للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو حامد الغزالي


حقوق الأخوة والصحبة
قال الإمام الغزالي: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين
الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقًا يجب الوفاء بها قيامًا بحق النكاح، فهكذا عقد
الأخوة؛ فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء
والإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف والتكليف، وذلك يجمعه ثمانية حقوق.
(الحق الأول) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الأخوين مثل
اليدين تغسل إحداهما الأخرى) وإنما شبههما باليدين لا باليد والرجل؛ لأنهما
يتعاونان على غرض واحد، فهكذا الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا توافقا في مقصد
واحد، فهما من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء،
والمشاركة في المال والحال وارتفاع الاختصاص والاستئثار.
والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب: (أدناها) أن تُنزله منزلة
عبدك أو خادمك، فتقوم بحاجته من فضل مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك
فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء، ولم تُحوِجه إلى السؤال، فهو غاية التقصير في
حق الأخوة.
(الثانية) : أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك، ونزوله
منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال، قال الحسن: (كان أحدهم يشق إزاره بينه
وبين أخيه) .
(الثالثة) وهي العليا: أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه
رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين. (أقول في هذا بحث أوردته في كتابي
(الحكمة الشرعية) وبينت فيه أن مرتبة الإيثار على النفس ليست عُليا المراتب،
وسأذكره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى) .
ومن تمام هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضًا، كما رُوي أنه سُعي بجماعة من
الصوفية إلى بعض الخلفاء، فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسين النوري. فبادر
إلى السياف ليكون هو أول مقتول، فقيل له في ذلك فقال: أحببت أن أوثر إخواني
بالحياة في هذه اللحظة، فكان ذلك سبب نجاة جميعهم - من حكاية طويلة - فإن لم
تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك، فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد في
الباطن، وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية، لا وقع لها في العقل والدين، فقد قال
ميمون بن مهران: (مَن رضي من الإخوان بترك الأفضال فليؤاخِ أهل القبور) .
وأما الدرجة الدنيا فليست مَرضية عند ذوي الدين؛ روي أن عتبة الغلام جاء
إلى منزل رجل كان قد آخاه، فقال: أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال: خذ
ألفين، فأعرض عنه، وقال: آثرتَ الدنيا على الله، أما استحيت أن تدَّعي الأخوة
في الله وتقول هذا.
ومَن كان في هذه الدرجة من الأخوة فينبغي أن لا تعامله في الدنيا، قال أبو
حازم: إذا كان لك أخ في الله فلا تعامله في أمور دنياك. وإنما أراد به من كان في
هذه الرتبة.
وأما الرتبة العليا: فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله {وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الشورى: ٣٨) أي كانوا خلطاء في الأموال
لا يميز بعضهم رحله عن بعض، وكان منهم من لا يصحب من قال: مالي أو نعلي؛
لأنه أضافه إلى نفسه. وجاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له وكان غائبًا، فأمر
أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته، وأخبرت الجارية مولاها فقال: (إن
صدقتِ فأنت حرة لوجه الله) سرورًا بما فعل. وجاء رجل إلى أبي هريرة رضي
الله عنه وقال: إني أريد أن أواخيك في الله، فقال: أتدري ما حق الإخاء؟ قال:
عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني. قال: لم أبلغ هذه المنزلة
بعد، قال: فاذهب عني. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل: (هل
يُدخِل أحدكم يده في كُم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه؟ قال: لا، قال:
فلستم بإخوان) .
ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا: يا أبا سعيد، أصليت؟ قال:
نعم، قالوا: فإن أهل السوق لم يصلوا بعد، قال: ومن يأخذ دينه من أهل السوق،
بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم. قاله كالمتعجب منه، وجاء رجل إلى إبراهيم
ابن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس فقال: إني أريد أن أرافقك، فقال له
إبراهيم: على شرط أن كون أملك لشيئك منك، قال: لا، قال: أعجبني صدقك.
قال: فكان إبراهيم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه، وكان لا يصحب إلا من
يوافقه، وصحبه رجل شرَّاك (هو الذي يعمل الشُّرُك للنعال) فأهدى رجل إلى
إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شُرُك
وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشُّرُك؟
قال: ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان؟ قال: كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة، قال:
اسمح يُسمح لك. وأعطى مرة حمارًا كان لرفيقه بغير إذنه رجلاً رآه راجلاً، فلما
جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أهدي لرجل من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: أخي فلان أحوج مني إليه،
فبعث به إليه، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر،
حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وروي أن مسروقًا ادَّان دينًا ثقيلاً وكان
على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم،
وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، ولما آخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والأهل، فقال عبد
الرحمن: بارك الله لك فيهما، فآثره بما آثره به، وكأنه قَبِله، ثم آثره به وذلك مساواة
والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة. وقال أبو سليمان الداراني: (لو أن الدنيا
كُلَّها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له) . وقال أيضا: (إني لألقم اللقمة
أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي) .
ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي
رضي الله عنه: لَعشرون درهمًا أعطيها أخي في الله أحب إليَّ من أن أتصدق
بمائة درهم على المساكين. وقال أيضًا: (لأن أضع صاعًا من طعام وأجمع
إخواني في الله أحبُّ إليَّ من إعتاق رقبة) .
واقتداء الكل في الإيثار برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه دخل غيضة
مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين: أحدهما معوج، والآخر مستقيم، فدفع
المستقيم إلى صاحبه فقال: يا رسول الله، كنت والله أحق بالمستقيم مني، فقال:
(ما من صاحب يصحب صاحبًا ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته، هل أقام
فيها حق الله أم أضاعه) . فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر يغتسل عندها، فأمسك حذيفة
ابن اليمان الثوب وقام يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اغتسل، ثم جلس
حذيفة ليغتسل، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب وقام يستر حذيفة عن
الناس، فأبى وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا تفعل، وأبى عليه السلام إلا
أن يستره بالثوب حتى اغتسل، وقال صلى الله عليه وسلم: ما اصطحب اثنان قط
إلا كان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه. وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع
دخلا منزل الحسن وكان غائبًا، فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت
سرير الحسن، فجعل يأكل، فقال له مالك: كُفَّ يدك، حتى يجيء صاحب البيت،
فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل، وكان محمد أبسط منه وأحسن خلقًا،
فدخل الحسن وقال: يا مُوَيْلِك، هكذا كنا لا يحتشم بعضنا من بعض، حتى ظهرت
أنت وأصحابك، وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في
الأخوة، كيف وقد قال الله تعالى:] أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [ (النور:٦١)
كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض إليه التصرف كما يريد، وكان أخوه
يتحرج من الأكل بحكم التقوى، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية، وأذن لهم في
الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء.