمن والأتراك على القيام بطلب الإصلاحات اللازمة وتأسيس حكومة مقيدة حرة يعد من الحمية والغيرة الوطنية، ولكن قيام الأرمن أو طائفة أخرى على انفراد بمساعدة الأجنبي وترغيبه لا تعده تركيا الفتاة إلا خيانةً وجنايةً وضررًا بمنافع الوطن المشتركة. على أن الأرمن كانوا لدى تجنسهم بالجنسية العثمانية لا يزيدون عن بضعةَ عَشَرَ ألفًا، وقد أصبحوا اليوم يعدون بالملايين، وإن القاطنين منهم في العاصمة والمدن الكبيرة على جانب عظيم من الغنى والثروة والرفاه، وبيدهم الشئون المالية والوظائف العالية والرتب السامية، وهم على وفاق وائتلاف تام مع الأتراك، حتى إذا أطلقت كلمة (ملت [٢] صادقة) لا تنصرف إلا إلى الأرمن. فبِنَاءً على هذا الامتزاج التامّ بين الترك والأرمن، وما فيه من الفوائد والمنافع للفريقين، طلب بعض أحرار الترك من معتبري الأرمن وعقلائهم إفهام الجمعيات السرية الأرمنية التي في أوربا هذه المقاصد، واستعمال نفوذهم لتعديل المطالب الأرمنية ونبذ التهور في سياستهم. وفي سنة ١٨٩٤ اشتعلت نيران الحادثة الأرمنية، وحصلت مذابح ساسون، وخربت ثلاثون قرية من قراهم. كل هذا وجواد باشا الصدر الأعظم لاهٍ عَنِ اتخاذ الوسائل لحسم هذه المسائل، والقيام بالإصلاحات في جميع أرجاء المملكة، ولقد كانت سياسته محصورة بالتدابير المؤقتة لإيقاف الاعتداء وسلوك سبيل المماطلة والإرجاء، وأوربا - ولا سيما إنكلترا - واقفة للدولة بالمرصاد، تخلق لها المسائل والمشاكل واحدة بعد أخرى. فمن الحادثة الأرمنية إلى المشكلة الكريدية إلى المسألة المقدونية وهلمّ جرّا... ورجال المابين أكثرهم جهلاء أغبياء، لا خبرة لهم بالسياسة، ولا معرفة لهم بالشئون الحاضرة. وقليل منهم شياطينُ أبالسة لا يدأبون إلا على جمع الأموال وادخارها، ولو أدى ذلك إلى خراب الوطن وسقوط المملكة، فكانوا يخوفون السلطان من حزب تركيا الفتاة، ومن القيام بالإصلاحات، ويشيرون باتخاذ التدابير السيئة حتى حدث ما حدث من المذابح والفظائع التي نسبت إلى الإسلام. والإسلام يبرأ إلى الله منها: والدين إنصافك الأقوام كلها ... وأيُّ دِين لآبي الحق إنْ وَجَبَا والمرء يُعْيِيهِ قَود النفس مصحبة ... للخير وهو يقود العسكر اللجبا (تأسيس جمعية الاتحاد والترقي) كان من نتيجة هذا الخلل في الإدارة والاستبداد والعسف بالأمة أن تأسست في الآستانة جمعية الاتحاد والترقي لإخماد نار الفتن المشتعلة في البلاد، وطلب الحرية والعدل لجميع العثمانيين، وتأييد روابط الحب والأمان بين الأمة - المؤلفة من السنة وأديان مختلفة - وبين الدولة. وقد بعثت الجمعية في تلك السنة (١٨٩٤) فريقًا من الشبان الأحرار - أكثرهم من طلاب المدرسة الطبية - إلى باريس ليؤسسوا فرعًا للجمعية فيها ويقوموا بنشر الجرائد والرسائل. وكان في باريس إذ ذاك عدد ليس بالقليل من الشبان العثمانيين، بعضهم يدرس على نفقة الحكومة العثمانية أو نفقته الخاصة، وبعضهم يدرس ويشتغل بالمسائل السياسية، وأشهرهم أحمد رضا بك، صاحب اللائحة المشهورة. * * * (أحمد رضا بك ومبادئ جمعية الاتحاد والترقي) وُلِدَ أحمد رضا بك في الأستانة منذ خمسين سنة تقريبًا، ووالده إنكلز علي بك، وأمه