للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجامعة المصرية
وهبة حسن بك زايد

نام مشروع هذه المدرسة زمنًا طويلاً , وشغل الناس عنها ما أصيبت به البلاد
من العسرة المالية. ثم اختير للجنة التأسيس الأمير أحمد فؤاد باشا رئيسًا عاملاً فجد
واجتهد مع اللجنة، فهبّ المشروع من نومه حتى تقرر أن تفتح أبواب الجامعة في
أواخر هذا العام لتدريس آداب اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية , وتاريخ مدنية
الإسلام.
وكان إحياء هذا العمل بأمرين لولاهما ما تيسر الشروع فيه:
(أحدهما) أمر الأمير بأن يخصص للجامعة خمسة آلاف جنيهٍ كلَّ سنةٍ مِن
الأوقاف الخيرية.
(ثانيهما) تبرع حسن بك زايد من أهل الثراء في مديرية المنوفية بوقف
خمسين فدانًا وكسور من أطيانه الجيدة على الجامعة.
وقد احتفل في السادس عَشَرَ من هذا الشهر بتلاوة الوقفية في داره ببلده ,
فأجاب الدعوة إلى هذا الاحتفال كثير من الوجهاء وأصحاب الصحف العربية
والإفرنجية , يتقدمهم الأمير أحمد فؤاد وأعضاء لجنة الجامعة.
وبعد أن افتتحت الحفلة بتلاوة آيات من القرآن الكريم تلا حسين رشدي باشا
مدير الأوقاف خُطْبة للأمير فؤاد باشا رئيس لجنة الجامعة بالنيابة عنه , وهي
تتضمن الثناء على حسن بك زايد , وبيان أن الجامعة صارت قادرة بعد هبته هذه
على الظهور في عالم الوجود.
ثم تلا حفني بك ناصف ناموس لجنة الجامعة (سكرتيرها) الوقفية. وقام من
بعده الدكتور علوي باشا فألقى خطبة في تقدم الأمم بالعلم والحثّ على التبرع للجامعة.
ولا غَرْوَ؛ فقد كان الدكتور ممن اكتتب لها بألف جنيهٍ , فهو ما قال إلا وقد فعل.
ثم قام من بعده قاسم بك أمين نائب رئيس اللجنة العامل , وألقى خطبة نفيسة
أودعها من الفوائد الاجتماعية ما يقتضيه المقام، وما يناسب الحال العامة بمصر في
هذه الأيام، ولعلها آخِر ما دونه بقلمه من المنشآت الجميلة , فقد وافته منيته بعدها
بأيام معدودات، وإننا ننشرها لِمَا فيها من الفائدة وهذا نصها:
أيها السادة , في هذه الأيام [١] التي كثرت فيها الاكتتابات للجمعيات الخيرية
والمكاتب والمستشفيات وغير ذلك , ولا يمد يديه لمساعدتها , وتحمل جزء من
مغارمها إلا عدد قليل من سكان العاصمة , أرى أن عمد البلاد , وأعيان الأقاليم
هؤلاء الذين يصحّ أن أسميهم منكوبي المشروعات الخيرية هم أحسن أبناء وطننا،
ويستحقون ثناء الأُمّة وإعجابها.
وفي الحقيقة أن كل مشروع قام به الأفراد في بلادنا كان الفضل في نجاحه
راجعًا على الأكثر إلى سكان الأرياف؛ فإنهم وُهبوا من الحياء الطبيعي ما يجعلهم
يخجلون من رفض أي مساعدة تُطْلَب منهم , وعندهم من كرم الأخلاق ما يدفعهم إلى
بذل المال حتى إذا لم يكن في حيازتهم لتعضيد الأعمال النافعة.
طبيعة شريفة، وكرم جميل، وسهولة أخلاق محبوبة , ولكن أستسمحكم إذا
قلتُ: إن هذه الصفات كانت تفيد أكثر مما أفادت لو كانت الإدارة التي تديرها أكثر
اعتدالاً في حركتها , وأكثر تمييزًا في تأدية وظيفتها , وإذا أردت التوسع أقول:
إن أهل البِرّ في بلادنا على العموم لا يعرفون كيف يصرفون أموالهم.
أيها السادة. إن عمل الخير حسن على كل حال , ولكن أحسن منه وَضْع
الخير في محله.
لو كان المحسنون يوجهون إرادتهم إلى إحياء أُمّتهم وتعظيم وطنهم أكثر من
اهتمامهم بشراء الزهور , وتشييد القبور وإضاءة الأضرحة - لو كانوا يجودون
للأعمال بنسبة الخير المنتظر منها لكانت الجامعة المصرية اليوم كأمثالها في البلاد
الأخرى , أغنى جمعية في هذا القطر. ولكنها أفقرها جميعًا.
