رسالة لصديقنا السيد عبد الحق الأعظمي البغدادي مساعد أستاذ اللغة العربية في مدرسة العلوم الإسلامية، الكلية الإسلامية الشهيرة في عليكره بالهند. والخطيب المفوَّه الشهير بيَّن في أولها ضعف المسلمين وسوء حالهم وكون اليأس منهم أقرب إلى الرجاء فيهم لولا أن اليأس ينافي الإيمان بقدرة الله تعالى وعنايته، ثم بيَّن أنه تصدى لإصلاح حالهم كثيرون: من طريق الدين ومن طريق العلم والمدنية وتقليد الأمم القوية، وشرح مذاهب دعاة الإصلاح المشهورة، وذكر أن بعض الإفرنج ساعد بعضهم على بعضها كمساعدة الإنكليز لمسلمي الهند في هذا العصر على التعليم، وبالغ في مدحهم على ذلك، ثم قال: إن كل تلك المذاهب والطرق الإصلاحية لم تغن عن المسلمين شيئًا فلا يزالون على سوء حالهم، والأخطار المحدقة بهم، وانتقل من شرح ما تقدم بالإطناب التام بأسلوبه الخطابي الفصيح إلى بيان رأيه في حل هذا المشكل، وإزالة هذا المعضل، فقال: إن لديه علاجًا لإصلاح حال المسلمين، وإصلاح حال البشر بهم أجمعين، وهو وصفة مؤلفة من جزأين يعرضهما على عقلاء المسلمين وأهل الغيرة منهم؛ لعلهم يعالجون بتأليفهما والجمع بينهما هذه الأمة التي تصلح بصلاحها كل الأمم: أما الجزء الأول فهو تعميم اللغة العربية في العالم الإسلامي كله وجعلها لغة التكلم والتعلم والتعامل دون سواها. وههنا بيَّن أن صلاح المسلمين يتوقف على هداية القرآن والسنة، وهدايتهما تتوقف على إحياء تأثيرهما في نفوس الناس وذلك يتوقف على إحياء لغتهما وإتقانها. وأطنب في وصف مزايا اللغة العربية وأسرارها وشدة تأثيرها وتأثير القرآن الحكيم، وما يشهد لذلك من نشأة الإسلام الأولى في العرب، وأما الجزء الثاني من هذه الرسالة فننقله لقراء المنار بنصه وهو قوله: الجزء الثاني من هذه الوصفة أما الجزء الثاني من هذه الوصفة فهو الشعب العربي، فالواجب يقضي على كل ساع في إعادة مجد الإسلام بإيقاظ الأمة العربية من نومتها، وتنبيهها من غفلتها، وإنهاضها من كبوتها، وانتشالها من سقطتها، ومساعدتها على الاستعداد للخطر المحدق بها، والمهدد لكافة الأمة الإسلامية على بكرة أبيها، فقد فرغت أوربا أو كادت تفرغ من القضاء على استقلال العنصرين العظيمين من العناصر الإسلامية اللذين كانا موضع رجاء بقية العناصر في جميع بقاع الأرض، ومطمح أنظارهم في إعادة مجد الإسلام وحفظ سلطته وحماية أهله ووقاية مهد الدين، وكعبة المسلمين من تَغََلُّبِ الأجانب وتوارد النوائب وتزاحم المصائب، وهما عنصر الترك والفرس على أنهما حماهما الله من كيد الأعداء، بتوفيقهما لهدي القرآن، قد استبدلا الرابطة الجنسية اللغوية، بالجنسية الإسلامية القرآنية، فلا ترجى مع بقائهما بهذه العصبية الجاهلية، حياة الإسلام بالقرآن والسنة السنية، إلا أن يثوبا إلى رشدهما بالعرب والعربية. أما العنصر الأفغاني ومن على شاكلته من الإمارات الصغيرة المبعثرة هنا وهناك، فهو وإن كان مستقلاً في بلاده، مختارًا في أموره وأعماله، لم تَأْبَه له أوربا ولم تعبأ به، وهو في الحقيقة لا في العير ولا في النفير، ولا أمل لأحد فيها بأن يرد للأمة مقدار فتيل مما سلب منها أو نقير، فلم يبق أمام جمعيات أوربا من العقبات الشديدة لبلوغ أمنيتها من محو الإسلام تمامًا وإذلال أبنائه قاطبةً ووضع أغلال الاستعباد في أعناقهم، وانتزاع سائر ممتلكاتهم من أيديهم، إلا عنصر واحد هو أكبر العناصر الإسلامية وأفضلها، وأغْيَرها على الدين وأجدرها بالقيام بأمر المسلمين، ألا وهو العنصر العربي الذي أعز الله به الإسلام، ورفع مقامه فوق كل المقامات، وبه شيد صرح الإيمان، وأعلى كلمة الرحمن، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى الطرق المثلى في جميع الأمور، وجعل - تعالت قدرته - بلاد هذا العنصر الأبي، مشرق هذا النور الإلهي، ومنبع حكمته، ومنار هدايته، ومصدر تعليمه وتربيته، ومظهر جلاله وعظمته، واختارها جل ثناؤه مقرًّا لبيته الحرام مطاف العائذين، ومطهر المذنبين، وقبلة المسلمين في سائر الأرضين. فإذا غلب الأجانب العرب على أمرهم، وأنشبوا براثنهم في أحشاء بلادهم فلا عاصم للأمة بعد ذلك من