للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نصيحة اقتصادية

إن هذا الغلاء الشديد الذي تئط من حمله جميع الأمم - الذي كانت الحرب
سببًا طبيعيًّا [١] له، وابتدع له الطامعون من التجار وغيرهم أسبابًا صناعية وحيلاً
كثيرة - قد بلغ مده الغاية في حده، ولم يعد للعمران قِبل باحتماله، ومن المقطوع
به في علم الاقتصاد أن الأشياء التي قلت بقلة الأيدي العاملة لاشتغال ألوف الألوف
من البشر بالحرب عن الزراعة والصناعة ستكثر بعد عود تلك الأيدي إلى العمل،
فتجد المستهلكين للأقوات والمصنوعات قد قل عددهم؛ إذ أهلكت الحرب خمسة
وثلاثين مليونًا من البشر منها ١٢ مليونًا في ميادين القتال على أوسط تقدير،
والباقي فيما تولد عنها من الأدواء والأمراض والمجاعات كما قيل، ويوجد عشرات
الملايين أو مئات الملايين من البشر في الشرق لا يزال يتعذر إيصال البضائع
الأوربية إليهم، فلا بد إذًا أن تهبط أثمان البضائع والأقوات هبوطًا عظيمًا ربما كان
فوق تقدير المقدرين.
فالواجب على كل عاقل حريص على ماله أن يتبع القاعدة المعقولة التي جرينا
نحن عليها وكنا نوصي الناس بها، وهي أن لا يشتري أحد شيئًا ما قبل عودة
الأسواق إلى الأسعار المعتدلة إلا إذا كان لا غنى له عنه، وبعد البحث عن أسعاره في
عدة مواضع، ولا يغترن أحد بعد اليوم بحيل التجار بادعاء تنزيل الأثمان مؤقتًا،
ودعوتهم إلى ما يسمونه الفرصة العظيمة أو (الأوكازيون) ، فإن هذه الفرص
ليست بمؤقتة، وإنما هم مضطرون إلى الهبوط بها إلى ما دونها، فهم يغتنمون فرصة
حاجة الناس إلى الشيء وألفتهم للغلاء قبل الهبوط الشديد العام المنتظر، فالغنم لهم
والغرم على من يصدقهم.
بدأ أحذق التجار ينقص أسعار البضائع بالتدريج، ولا سيما المنسوجة، وظل
أغبياء الطامعين مصرين على نهب الناس بتلك الأسعار الفاحشة، بل علمنا علم
اليقين أن بعض الذين أعلنوا للناس وجوب اغتنام الفرصة بالنقص المؤقت من سعر
البضائع قد زادوا في سعرها بما كتبوا على بطائقها كما كانوا يفعلون في زمن
الحرب والهدنة، ولكن قلَّ مَن ينخدع بعد اليوم بهؤلاء القادة المستحقين للإفلاس
والفقر.