من التبرعات الجسيمة التي تحصل سنويًّا في هذا القطر على شكل هِبَة أو
وَقْف من كل هذا المال الذي يصرف في وجوه قليلة النفع أو غير نافعة - كان
نصيب الجامعة شيئًا قليلاً لا يُذْكر.
ولولا أنَّ عناية الجناب الخديوي أدركتها ومنحتها مرتبًا سنويًّا قدره خمسة آلاف
جنيهٍ لَرَأَيْنَا في هذا العصر - الذي تعده الجرائد والخطباء والشعراء مبدأ النهضة
الوطنية، وتتغنى فيه بمدح الشعور الوطني على نغمة تطرب السامعين وتفتح قلوبهم
وجيوبهم أيضاً - في هذا العصر الذي نريد أن نجعله حدًّا فاصلاً بين ماضينا
ومستقبلنا , ونطلب أن تتحقق فيه أمانينا العزيزة - في هذا العصر لولا أن أدركتها
هذه العناية العظيمة لرأينا شيئًا محزنًا مخجلاً , وهو أن أنفع مشروع ظهر في مصر
وُلِدَ فيها مَيِّتًا.
ولكي يكون الاعتراف بالحق تامًّا لا أستطيع أن أمنع نفسي من التصريح
بشيء يجتهد دائمًا دولة الأمير الذي يرأس هذه الحفلة أن يخفيه لشدة تواضعه , وهو
أنه من اليوم الذي قَبِلَ فيه أن يشرف لجنة إدارة الجامعة برئاسته لها , وصار في
مقدمة العاملين فيها تحققنا أن النجاح صار مضمونًا.
أيها السادة , إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرًا , ولا تعلن عن نفسها.
عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقتهم , وخدموا بلادهم وحاربوا الأمم , وفتحوا
البلاد , ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم فيحسن بنا أن نقتدي بهم ,
ونهجرَ القول ونعتمدَ على العمل.
إذا أردنا أن ننفع بلادنا ينبغي علينا قبل كل شيء أن ننظر إلى أنفسنا ,
ونعرف قيمتنا , ونزن قوتنا , وندرس أسباب تأخرنا , ثم نسعى ونعمل لتحسين
حالنا.
يجب علينا أن نفهم أن مسألتنا الاجتماعية ليست شيئًا وُجِد بالصدفة أو يتغير
بمعجزة , بل إنها كسائر القضايا العلمية مسألة تحليل وتركيب , وإن لتكوين ونمو
الجمعيات الإنسانية أسبابًا عديدةً ترتبط بالدين والشرائع والأخلاق والإقليم والجنس
واللغة وطرق التربية؛ فتغيير الحال الاجتماعية إنما يكون بتغيير الأسباب التي
اشتركت في تكوينها.
فكل ما يكتب ويقال في هذا الموضوع هو خير مبارك منتج، وما عداه فهو تعب
ضائع.
أيها السادة: إن من أهم أسباب انحطاط الأمم وارتقائها طرق التعليم والتربية,
وإذا نظرنا إلى ما يجري عندنا وجدنا أن التعليم الموجود الآن لا يصلح إلا لإعداد
موظفين أو أصحاب فنّ , يحترفون به للقيام بحاجات الحياة التي لا يستغنى عنها
كالطب والهندسة والمحاماة , وهذا التعليم يوزع في مدارسنا على الطلبة بمقدار
معلوم , لا يزيد عن الغاية التي وُضِع لأجلها.
تلك هي خطة الحكومة في التعليم وقد حذا حذوها أصحاب المدارس
الخصوصية , والحكومة تعترف بأن هذا القدر من التعليم غيرُ كافٍ , ولكنها
اضطرت إلى عدم التوسع فيه للأسباب التي شرحتها في تقاريرها العديدة , وأهمها
كما تعلمون هي مسألة المال.
وفي الحقيقة , أنه لا توجد حكومة في العالم تستطيع أن تتولى بنفسها أمر
التعليم العام بجميع فروعه ودرجاته , وإذا نظرنا إلى ما يجري في البلاد المتمدنة
نجد أن القسم الأعظم من التعليم في يد جمعيات علمية هي المؤسسة والمديرة لنظامه ,
وأن عمل الحكومة فيها محصور في تعضيدها ومساعدتها على قدر الإمكان.
هذا هو الذي حمل الحكومة المصرية على استنهاض همة الأهالي لنشر التعليم
الابتدائي , وهذا ما دعانا أيضًا إلى أن نطلب من أبناء وطننا أن يفكروا في نشر
التعليم العالي , وأن يبذلوا ما في وسعهم في سبيله ليكمل نظام التعليم في بلادنا ,
ويصبح وافيًا بجميع حاجات الأمة.
أيها السادة , نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر
وسيلة لمزاولة صناعة , أو للالتحاق بوظيفة؛ بل نطمع أن نرى بين أبناء وطننا
طائفةً تطلب العلوم حُبًّا للحقيقة وشوقًا إلى اكتشاف المجهول. فئة يكون مبدؤها
التعلم للتعلم.
نوَدُّ أن نرى من أبناء مصر كما نرى في البلاد الأخرى عالمًا يحيط
بكل العلم الإنساني , واختصاصيًّا أتقن فرعًا مخصوصًا من العلم , ووقف نفسه
على الإلمام بجميع ما يتعلق به , وفليسوفًا اكتسب شهرة عامة وكاتبا ذاع صيته
في العالم، وعالما يرجع إليه في حل المشكلات، ويحتج برأيه. أمثال هؤلاء هم قادة
الرأي العام عند الأمم الأخرى والمرشدون إلى طرق نجاحها والمديرون لِحركة
تقدمها , فإذا عدمتهم أمة حلّ محلهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدّجّالون.
أيها السادة , إذا نظرنا إلى طائفة المتعلمين في مصر , وهم متخرجو المدارس
نجد أنهم يعملون على مبدأ (اكسب كثيرًا واتعب قليلاً) ولا نجد فيهم العالم المحب
لعلمه أو فنه , والعاشق الذي تحتل شهوة العمل في قلبه , وتتمدن فيه وتملؤه برمته ,
ولا تقبل منافسًا أو منازعًا أو شريكًا أو ضيفًا بجانبها. وإنما نجد أفرادًا قليلين جدًّا
يصرفون وقتًا قصيرًا من حين إلى حين لتكميل معارفهم , ولكنهم مجردون عن تلك
الحمية تلك النار التي تشعل القلب والشعور , والتي بدونها لا تبحث النفس عن
تجديد العمل , ولا تطلب الارتقاء إلى المراتب السامية.
ألا يظهر لكم مثلي أن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لإحساسه ,
وأن أكثر الناس استعدادًا للكمال هم أصحاب الإحساس الذين تهتز أعصابهم المتوترة
بملامسة الحوادث , وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغًا عظيمًا , فيظهر أثرها فيهم
بكثرة وشدة.
أولئك هم السعداء الأشقياء الذين يتمتعون ويتألمون أولئك هم السابقون في
ميدان الحياة , تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون في مصادمة
كل صعوبة. من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها , فيصير
شاعرًا بليغًا , أو عالِمًا حكيمًا , أو وليًّا طاهرًا , أو نبيًا كريمًا.
أيها السادة , إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم لذاته هو عيب عظيم فينا ,
يجب أن نفكر في إزالته , وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن
تربية إحساسنا، وأهملت تربية قلوبنا وشعورنا؛ فأصبحنا مادّيين , لا نهتم إلا بالنتائج
في جميع أمورنا حتى في الأشياء التي بطبيعتها يجب أن تكون بعيدة عن الفوائد
كعلاقات الأقارب والأصحاب. وليس من المنتظر أن تتغير أخلاقنا من هذه الجهة
تغييرًا محسوسًا إلا إذا تم إصلاح العائلة المصرية.
هل يجوز أن يؤخذ من اعترافنا هذا أننا نخشى أن الجامعة المصرية إذا فتحت
أبوابها لا تجد طلابًا للعلم؟ سمعت هذا الاعتراض , واعتقادي التام أنه وَهْم باطلٌ.
نحن إذا كنا نأسف لِعدم بلوغ حب التعلم الدرجة التي نتمناها له , فليس معنى ذلك
أنه مفقود في بلادنا.
حبُّ التعلم موجود، ووجد في بلادنا من قديم الزمان , ولا يزول عن أرضنا أبدًا! وتاريخ مصر الحديث يثبت بأقوى البراهين أن حب التعليم كان ولا يزال ينمو في نفوس أُمَّتنا من عهد المرحوم محمد علي باشا إلى الآن.
ولي أمل عظيم أن إنشاء الجامعة المصرية يكون سببًا في ظهور شبيبة هذا
الجيل , وما يليه على أحسن مثال. وما حالة القلق والاضطراب التي نلاحظها فيها
الآن إلا إنذار مطمن , يدلنا على أنها مملوءة بقوة عظيمة تطلب ميدانًا تتصرف فيه ,
لتتمتع بالتوازن الملازم لصحتها.
هذا هو البناء الفخيم الذي نحب أن الأمة المصرية تشيده بيدها ليبقى أثرًا خالدًا
في هذا القطر، وشاهدًا على حسن استعدادها للنمو العقلي والرقي الأدبي , فكل من
وضع حَجَرًا في هذا البناء يخدم أمته أجل خدمة. فشُكرًا للسابقين، وشُكرًا لِلاَّحقين
في هذا العمل الصالح.
وإني أرى في الصف الأول من صفوف المحسنين المتبصرين الذين يعرفون
كيف يصرفون أموالهم في سبيل الخير رجلين قاما بما يجب عليهما , وهما حضرة
أحمد بك الشريف وصاحب هذه الدار الكريمة. اهـ