أمر الله ولا ملجأ ولا منجاة لها من نوائب الدهر وغوائله، ولتوطن نفسها على استقبال الموت الأحمر والبلاء الأسود، ثم الفناء والزوال، أو الرسوف في أغلال الاستعباد إلى أبد الآباد، ومهما سلمت الأمة العربية والبلاد العربية، فإن النفوس تظل مطمئنة راجية أن يعتز الإسلام بها يومًا من الأيام. ألا وإن الخطر الذي يلحق بالإسلام من استيلاء الأجانب - الذين فرغوا له الآن - على الأمة العربية والبلاد العربية، أشد وأمضى من كل خطر يصيبه من استيلائهم على غيرهما من العناصر والبلاد الإسلامية؛ لأن العرب كما لا يخفى روح الإسلام وعزه، وبلادهم نقطة دائرته ومركزه، فالاستيلاء عليهما استيلاء على قلب الإسلام وضربة على أم دماغ الأمة، فلا يرجى لها بعدها انتعاش أو قيام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام [١] ) وإذا ذل الإسلام فقل على الدنيا وما فيها السلام، فإن الخسارة تنتج من ذله، والضر الذي يترتب على هوانه وزواله، يعمان البشر قاطبة ويشملان الموجودات طُرًّا؛ لأنه الدين الذي رضيه الله لعباده، وأكمل به الأديان، والشرع الذي ما بعد شرع ينتظر لإصلاح بني الإنسان: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) . فإذا رغب المسلمون في بقاء جامعتهم وحياة أمتهم، ورفع كلمتهم وحماية شريعتهم، وحفظ وجودهم وصيانة حقوقهم، وأن يقام لهم وزن بين الأمم، وتقوم لهم ومنهم دولة مهابة عزيزة بين الدول، وإن أرادوا أن يحافظوا على الوديعة التي أودعت لديهم، والأمانة التي بعد أن عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها فُوِّضَت إليهم، وهي وديعة التوحيد، وأمانة الإيمان بالعلي المجيد، وأن يتمموا ما بدءوا به من إصلاح البشر إصلاحًا يجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وسعادتي الروح والجسم وطيب المعاش والمعاد، إذا أرادوا هذا ورغبوا في ذاك فالواجب على عامتهم وخاصتهم قريبهم وبعيدهم عربيهم وعجميهم أن يقوموا بإحياء البلاد العربية بكل وسائل الحياة، وتقوية الأمة العربية بجميع أنواع القوى، وأن يسدوا أولا بكل ما لديهم من حول وقوة كل منفذ من المنافذ التي يدخل منها الأجانب لإفساد هذا الشعب الكريم والتلاعب به، واستدراجه وإيقاعه في حبائل مكرهم وخداعهم، وأشراك غشهم واحتيالهم. وليعلم المسلمون - حيث ما كانوا وأينما وجدوا - أن كل دولة تنشأ لهم في أي بقعة من بقاع الأرض وفي أي زمن من الأزمان، إذا لم يكن العرب بناة أساسها، وأركان بنائها وعمد صروحها، ومدبرو أمورها ومديرو حركتها، واليد العاملة فيها والقوة التي ترتكن عليها، والروح التي تسري في مفاصلها، والأصل الذي تتفرع عنه أغصانها وتنمو عليه أفنانها، فهي دولة لا تدوم ولا تحسن حالها ولا تسعد رعاياها، ولا يعتز بها الإسلام، ولا يبث هديه وإرشاده بواسطتها بين الأنام، ولا تقوم بما ندب إليه العربَ ربُّ العالمين، من جعلهم هداة مرشدين وأئمة وارثين وزعماء مصلحين، وقادة ناصحين وسادة عادلين. وكما لا يعتز الإسلام بقيام دولة مثل هذه، ولا يتمكن من أداء وظيفته على يديها، فكذلك لا يفجعه سقوطها ولا يؤلمه هبوطها، ولا يؤثر فيه انحلالها ولا يضره زوالها، فقد اعتز العنصر الفارسي عصورًا ثم سقط، واعتز العنصر التركي دهورًا ثم هبط، ولكنهما أهملا دعوة الإسلام أيام عزهما بل عطلا كثيرًا من أحكامه وتركا أكثر تعاليمه، فلم يكن سقوطهما مدعاة إلى اليأس من الإسلام نفسه، وإنما كان صدمة شديدة وزلزالا عظيمًا على المسلمين في هذا العصر، لم يقل أحد إنه سقطت به المدنية الإسلامية، فضلا عن الدعوة المحمدية، كفاجع سقوط العرب في الأندلس، ذلك الفاجع الذي قوَّض صروح السعادة، سعادة المدنية الفاضلة مدنية الإسلام الكاملة من أوربا، وقضى على آمال العالم الإنساني عامة والإسلامي خاصة من نشر الدين في هاتيك الربوع، وبث هدايته بين تلك الجموع، مما لو تم لعمت هذه السعادة كل الناس، ولفاز بالحسنيين جميع الشعوب والأجناس، ولساد الصلاح في البشر، وزال الفساد من البر والبحر. نعم إن العنصر العربي جار عليه الظالمون وأنهك قواه المعادون، ومزق وحدته المارقون، وفرق