مجرية، وسمي إنكلز لتعلمه الإنكليزية ووقوفه على المدنية الأوربية، كما مر بيانه، وإلا فهو من الأتراك المسلمين، وكان من معتبري الموظفين الذين نشئوا في عهد مصطفى رشيد باشا وعالي باشا. فتخرج أحمد رضا بك في مدارس الآستانة، وعُيِّنَ مديرًا للمدرسة الإعدادية في مدينة بروسة، فأحس من نفسه بلزوم السفر إلى أوربا للاطّلاع على علومها ومدنيتها، فذهب إلى باريس سنة ١٨٩٠ واختلف إلى مدرسة الزراعة، لشدة احتياج المملكة إلى العلوم الزراعية، وتعرف إلى علي شفقتي بك، الذي كان يصدر جريدة (استقبال) في إيطاليا ثم في فرنسا، وهو من رجال السلطان مراد. وكان رضا بك كثير التردد على المكتبة الأهلية في باريس، فاطلع فيها على أهم الكتب والفنون، واشتغل بالمسائل السياسية، وحرر لائحة مفصلة مشتملة على رسائل في إصلاح الإدارة والمالية والزراعة والتجارة وغير ذلك، بعد أن درس لائحة مصطفى فاضل باشا، ووصية فؤاد باشا، وما حرره ملكوم خان وشارل ميزمر وغيرهما من أكابر الرجال المشتغلين بالسياسة الشرقية والواقفين على أسباب الانحطاط وعلله الفلسفية. سلك أحمد رضا بك في الفلسفة الحقيقية مسلك أوكوست كونت وخليفته بيير لافيت، وصار إمامًا في هذه الطريقة المؤسسة على (النظام والترقي) وهذه الكلمة هي شعارهم، وعليها بناء أعمالهم، ومن مبادئهم التفاني في حب الوطن وخدمة الجماعة، أي وَقْف حياة الفرد على خدمة المجموع، وهم ينفرون من الانغماس في الشهوات وتبذير الأغنياء، لأن المبذرين إخوان الشياطين، ويشددون النكير على الذين يبتزون الأموال الأميرية ويأكلون أموال الناس بالباطل ويعبثون بالحقوق العمومية، فالمرتكب الملوث بالرشوة يعدونه ساقطًا مهما بلغ علمه وقدره. فأحمد رضا بك متصف بكل هذه الخلال الجليلة، وقد ضحى نفسه وشبابه في سبيل المحافظة على مَبْدَئِهِ، ورفض قبول الألوف من الدنانير، وهزئ بالمناصب العالية التي كانت تعرض عليه، مع شدة حاجته واضطراره، وتحمل الأذى والمكاره، وجاهد في سبيل استرداد الحرية حق الجهاد قائلاً: لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي لما تحولت عما قصدت إليه. فكان بالحقيقة من أولي العزم الصادق، ونشر تعاليمه وأفكاره، وله رسالة مطبوعة بالفرنساوية عنوانها (التساهل الديني) رد فيها على الذين يتهمون المسلمين بالتعصب، واستدل بكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مما دل على غزارة علمه. وأما اللائحة التي مر ذكرها، فهي رسالة باللغة التركية مشتملة على تحقيق وعلم وسياسة في إصلاح إدارة الدولة ولما تنشر، وكانت جريدته (مشورت) تصدر بالتركية والفرنساوية في كل أسبوع أو أسبوعين مرة، ثم اقتصر على القسم الفرنساوي، وهي صغيرة الحجم، مضى على إنشائها أربع عشرة سنة، ويتألف منها مجلدان أو أكثر، وربما كان له غير ذلك من المؤلفات. فإنه كثير الدرس والتحقيق، يقضي الساعات الطويلة في المكتبة الأهلية، وفي مكتبته الخاصة مؤلفات كثيرة في التاريخ والسياسة العثمانية والمسألة الشرقية. ولما وصل وفد جمعية الاتحاد والترقي إلى باريس سنة ١٨٩٤، كان رضا بك ساكنًا في شارع مونج في بيت صغير (Appartement) في الطبقة السادسة، فقصد