للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة كتاب الخلافة
أو الإمامة العظمى

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن
ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: ١٢٤) .? {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: ٥٥) .
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: ١٦٥) .
هدانا الكتاب الحق، والنظر في تاريخ الخلق إلى الاعتبار بخلافة الشعوب
بعضها لبعض، وما فيها من حق مشروع وتراث مغصوب، وإلى ما للرب تعالى
في ذلك من الحِكَم والسنن الاجتماعية، والأحكام والسنن الشرعية، ومن العهد
بالإمامة العامة لبعض المرسلين، والوعد بالاستخلاف وإرث الأرض لعباده
الصالحين.
ومن تلك السنن العامة: ابتلاء بعض الشعوب ببعض، ليظهر أيها أقوم
وأقرب إلى العدل والحق، فيكون حجة له على الخلق؛ ولينتقم من الظالمين، تارة
بأمثالهم من المفسدين، وتارة بأضدادهم من المصلحين وتكون عاقبة التنازع
للمتقين، فالمتقون هم الذين يتقون باب الخيبة والفشل، ويسيرون على سنن الله
الشرعية والكونية في العمل، والصالحون هم الذين يجتنبون الفساد، ويسلكون
سبيل الرشاد، ويقَوِّمُون ما اعوَج من أمر العباد.
عهد الله تعالى بالإمامة العامة لنبيه وخليله إبراهيم، وللعادلين من ذريته غير
الظالمين [١] ، فوعد بها قوم موسى من بني إسرائيل، وقوم محمد من بني إسماعيل،
قال تعالى في الوعد الأول {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: ٥) وقال في الوفاء به: {وَأَوْرَثْنَا
القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: ١٣٧) الآية، وقال
في الوعد الثاني: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور:
٥٥) إلخ، وقد صدق الله هذه الأمة وعده ووفى لها، كما وفى لمن قبلها، ثم
سلبها جل ما أعطاها، كما عاقب بذلك سواها، إذ نقضت عهدها كما نقضوا،
وفسقت عن أمر ربها كما فسقوا، واغترت بنسبها وبكتابها كما اغتروا، وإنما ناط
تعالى إرث الأرض بإقامة الحق والعدل، وبالصلاح والإصلاح لأمور الخلق،
واستثنى من نيل عهده الظالمين، وتوعد بسلبه من الفاسقين، وكان الواجب عليها
أن تعتبر بذلك فتثوب إلى رشدها، وتتوب إلى ربها، عسى أن يرحمها ويتم
لآخرها ما أنجز من عهده لأولها، ولكنها لما تفعل، وعسى أن تفعل.
إن المريض الجاهل بمرضه لا يصيب نجاحًا، وإن داء المسلمين ودواءه
مُبَيَّن في كتابهم المُنَزَّل، ولكنهم حرموا على أنفسهم العلم والعمل به، استغناء
عنهما بفقه المقلدين وكتبهم، ويمكن العلم بهما مما أرشدهم إليه الكتاب من السير في
الأرض للنظر في أمور الأمم والاعتبار بسنن الله في الخلق، ولكنهم قلما كانوا
يسيرون، وإذا ساروا فقلما ينظرون ويعتبرون.
الإسلام هداية روحية وسياسة اجتماعية مدنية، أكمل الله به دين الأنبياء وما أقام
عليه نظام الاجتماع البشري من سنن الارتقاء.
فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً،
ولما طرأ الضعف على المسلمين جهلوا هذا الأصل، فغلا بعضهم في الدين، فزاد
في أحكام العبادات والمحرمات الدينية والمواسم، والأحزاب والأوراد الصوفية، ما
ألفت فيه المجلدات، ويستغرق العمل به جميع الأوقات، ويستلزم جعله من الدين
نقصان دين الصحابة والتابعين إذ لم يكن لديهم شيء منه، ولو اشتغلوا بمثله لما
وجدوا وقتًا لفتح البلاد وإصلاح أمور العباد.
وأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع
للأمة الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي
بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها وأمرها
شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز
في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة،
وأنها حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية،
وممهدة لتعميم الأخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما
طرأ الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد والعمل بالأصول، ولو
أقاموها لوضعوا لكل عصر ما يليق به من النظم والفروع.
ظهرت مدنية الإسلام مشرقة من أفق هداية القرآن، مبنية على أساس البدء
بإصلاح الإنسان، ليكون هو المصلح لأمور الكون وشئون الاجتماع، فكان جل
إصلاح الخلفاء الراشدين إقامة الحق والعدل، والمساواة بين الناس في القسط،
ونشر الفضائل، وقمع الرذائل، وإبطال ما أرهق البشر من استبداد الملوك
والأمراء، وسيطرة الكهنة ورؤساء الدين على العقول والأرواح، فبلغوا بذلك حدًّا
من الكمال، لم يعرف له نظير في تاريخ الأمم والأجيال، واستتبع ذلك مدنية
سريعة السير، جامعة بين الدين والفضيلة، وبين التمتع بالطيبات والزينة، ارتقت
فيها العلوم والفنون بسرعة غريبة، حتى قال الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف
لوبون في كتابه (تطور الأمم) : إن ملكة الفنون لم تستحكم لأمة من الأمم فيما دون
الثلاثة الأجيال الطبيعية إلا للعرب. ويعني بالثلاثة الأجيال: الجيل المقلد، والجيل
المخضرم، والجيل المستقل.