كلمته المنافقون، وعادى بين أمرائه المبطلون، وضرب بعضه ببعض المعرضون، وسعى في تبديده الساعون، حتى أزهقوا روحه الأدبية، وحالوا بينه وبين كل قوة مادية أو معنوية، ومنعوا عنه العلوم والمعارف، وسلبوا منه التالد والطارف، وسدوا في وجهه المنافذ، وضيقوا عليه المسالك، وأفسدوا حالته الاجتماعية وأحاطوا به بكل شر، وصدوا عنه كل خير: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: ٧٠) ، {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان: ٢٥-٢٩) . لكنه مع كل ذلك لا يزال أصلح العناصر الإسلامية للقيام بأمر الإسلام وإعادة مجده إلى الأنام، وصيانة هيكله من الانهدام، بل رفع مقامه فوق كل مقام، وبث دعوته وتجلية حقيقته وإصلاح الأنام به وإسعادهم بتعليمه، إذا كفَّر عن سَيِّئاتهم المسيئون، وتاب عن خطيئاتهم الخاطئون، وثاب إلى رشدهم المفتونون، ورجع عن إغوائهم المغوون، وترك إفسادهم المفسدون واستبدلوا الوفاق بالنفاق، والاتحاد بالشقاق، والتعارف بالتناكر، والتآلف بالتنافر، والمحبة بالبغضاء، والإخلاص بالرياء، والصلح بالعداء، والإصلاح بالإفساد، والتقرب بالابتعاد، والمساعدة بالاضطهاد، والتقوية بالإضعاف، والموازرة بالإرجاف، ثم أطلقوا لهذا الشعب الكريم الحرية، وبثوا بين أبنائه الأذكياء المعارف والعلوم العصرية، وفتحوا لهم أبواب التجارة، ومكنوهم من أسباب الحضارة، وساعدوهم على إصلاح أراضيهم الواسعة المباركة، وعاونوهم على تفجير ينابيعها والانتفاع بمياه أنهارها المتدفقة، وتنمية مزروعاتها واستغلال خيراتها، واستخراج كنوزها، وتأمين السابلة، وتقريب طرق المواصلة، وتنظيم السبل وتسهيل التنقل، وتشييد المعامل الصناعية عليها، وترغيب أبناء البلد فيها، وتنشيط عمالها، وترويج مصنوعاتها، وتنظيف مدنها وتخطيط دروبها، وترقية سكانها ورفعة شأنها، وما أشبه ذلك من وسائل القوة وأسباب الثروة. فإن فضائل الشعب العربي الكريم لا تزال كامنة فيه كمون النار في الزناد، واستعداده الفطري لا يزال راسخًا في طبيعته رسوخ الجبال على المهاد، وخصائصه ومميزاته وأخلاقه وصفاته لا تنفك قائمة فيه ومتمكنة منه، لا ينتزعها نازع، ولا يبدلها تبدل الأقاليم والمواضع، ولا تقلعها أعاصير المظالم والزعازع، ألا وإن العرب ليسوا بحديثي نعمة في المدنية والمجد كسائر الأمم التي قامت وسقطت، وظهرت ثم اختفت، وارتفعت ثم هبطت، ووجدت ثم عدمت، وأحيت ثم ماتت، فإن العرب كما قال السيد الإمام [٢] : أعرق الأمم في العلم والمدنية والفضائل، تدل على ذلك لغتهم الراقية الواسعة، ويشهد لهم به التاريخ، فشريعة حمورابي أقدم الشرائع المعروفة كانت عربية والشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع ومكملتها عربية، والمدنيتان الآشورية والمصرية أصلهما عربي، وكل ما بعدهما مقتبس منهما ومبني على أساسهما كالمدنية اليونانية والرومانية. فتهيئة العرب للوثوب، وإنهاضهم لرد المسلوب، وتنبيههم لحفظ الموجود، وتنشيطهم على إرجاع المفقود، لا تحتاج إلى عناء كبير وعمل خطير، ووقت وفير ومال كثير، فما هو إلا إزالة الرماد عن تلك الجذوة المدفونة، وقدح الزناد لإشعال تلك النار الكامنة، والتوفيق بينهم وبين حكام الآستانة، ولا أقول بينهم وبين إخوانهم الترك، فإن حكومة الآستانة لم تغز جزيرة العرب مرة من المرار العديدة برأي ترك الأناضول ولا ترك تركستان. فيا أرباب الأفكار المنيرة من المسلمين تفكروا في حالكم، ويا أصحاب العقول الكبيرة من المؤمنين تدبروا في مآلكم، ويا ذوي القلوب البصيرة من الموحدين انظروا إلى مصيركم في مسيركم، ويا أهل الغيرة من المحمديين هذا وقت الغيرة على دينكم وأمتكم، فأين شهامتكم وحميتكم؟ أين نجدتكم ومروءتكم؟ أين إخلاصكم في محبتكم؟ أين صدقكم في غيرتكم؟ قوموا - بارك الله فيكم - فشدوا أزر العرب إخوانكم وساعدوهم على حماية دينكم، وحياط جامعتكم، وحفظ وحدتكم، ووقاية قبلتكم وكعبتكم، وصيانة قبر نبيكم، جودوا عليهم بالأموال، شاركوهم في الأعمال، تحملوا معهم بعض الأثقال، وأعدوهم لميادين القتال، أسسوا لهم وفيهم المدارس العلمية، وشيدوا بينهم المعاهد الفنية، وبثوا فيهم المعارف العصرية، ومدوهم بوسائل الحياة والدعة، وأسباب القوة والمنعة، ليقوموا بما فطروا عليه وعهد فيهم من الأعمال الكبيرة، والأفعال المدهشة الخطيرة. قوموا - أيدكم الله ورعاكم - فحققوا دعوة أبيكم إبراهيم الحنيف في ذريته المباركة التي أسكنها بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، ليقيموا الصلاة ويحيوا الموات، وينفخوا روح الحياة الطيبة النافعة في العالم، فأهووا إليهم بأفئدتكم، واصرفوا عليهم من ثمرات عقولكم ومعارفكم، وابذلوا لهم من أموالكم ما تمكنكم منه مقدرتكم؛ لتطمئن منهم النفس ويستريح البال فيشكروا الله على العناية والإفضال، وينتاشوكم من مساقط الذلة والهوان، ويهبوا بكم إلى مراقي السعادة والأمان: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: ٣٧) . قوموا - حاطكم الله بستره الوافي ومنعه الكافي - فآثِرُوا بأموالكم ومساعيكم إخوانكم العرب مؤسسي جامعتكم، وموجدي عزتكم وأصل سعادتكم، وأيقظوهم من هذا النوم الذي امتد وطال لتبعثكم من مقابر الخمول يقظتهم، وأحيوهم من هذا الموت الأدبي الذي جلبه عليهم الأنذال؛ لتحيا بحياتهم أمتكم من موتها العلمي والسياسي والحربي، وتعتزوا بعزهم، وتسلموا بسلامتهم، وتصان معاهد الدين بعزائمهم وتتأيد سلطة الشرع بهممهم، ويعود إليكم ما كان لديكم من المدينة الفاضلة، والحرية الشاملة، والسيادة الكاملة، والسلطة العادلة، فتَصْلُحون وتُصْلِحون، وتَسْعَدون وتُسْعِدون، وتنالون وتعطون. فإن القصور الشواهق والأرائك والنمارق، واتساع مساحة البلاد، وكثرة عدد الأفراد، وشرف الآباء والأجداد، والألقاب الضخمة، والمركبات الفخمة، وإمارة موهومة بأيدي أفراد معدودة، وثروة معلومة في قبضة جماعة محدودة، لا تعصم الأمة من مصارع الاستعباد، وشقاء العبيد والأسياد وتعاسة الأبناء والأحفاد، واحتلال الأجنبي للبلاد، واستئثاره بخيراتها، وتفرده بنعمها وحاصلاتها، ولا تصد الأغيار عن إهانة الدين وإذلال المؤمنين، وهتك الحرمات وقتل الإرادات والتحكم في الأموال والرقاب، والتصرف بالخيول والقصور والقباب. إذا لم يقبض على دفة سفينتكم أيها المسلمون في هذا البحر العجاج بحر الحياة الواسع الأرجاء، وسط تلك الأمواج المتلاطمة أمواج تنازع البقاء، بين هاتيك العواصف المتناوحة، عواصف تغلب الأقوياء على الضعفاء ملاح مدرب، خواض غمرات، وربان مقذف طلاع تلعات، ولم يقم بالأمر حكيم حنكته التجارب، وعليم بالبوادر والعواقب، ولم يتول الزعامة قائد بصير باقتحام المضايق، وخبير بالمفاتح والمغالق صبور على المشكلات وجسور لدى الغارات، مدرب على المصاولات والمجاولات، كالشعب العربي الذي يعترف العالم باستعداده وخبرته وقدرته، وتقر الأمم بإقدامه وصبره وقوته، ويشهد الله وملائكته وجميع مخلوقاته على عدله في سلطته وفضله في حكومته ونبله في سيرته، وعلى عظيم أعماله وكريم أفعاله وقويم خصاله، وكمال أهليته، وتمام جدارته ولياقته. فقوموا - أعانكم الله - وسارعوا إلى الانضمام إلى هذا العنصر الكريم بعلومكم ومدارسكم ونفوسكم ونفائسكم وأموالكم وأعمالكم، وارحلوا إليه من كل مكان، واهجروا للاتصال به الديار والأوطان، واختلطوا به اتحادًا تامًّا روحًا وجسمًا حسًّا ومعنًى قولاً وفعلاً سعيًا وعملاً، بحيث تكون أجسامكم كتلة واحدة، وقلوبكم مضغة واحدة، وعزائمكم عزيمة واحدة، وهممكم همة واحدة، وقواتكم قوة واحدة، وغاياتكم غاية واحدة، ونهاية أعمالكم إلى نقطة واحدة، ومنتهى مساعيكم إلى مصلحة واحدة ليتحقق فيكم قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: ٩٢) فيهب هذا العنصر القوي بكم هبته المعروفة، ويثب بكم كما وثب من قبل بآبائكم فيبدد هذه الشرور المتفاقمة. واعلموا - بصَّرَكم الله - أن العمل لإيقاط العرب من نومهم عين العمل لإحياء الوحدة الإسلامية التي ما وحدت في القرون الأولى إلا بالعرب، وإن البذل لمساعدة العرب على إحياء مجدهم عين البذل لإعادة مجد الإسلام الذي ما تأسس بناؤه من قبل إلا بأيدي العرب ونفوس العرب وأرواح العرب وقلوب العرب، وإنهما لن يعودا مرة أخرى