إليه الوفد وذاكروه في انضمامه إليهم، فتردد في بادئ الأمر، وقال: إذا عزمت على شيء فإنني لا أرجع عنه مطلقًا. وكان أقدر الموجودين وأعرفهم بطرق الإصلاح ومواضع الخلل. لأن إصلاح مملكة عظيمة مشتملة على أمم مختلفة في الجنس والدين واللسان، ووارثة للخلافة الإسلامية والدولة البيزنطية - ليس بالأمر السهل، ولا يشبه إصلاح مدرسة أو إدارة تلاميذ، وإنما يحتاج إلى علوم ومعارف شتى، ونظر واختبار ونفاذ بصيرة، وليس ذلك في مقدور من درس سنتين أو أكثر في مدرسة طبية، لا تدرس فيها العلوم السياسية والحقوقية ولا العلوم الشرقية التي هي موضوع بحث العلماء المستشرقين. فقبل أحمد رضا بك الانضمام إلى الجمعية، وصار رئيسًا لفرع باريس، ونشر جريدة (مشورت) بالتركية والفرنساوية ناطقة بمقاصد الجمعية. * * * (معاكسة المابين للأحرار في أوربا) أَمَّ باريسَ من ذلك الحين كثيرون من شبان العثمانيين وكهولهم، حتى الشيوخ ذوي العمائم والفِرَاء، ونشروا الجرائد والرسائل والوريقات، وأدبوا مآدب وعقدوا اجتماعات سياسية. فانصرفت همم رجال المابين والسفارات العثمانية إلى إبطال هذه النشرات واسترضاء أصحابها بالمال والرتب والنياشين والمناصب، حتى قيل لبعضهم: (اطلب تعط) كما ينقل عن الخلفاء في حكايات ألف ليلة وليلة. وكان العطاء حاتميًا بل أكثر، كان سلطانيًّا شاهانيًّا! ! وصار طلاب الوظائف أو المعزولون يقصدون باريس، فيكون ذلك سببًا لعودتهم إلى وظائفهم. ودخل في حزب تركيا الفتاة الصبيان الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة، والتونسيون حتى الأجانب من الطليان واليونان، وأصبحت سفارة باريس مرجعًا للجميع، كأنها أعظم دائرة من دوائر الباب العالي! ! وأقدم الجرائد التي أبطلت جريدة المرصد العربية التي تعين صاحبها عضوًا في شورى الدولة، فحسده عزت باشا العابد حتى صرف قوة عقله وذكائه في سبيل الوصول إلى ما وصل إليه. وظهرت عدة جرائد ورسائل ومحررين بالتركية والعربية والكردية والفرنساوية والألبانية وغيرها، منهم أصحاب صدق وقناعة، ومنهم ذوو طمع وشعوذة، ورجال الدولة يتقربون باسترضائهم وإحضارهم كما كانوا في الأزمان الماضية يتقربون بجلب أهل الظنة من الشيوخ وأصحاب الكرامات، كالمرحومين الشيخ أبي السعود من القدس، الذي استقدموه للسلطان محمود خان، والشيخ السن من صيدا، والشيخ العمري من طرابلس الشام، وكذا المشايخ الذين كانوا في المابين وخاتمتهم أستاذنا الشيخ حسين الجسر، مؤلف الرسالة الحميدية. فلو اطلعت على تراجم هؤلاء الشيوخ ومقدار معارفهم وكيفية طلبهم والاسترشاد بهم، لعرفت ارتقاء الفكر التدريجي الذي حدث من عهد السلطان محمود، ولرأيت للانقلاب الحاضر معنى في الرسالة الحميدية التي دلت على كثير من العلوم الطبيعية والعصرية. لم يقصد من نشرات تركيا الفتاة في أوربا إلا إيصال الشكاية من سوء الإدارة إلى مسامع الحضرة السلطانية، وإفهام الدول الأوربية الموقعة على معاهدة برلين، بأن لحزبهم السياسي كيانًا ووجودًا، وأن غايتهم إعادة القانون الأساسي، فكادت أوربا تعتد بوجودهم، كما ظهر من انتصار الجرائد الباريسية لصاحب جريدة (مشورت) يوم محاكمته في باريس والحكم