لقد أتى على الناس حينٌ من الدهر وهم يظنون أن المدنية الإسلامية قد ماتت
وبليت فلا رجاء في بعثها، وأن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فلا مطمع في
موتها، ثم استدار الزمان، وظهر خطأ الحسبان، وكثر في حكماء أوروبة وعلمائها
من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بما يفتك بها من أوبئة الأفكار المادية والروح
الحربية، والمطامع الأشعبية، والإسراف في الشهوات الحيوانية، وقد كان من
أساطين أهل هذا الرأي شيخ فلاسفة العصر هربرت سبنسر الإنجليزي مؤسس علم
الاجتماع، وكثر أهله بعد الحرب الكبرى؛ لما ترتب عليها من المفاسد التي لا
تُحْصَى، فقد أرَّثت الأحقاد والأضغان بين الشعوب الأوروبية، وضاعفت المفاسد
والمشاكل المالية والسياسية، ولكنها قد هزت العالم الإسلامي والشرق كله هزة عنيفة،
وأحدثت في شعوبه ثورات لم تكن مألوفة، فسنحت له فرصة للعمل، هي مناط
الرجاء وقوة الأمل.
إن أعظم مظاهر هذه الفرصة نهضة الشعب التركي من كبوته التي قضت
على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بين الدولتين الإيرانية والأفغانية،
وبثه دعوة الاعتصام مع سائر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه في إلغاء
الامتيازات الأجنبية، والنقص من سائر القيود والأغلال السياسية والمالية،
فرجاؤها فيه أن يشد أواخيّ الإخاء مع الأمة العربية، ويتعاون معها على إحياء
المدنية الإسلامية، بتجديد حكومة الخلافة على القواعد المقرَّرة في الكتب الكلامية
والفقهية، وأن لا يرضى بما دون ذلك من المظاهر الدنيوية، ولا يغتر بتحبيذ عوام
المسلمين لما قرره في أمر الخلافة الروحية، فما أضاع على المسلمين دنياهم ودينهم،
إلا تحبيذ دهمائهم لكل ما تفعله حكوماتهم ودولهم، وناهيك بشعور المسلمين
الذين يئطون من أثقال حكم المستعمرين. إنه شعور شريف، وإنما يعوزه الرأي
الحصيف، فقد كان السواد الأعظم من هؤلاء الملايين يرمي من يخالف أهواء
السلطان عبد الحميد بالخيانة أو المروق من الدين، وهو السلطان الذي أقنع جمهور
ساسة الترك بإسقاط سلطة السلاطين، الذي تحمده اليوم هذه الملايين، وما لهم بهذا
ولا ذاك من علم ولا سلطان مبين.
أيها الشعب التركي الحي: إن الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو
الذي يمكن أن يحيي مدنية الشرق وينقذ مدنية الغرب، فإن المدنية لا تبقى إلا
بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا
الإسلام، وإنما عاشت المدنية الغربية هذه القرون بما كان فيها من التوازن بين بقايا
الفضائل المسيحية، مع التنازع بين العلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فإن الأمم لا
تنسل من فضائل دينها بمجرد طروء الشك في عقائده على أذهان الأفراد والجماعات
منها، وإنما يكون ذلك بالتدريج في عدة أجيال، وقد انتهى التنازع بفقد ذلك التوازن،
وأصبح الدين والحضارة على خطر الزوال، واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح
روحي مدني ثابت الأركان، يزول به استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الأغنياء
للفقراء وخطر البلشفية على الأغنياء، ويبطل به امتياز الأجناس، لتتحقق الأخوة
العامة بين الناس، ولن يكون ذلك إلا بحكومة الإسلام التي بيناها بالإجمال في هذا
الكتاب، ونحن مستعدون للمساعدة على تفصيلها، إذا وفق الله للعمل بها.
أيها الشعب التركي الباسل: إنك اليوم أقدر الشعوب الإسلامية، على أن
تحقق للبشر هذه الأمنية، فاغتنم هذه الفرصة لتأسيس مجد إنساني خالد، لا يذكر
معه مجدك الحربي التالد، ولا يجرمنك المتفرنجون على تقليد الإفرنج في سيرتهم،
وأنت أهل لأن تكون إمامًا لهم بمدنية خير من مدنيتهم، وما ثم إلا المدنية الإسلامية،
الثابتة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدينية، فلا تزلزلها النظريات التي
تعبث بالعمران، وتفسد نظم الحياة الاجتماعية على الناس.
أيها الشعب التركي المتروي: انهض بتجديد حكومة الخلافة الإسلامية،
بقصد الجمع بين هداية الدين والحضارة لخدمة الإنسانية، لا لتأسيس عصبية
إسلامية تهدد الدول الغربية، فإن فعلت ذلك وأثبت إخلاصك وصحة نيتك فيه،
فإنك تجد من علماء الإفرنج وفضلاء أحرارهم من يشد أزرك ويرفع ذكرك،
ويدفع عنك تهم الساسة المفترين، وإغراء الطامعين المغررين.
أيها الشعب التركي العاقل: إنني أهدي إليك هذه المباحث التي كتبتها في بيان
حقيقة الخلافة وأحكامها، وشيء من تاريخها وعلو مكانتها، وبيان حاجة جميع
البشر إليها، وجناية المسلمين على أنفسهم بسوء التصرف فيها، والخروج بها عن
موضوعها، وما يعترض الآن في سبيل إحيائها، مع بيان المَخْرَج منها بما أشرع
السبيل وأنار الدليل، بمقال وسط بين الإجمال والتفصيل، جامع لآراء العارفين
بمصالح الدنيا وحقيقة الدين، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، وإنما الشكر لها
بالعمل بها: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: ٧) .