إلا بالعرب متحدين ومتفقين مع سائر الأجناس من المسلمين، ولقد قال عليه الصلاة والسلام (إن الإيمان - أي أهله - ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها [٣] ) وقال جل جلاله: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: ١٣-١٤) ، {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} (الواقعة: ٦٢) . هذا ما أوحى به اللب، وأرشد إليه القلب، وهدى له الإيمان، وتوفيق الرحمن، وجالت فيه البصيرة وأنعمت الفكرة، وأملاه الوجدان على اللسان، فتحرك لتسطيره وعرضه بالقلم والبنان، فإن كنت أصبت المرمى، فأسأل الله أن يوفق إخواني المفكرين للعمل به ويعينهم على تحضير هذه الوصفة ومناولتها لهذا المحتضر بكل تحفظ واحتياط وصبر وثبات، وإن كنت أخطأت الهدف، وعدوت فصرت دون الغرض، ولم أهتد إلى سر هذا الأمر فما أنا بأول سارٍ غرَّه القمرُ، وأرجو أن يجازيني الله على حسن نيتي، ويتجاوز عن زلتي ويغفر لي خطيئتي، إنه هو الرؤوف الرحيم. * * * خاتمة وخطاب لإيقاظ الأمة النائمة قال السيد الإمام منشئ المنار [٤] : إن للعرب في التاريخ القديم نومات طويلة، تتلوها هبات ووثبات قوية، وكانت نومتهم قبل الإسلام أطول نوماتهم زمنًا، وهبتهم بعدها أشرفها وأعلاها أثرًا، وقد عادوا إلى النوم بعدها وتاريخهم يصيح بهم من ورائهم، وتلاميذهم في الحضارة يهيبون بهم من أمامهم: النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات، ومن مات فات. فيا أيتها الأمة العربية، الجامعة لأشرف الخصائص البشرية، وأفضل الخصال وأنواع الكمال، يا أيتها الوسيلة الوحيدة لجمع كلمة الشعوب الإسلامية العديدة، يا ذات الاستعداد الفطري العجيب للنهضتين الدينية والمدنية. لقد آن أوان هبتك لدفع جور الزمان، وحان وقت وثبتك لكف يد الحدثان فقد بدا نجيث القوم، وبرح الخفاء فلا خفاء اليوم، وبلغ السيل الزبى، وبلغت العظمَ سكينُ العدا، فهبي - بارك الله فيك - من هذا النوم فإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات ومن مات فات. يا أيها العرب، يا أشد العناصر الإسلامية أنفة وحمية، وأقواهم جنسية وعصبية، وأحرصهم على إباء الضيم، وأبعدهم عن موجبات العذل واللوم، وأصبرهم على المكاره والشدائد، وتذليل المصاعب في سبيل الوصول إلى المقاصد وأنشطهم على التغرب والسياحات، وأثبتهم في طلب أشرف الغايات، وأعشقهم للاستقلال والحرية، وأعرقهم في الفضائل النفسية، وأعلمهم بقواعد الدين، وأقدرهم على حماية دعوته، ورفع شأن أمته، وصيانة دينه وشريعته، وأجدرهم بتولي إصلاح شئون المسلمين، في أمري الدنيا والدين. لقد أتتكم فالية الأفاعي أيها العرب، وجاوز الحزام الطبيين والتقى البطان والقتب، فقوموا يا معقد الآمال وهبوا لتلافي ما فات، وتدارك الأمر قبل الفوات، وحفظ الأمة من الشتات، وانفضوا عن أعينكم غبار هذا النوم، فإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات، ومن مات فات. يا أيتها الأمة العربية، يا ذات الأخلاق الرضية والعقول الزكية، يا طيبة الأصول والأغصان، باهرة العروق والافتنان، يا ناضرة الأزهار وحلوة الثمار، يا أقدم الأمم حضارة ومدنية، وأسبقها في وضع قواعد تساوي الحقوق وتقارب المراتب في الهيئة الاجتماعية، وأهداها إلى قوانين المعيشة الاشتراكية، وأرعاها لأصول الشورى في الشئون العمومية يا مهذبة الأخلاق والعادات، ومقومة العقول والاعتقادات. قومي - أيدك الله ورعاك - فأرجعي الأنفس عن غيها والعقول عن زيغها، والأفهام عن ضلالها، والقلوب عن قساوتها، وردي الأخلاق إلى نصابها، والحقوق إلى نقطتها والعقائد إلى مركزها، وأنقذي أبناء آدم من الحالة السيئة التي وصلوا إليها، وخذيهم إلى المستوى الذي يليق بهم، اصعدي بهم إلى الفلاح في الدارين، والسعادة التامة في الحياتين، فقد وهبك الله من ذلك ما لم يهبه لقوم، فهل يليق بك ويحسن منك هذا النوم في هذا اليوم، وإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات ومن مات فات. يا أيها العرب، يا هداة الأمم إلى الطريق الأقوم، وكاشفي الظُلْم والظُلَم، ودافعي الكروب والنقم، يا باذلي المعروف ومغيثي الملهوف، ومجيري الضعيف من القوي المخيف، يا محرري الأقوام من رق الاستعباد ومشيدي صروح العلوم في كل قطر وواد، وناشري ألوية العدل والأمان والسكينة في جميع البلاد ورافعي مرتبة الحق والصدق والأمانة في كل محفل وناد، ومؤسسي معاهد التمدن والحضارة في القرى والبواد. قوموا لما خلقتم له أعانكم الله فإن شعوب العالم الإسلامي في مشرق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها قد توجهت إلى جهتكم وجوهها، وامتدت إليكم أعناقها، وشخصت نحوكم أبصارها، وصغت لكم قلوبها، وأنصتت لما يحدث عنكم أسماعها، وتعلقت بكم آمالها، ونيطت بقضيتكم آجالها، وهي تستصرخكم لحماية الدين فأجيبوها، وتستغيث بكم من جور الظالمين فأغيثوها، وتستنجد بهممكم على صيانة حقوقها فانجدوها، وتستثير عزائمكم وتدعوكم لهذا الخطر الرهيب فلبوها، وترجو وتؤمل فيكم فلا تُوئِسُوها، وكونوا عند رجائها وأملها، وبادروا ذوي الآمال بآمالهم، يا خير قوم، وانهضوا من مضاجعكم فقد طال النوم، وإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات ومن مات فات. يا أيتها الأمة العربية، يا زينة الأمم والشعوب، وممهدة المسالك والدروب، وفاتحة البلدان، وملبسة التيجان، يا خواضة البحار، وجوابة الأقطار ومجرية الأنهار، وممدنة الأقوام والأمصار، ومؤمنة السبل والديار، ومصلحة العقول والأفكار، يا حامية العرض والجار، ومبعدة الذل والصغار، ومزيلة الوصم والعار. قومي يا آخر أمة اختارها الله لإصلاح العالم الإنساني على سائر الأمم، وندبها سبحانه وتعالى لإخراج البشر من هاتيك التعاسة التي عششت وفرخت، والظلمات التي امتدت واكفهرت، والفتن التي عمت وطمت، والمفاسد التي تزاحمت وتراكمت، فقمت بما فوض إليك خير قيام من إصلاح الرعايا والرعاة وإرضاء الخالق والمخلوقات، وكما قمت من قبل فقومي اليوم، واتركي هذا النوم، فإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات ومن مات فات. أيها العرب لقد أكرمكم الله بلغة هي أقدم وأوسع وأغنى لغات العالم، وشرفكم بشريعة هي أكمل وأتم وأهدى الشرائع التي أنزلت للأمم، وأوجدكم في إقليم جعله من جسم الكرة الأرضية في محل القلب من ابن آدم، وأودع فيه بيته العتيق، وندب إليه الناس من كل فج عميق، وأوجد منكم وفيكم رسوله المصلح الأعظم، ونبيه الخاتم الأكرم، وزينكم بمحاسن لا يحصيها القلم والبنان، وخصكم بخصائص تجل عن أن يحيط بكنهها بيان. فقوموا يا خير أمة أخرجت للناس واشحذوا أنصل قرائحكم واقدحوا أزند أفكاركم، وأجيلوا جياد عقولكم، في وضع الخطط القويمة وتنظيم التدابير الحكيمة، وترتيب الأعمال العظيمة، للأخذ بناصر الشعوب الإسلامية المظلومة، وتطهير الأرض من مظالم ومفاسد وشرور بقية الأمم المظلومة، فإن المعول عليكم بعد الله اليوم، فجافوا جنوبكم عن مضاجع النوم، فإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات ومن مات فات. قوموا يا مركز الدائرة الإسلامية فتساندوا وتعاضدوا، وتحالفوا وتعاهدوا، وتفاوضوا وتشاوروا، وتظافروا وتناصروا، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وتهيئوا للعمل الأكبر، اجمعوا كلمتكم، ولموا شتيتكم، ورتبوا جموعكم وعبوا جيوشكم ورصوا صفوفكم، وانشروا راياتكم وهيئوا معداتكم وحصنوا ثغوركم وأحكموا أموركم وخذوا حذركم وأسلحتكم، وكونوا في المحافظة على الجامعة الإسلامة أخيط من ذرة، وفي مدافعة هذه المصائب النازلة على الأمة أضبط من عائشة بن غثم وقت أخذ بذنب البكرة، واتركوا أيها المصطفون الأخيار هذا النوم، فإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات ومن مات فات. أيها العرب الأجواد، قوموا على بركة الله فتناسوا الضغائن والأحقاد، وتباعدوا عن المشاحنات والمنازعات، وتجاهلوا المساءات القديمات، وجددوا الروابط والصلات، وانفروا خفافًا وثقالاً شبانًا وشيوخًا وكهولاً، إناثًا وذكورًا، بدوًا وحضرًا، لتتميم ما بدأتم به وتشييد ما وضعتم أساسه، قوموا - أقال الله عثرتكم، وأيقظكم من نومتكم - فاجعلوا العزم إمامكم، والحزم أمامكم، والصبر جنتكم، والثبات عدتكم وحماية الدين والأمة أعلى مرامكم، وصيانة حقوق البشر نهاية مساعيكم، وإصلاح العالم الغرض المقصود من قيامكم، وإعلاء كلمة الله أول وآخر أعمالكم، فأنتم لا غيركم يا أشرف قوم، الوسيلة العظمى في هذا اليوم، فالسلام على الدنيا وما فيها إن لم تتركوا النوم، فإن النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات ومن مات فات. ... ... ... ... ... ... ... عبد الحق الأعظمي البغدادي (المنار) قد طبعت هذه الرسالة على نفقة الشاب النجيب عبد الرحمن الذكير، التلميذ بمدرسة العلوم في عليكره نجل صديقنا البار الحاج مقبل الذكير التاجر الشهير في البحرين، وقد نشرت رسالة خطابية أخرى طبعت في العام الماضي تحث أمراء جزيرة العرب وسادتها ورؤساء عشائرها على الاتحاد والاتفاق والاستعداد لحفظ الحرمين الشريفين وسياجهما المحيط بهما، ثم لمساعدة الدولة العثمانية على حفظ بقية بلادها وأملاكها، وإنما نبَّه أهل الغيرة على الإسلام والدولة إلى كتابة مثل هذه الخطب والرسائل ما أصاب الإسلام، والدولة من الفواجع في طرابلس الغرب والبلقان. بعد نكبة المغرب الأقصى وإيران، وقد كانت جماهير المسلمين والعثمانيين وادعين ساكنين، غارين مغرورين، ظنًّا منهم أن قوة الدولة الحربية كافية لحفظ الحرمين مع سائر ولاياته الآسيوية والأفريقية والأوربية، وكان أهل الرأي والاطلاع على الحقائق قلما يتجرأ أحد منهم على بيان الخطر المحيط بالدولة كغيرها من ممالك الشرق، ومن تجرأ على ذلك رُدَّ قوله واتُّهِمَ، ولا سيما من كان من العرب، كما بينا ذلك مرارًا، كأنه كان يجب على العرب أن يرضوا دائمًا بالجهل والفقر والبداوة؛ لئلا يقال: إنهم يطلبون العلم والثروة والحضارة؛ لأجل الملك والخلافة، وهما إرث آل عثمان، الدائم إلى آخر الزمان، ونهاية الدوران، وكذلك كان يقول المفسدون بالسعاية لعبد الحميد خان، ومنهم من لا يزال يكرر هذه السعاية في الآستانة إلى الآن. ولكن الليل عسعس، والصبح تنفس، والحق حصحص، والأمر تمحص وعرف الذكي والبليد، والقوي والرشيد، أن كلا من الترك والعرب، على خطر قد اقترب، وأنه لا نجاة للفريقين إلا بإزالة التنازع من البين، واجتهاد كل منهما بتقوية نفسه؛ ليمكنه أن يحمي حقيقته وحقيقة الآخر، بأن يكون كل منهما عاملاً لنفسه ولأخيه، ولذلك قام أذكياء الترك أولا يحثون على نهضة تركيا وتلاهم بعض أذكياء العرب في الدعوة إلى نهضة عربية، وقد اتفق الفريقان أخيرًا على القول بأنه لا تعارض بين النهضتين، وأنه يجب أن يكونا متعاونين، ولعنة الله على من ينكث ما فتلا من العهد، وما سعيا إليه من أحكام رابطة الود، وعلى كل خادع منافق. أما نهضة الإسلام من حيث هو دين، فلا ترجى إلا من العرب ومتقني العربية من سائر المسلمين، وقد صرحت الأحاديث النبوية، بأن الإسلام سيأرز إلى الحجاز، ويعتصم بالبلاد العربية، كما بينا ذلك من قبل، وشايعنا عليه صاحب الرسالة اليوم، روى مسلم عن أبي هريرة والنسائي عن ابن مسعود وابن ماجه عنهما وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ [٥] الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء) ورواه مسلم عن ابن عمر بلفظ (إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها) ورواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني بلفظ (إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي) والطبراني وأبو نصر في الإبانة عن عبد الرحمن بن سنة بلفظ (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء) قيل: يا رسول الله وما الغرباء؟ قال: (الذين يَصْلُحُونَ عند فساد الناس) وفي رواية بدون ذكر السؤال وبزيادة (والذي نفسي بيده لينحازن الإيمان إلى المدينة كما يحوز السيل، والذي نفسي بيده ليأرزن الإسلام ما بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها) وأحمد عن سعد بن أبي وقاص بلفظ قريب من هذا اللفظ. والأُرْوِيّة في حديث الترمذي بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء أنثى الوعول أي تيوس الجبل، وهي تعتصم في أعلى الجبال؛ ولذلك يقال للوعل الأعصم، وأرز كعلم وضرب ونصر تَجَمَّعَ وعاد وثبت. والمعنى أن الدين سيعتقل ويعتصم في الحجاز ويتجمع فيه عندما يكون غريبًا، فيعود إلى الحجاز كما بدأ منه، ويكون عزيزًا قويًّا كالأروية في شناخيب الجبال، ثم يمتد وينتشر منه ثانية فيتم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كونه عاد كما بدأ. إن دعاة النصرانية يطاردون الإسلام في كل مكان، ووراءهم أممهم تمدهم بالملايين من الدنانير، ودولهم تحميهم وتنصرهم بنفوذها الذي لا يُعَارَض، وقد أردنا أن ننشئ مدرسة لتخريج الدعاة إلى الإسلام في عاصمة السلطنة العثمانية فلم تتجرأ حكومتها على الإذن لنا بالتصريح بذلك، ثم لم ترض بإنشاء المدرسة ولو باسم آخر، على أن لدعاة النصرانية عدة مدارس في تلك العاصمة، منها مدرسة عظيمة للبلغار، فقد ظهرت مقدمات أروز هذا الدين إلى الحجاز واعتصامه فيه ليعود منه كما بدأ، ومن البديهي أن ذلك إنما يكون بإحياء هدي الكتاب والسنة كما هو صريح في الحديث، ولا يكون ذلك إلا بحياة اللغة العربية ونهضة الأمة العربية في الحجاز وسائر جزيرة العرب، نعم إن البدع في الحجاز الآن كثيرة كغيره من بلاد المسلمين، وليس فيه حرية لمن يريد مقاومتها ولكن هذا سيزول، وتتم بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم وسينهض المسلمون في كل قطر لمساعدة عرب الحجاز وسائر الجزيرة على إحياء الإسلام في مهده الأول، وقد ظهرت بوادر ذلك بتأسيس جمعية خدام الكعبة في الهند، ويرجى أن يعم ذلك جميع البلاد الإسلامية إذا نقح قانون الجمعية على الوجه الذي أشرنا إليه، والشرط الأساسي للنجاح أن لا يكون لهذه الجمعية صيغة سياسية لا ظاهرة ولا باطنة، ومنه أن لا يكون لها علاقة بحكومة الحجاز ولا بالدولة التي تحمي الحجاز. وما ظهرت بوادر ميل المسلمين إلى مساعدة العرب والعربية على إحياء الإسلام في مهده إلا بعد أن ظهرت بوادر نهضة الأمة العربية، وتوجهها إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والمدني، وهي جديرة بذلك بدليل اتفاقها في سورية والعراق والجزيرة على بناء هذا الإصلاح على أساس اللامركزية الإدارية؛ إذ بذلك تحفظ حقوق الدولة العثمانية ويتمكن الارتباط بها، وبه يُعْطَى كل قطر حقه بحسب استعداده ومذاهب أهله، فلا يكلف إمام الزيدية في اليمن وأمراء عسير ونجد والحجاز أن يجعلوا إدارة بلادهم كإدارة ولاية بيروت مثلا، فضلا عن إدارة الآستانة وأدرنة، وكانت العرب ترى أن لها خصمًا واحدًا في هذا العصر، وهو جمعية الاتحاد والترقي التي رأوا منها ما رأوا من مقاومة لغتهم وسفك دمائهم في اليمن وعسير والكرك وحوران، والضغط على طلاب الإصلاح ببيروت، ولكن الجمعية أظهرت أخيرًا الرجوع عن تلك السياسة والجنوح إلى الاتفاق مع العرب فعسى أن تكون صادقة مخلصة هذه المرة وينفذ ذلك قريبا. برح الخفاء وظهر أن الأمة العربية تريد أن تحيا حياة مدنية اجتماعية سامية، ومتى أرادت الأمة فعلت، وقد ظهرت إرادتها في الطبقة المستنيرة منها، وألفت لذلك الأحزاب والجمعيات، وعقدت في أشهر عواصم أوربة المدنية أول مؤتمر عربي للبحث في حقوقها وما تطلبه من دولتها، وكذلك ظهرت بوادر الإصلاح في كل الأمم، فإن عارضه أفراد ممن يسمون الوجهاء والسروات، وتبع هؤلاء الأفراد بعض أوشاب من الأوباش، فليس هذا ببدع في سنن الاجتماع، بل هو مطرد في كل الأمم، وستقضي سنة الانتخاب الطبيعي على هؤلاء المعارضين كما قضت على أمثالهم في الأمم الأخرى. الأمة العربية تريد أن تحيا وقد بدأت تعمل عمل الأحياء، وإن لها دينًا على جميع المسلمين؛ لأنها كانت أستاذهم الأول في الدين، ودَيْنًا على جميع أمم المدنية؛ لأنها كانت الأستاذ لهم في جميع العلوم والفنون العقلية والكونية، فالواجب على الفريقين أن يساعدوها، ويجب على الدولة العثمانية من ذلك ما لا يجب على غيرها، وهو أن تعترف باستقلال جميع أمراء الجزيرة في اليمن وعسير ونجد، وتسمح لسائر الولايات بالإدارة اللامركزية المطلوبة، فإن لم تفعل تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، ولله الأمر من قبل ومن بعد ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.