عليه بفرنك واحد مع تطبيق قانون بيرانجه القاضي بالسماح عنه. وبينا كان المابين يقدم رجلاً ويؤخر أخرى في إجابة حزب تركيا الفتاة إلى مطالبهم الإصلاحية وإعادة القانون الأساسي، وإذا بالمشكلة الكريدية ولدت الحرب بين الدولة العلية واليونان (نيسان - مارس ١٨٩٧) وتم النصر فيها للعساكر العثمانية، فأخذته العزة ودام على سياسته الاستبدادية وقعدت همة الأكثرين من حزب تركيا الفتاة فخضعوا لأحكام الاستبداد جبرًا وقهرًا، وإن كانوا غير راضين عنها، وذاقوا عذابًا شديدًا بسبب غلاء أوربا وكثرة الإنفاق فيها مع قلة ذات يدهم، وفراغهم من نحو صناعة أو تجارة بأيديهم، كما هي حال الأرمن والبلغار، إلا ما كان من علمهم باللغة التركية أو العربية ومعاونة الأطباء في المستشفيات بأجرة قليلة، والسهر في الليل على المرضى. والأغنياء من أهل البلاد وكبار الموظفين لم يساعدوهم بشيء، إلا بعض الأمراء المصريين الذين نهجوا نهج مصطفى فاضل باشا، مؤسس حزب تركيا الفتاة، فإنهم أمدوا بعضهم بالأموال وكانوا عونًا لهم. أما الجمعيات الأرمنية والمقدونية الانقلابية، فإن أصحابهم وأغنياء أمتهم أعانوهم بالمال وأيدوهم بكل ما في طوقهم، وقد علمت مما تقدم أن ميزانية الجمعية الأرمنية بلغت مليون فرنك، فأين هذا من جمعية الاتحاد والترقي؟ ألا إن سبب خذلان العثمانيين لجمعياتهم هو موت النُّعْرَةِ الوطنية في نفوسهم، وفَقْد الحماسة القومية، وكونهم لم يفقهوا معنى الاجتماع والتعاون. * * * (غرور المابين واستفحال الاستبداد) أظهرت الحرب اليونانية العثمانية فتوة الأمة العثمانية وحميتها وسلامتها من عوارض المرض أو الهرم، كما يصفها أعداؤها، وظهر فيها من شجاعة الضباط العثمانيين ومعارفهم ومحافظتهم على قواعد النظام الحربي، ومقدرتهم على ضبط أفراد العساكر، وكفهم عن النهب والعبث بالآداب وغير ذلك من الأعمال الهمجية ما يخلد لهم هذه المآثر في بطون التواريخ، وأبرز الجيش العثماني من الشجاعة العظيمة والصبر والقناعة المُعْجِبَ والمُعْجِزَ، وامتاز بالسلامة من الابتلاء بالمسكرات، كما هي عليه عساكر الروس وغيرهم من عساكر أوربا. زاد غرور المابين واستبداده بعد خروج الدولة من ميدان الحرب فائزة منصورة، وانتقل مركز إدارة الحكومة من الباب العالي إلى سراي يلديز، وأصبح مجلس الوكلاء لا عمل له، والنظار لا وظيفة لهم إلا تنفيذ ما يقرر في السراي. على أن الالتفات والإقبال والتقريب والنفوذ كان ينتقل من الباشكاتب إلى الكاتب الثاني إلى كاتب الشفرة [٣] إلى (الشيخ) إلى (العابد) إلى (الملاحمة) إلى غني آغا إلى لطفي آغا إلى فهيم باشا الجبار العاتي - أولئك الذين ألقوا الرعب في قلوب المسلمين والمسيحيين وغيرهم، مما دل على استبداد منقلب مذبذب حيران، حتى لم يعد لأحد ثقة بالحكومة، وكاد الانقلاب يحدث في نفس السراي. وأكثر رجال السراي أميون ويندر في كتاب المابين من يعرف اللغة الفرنساوية بلهَ غيرها من لغات أوربا، وهم في جهل مطبق بالسياسة. ولذلك كثر الخطأ السياسي وسوء الإدارة واختلاس الأموال الأميرية وظلم الرعية بما لم يسبق له مثيل. ((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ...