تتمة الكلام في الشورى في الإسلام: (ومنها) ما رواه الطبراني في الأوسط وأبو سعيد في القضاء عن علي، قال: قلت: يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل قضاء في أمره ولا سنة كيف تأمرني؟ قال: (تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقضِ فيه برأيك خاصة) . (ومنها) ما في صحيح البخاري عن ابن عباس: وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبابًا، وذكر واقعة في رجوع عمر إلى قول من يذكِّره بالقرآن، وقال: وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل. وما في الصحيحين وغيرهما من استشارة عمر في مسألة الوباء لما خرج إلى الشام وأخبروه إذ كان في (سرغ) أن الوباء وقع في الشام، فاستشار المهاجرين الأولين ثم الأنصار فاختلفا، ثم طلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخول على الوباء، فنادى عمر بالناس: إني مصبح على ظَهر (أي مسافر، والظهر: الراحلة) فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان: إحداها خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق لرأي شيوخ قريش. * * * ٩- التولية بالاستخلاف والعهد: اتفق الفقهاء على صحة استخلاف الإمام الحق، والعهد منه بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه [١] أي في الإمام الحق، فالعهد والاستخلاف لا يصح إلا من إمام مستجمع لجميع شروط الإمامة لمن هو مثله في ذلك، هذا شرط العهد إلى الفرد، واستدلوا على ذلك باستخلاف أبي بكر لعمر، وأما العهد إلى الجمع وجعله شورى في عدد محصور من أهل الحل والعقد، فاشترطوا فيه أن تكون الإمامة متعينة لأحدهم، بحيث لا مجال لمنازعة أحد لمن يتفقون عليه منهم، وهو الموافق لجعل عمر إياها شورى في الستة - رضي الله عنهم - قال الماوردي: وانعقد الإجماع عليها أصلاً في انعقاد الإمامة بالعهد، وفي انعقاد البيعة بعدد يتعين فيه الإمامة لأحدهم باختيار أهل الحل والعقد ا. هـ (آخر ص١١) . وقد تمسك بهذا أئمة الجور وخلفاء التغلُّب والمطامع ولم يراعوا فيه ما راعاه من احتجوا بعمله من استشارة أهل الحل والعقد والعلم برضاهم أولاً، وإقناع من كان توقف فيه، والروايات في هذا معروفة في كتب الحديث، ومِن أجمعِها (كنز العمال) وكتب التاريخ والمناقب. وأي عالم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر في تحري الحق والعدل والمصلحة بعد الاستشارة فيه ورضاء أهل الحل والعقد به على عهد معاوية واستخلافه ليزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب من جهة ورشوة الزعماء من أخرى؟ ثم ما تلاه واتبعت فيه سنته السيئة [٢] من احتكار أهل الجور والطمع للسطان، وجعله إرثا لأولادهم أو لأوليائهم كما يورث المال والمتاع؟ ألا إن هذه هي أعمال عصبية القوة القاهرة المخالفة لهدي القرآن وسنة الإسلام. ذكر الفقيه ابن حجر في (التحفة) اختصاص الاستخلاف بقسميه (الفردي والجمعي) بالإمام الحق واعتماده، ثم قال: وقد يشكل عليه ما في التواريخ والطبقات من تنفيذ العلماء وغيرهم لعهود بني العباس مع عدم استجماعهم للشروط، بل نفذ السلف عهود بني أمية مع أنهم كذلك، إلا أن يقال: هذه وقائع محتملة أنهم إنما نفذوا ذلك للشوكة وخشية الفتنة لا للعهد، بل هو الظاهر. اهـ وقال الماوردي في العهد المشار إليه في أول هذه المسألة: ويعتبر شروط الإمام في المُوَلَّى من وقت العهد إليه. وإن كان صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا عدلاً عند موت المُوَلِّي، لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته اهـ. ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث (عُبادة) في المبايعة وقد تقدم: إنه لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، وإن الخلاف في الخروج على الفاسق فيما إذا كان عادلاً وإمامته صحيحة ثم أحدث جورًا. اهـ. وقد علم مما أسلفنا أن العهد والاستخلاف بشروطه متوقف على إقرار أهل الحل والعقد له، واستدلالهم يقتضيه، وإن لم يصرحوا، وأما المتغلبون بقوة العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وليس حقًّا شرعيًّا لازمًا لذاته، بل يجب نبذه، كما تجب إزالتها واستبدال إمامة شرعية بها عند الإمكان والأمان من فتنة أشد ضررًا على الأمة منها، وإذا زالت بتغلب آخر فلا يجب على المسلمين القتال لإعادتها. *** ١٠- طالب الولاية لا يُوَلَّى: من هدي الإسلام أن طالب الولاية والإمارة لأجل الجاه والثروة لا يولى. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا أن يؤمرهما: (لن نستعمل على عملنا من أراده) وفي رواية (إننا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه) رواه الشيخان: البخاري بهذا اللفظ، ومسلم بلفظ: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه) وفي رواية للإمام أحمد: (إن أَخْوَنَكم عندنا من يطلبه) فلم يستعن بهما في شيء حتى مات. وسبب هذا المنع القطعي المؤكد بالقسم أن طلاب الولايات - ولا سيما أعلاها وهي الإمامة - والحريصون عليها هم محبو السلطة للعظمة والتمتع والتحكم في الناس، وقد ظهر أنهم هم الذين أفسدوا أمر هذه الأمة، وأولهم من الجماعات بنو أمية، وإن كان فيهم أفراد، بل منهم رجل الرجال وواحد الآحاد عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين، ولكنه لم يكن حريصًا على الإمامة ولو أمكنه لأعادها إلى العلويين. وذكر الحافظ في شرح الحديث المذكور آنفًا كلمة حق في معناه عن المهلب قال: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك. وهنالك أحاديث أخرى. ولو حافظ المسلمون على أصل الشرع الذي قُرر في عهد الراشدين في أمر الخلافة، لَمَا وقعت تلك الفتن والمفاسد، ولعم الإسلام الأرض كلها. وقد قال عالم ألماني لشريف حجازي في الآستانة: إنه كان ينبغي لنا أن نضع لمعاوية تمثالاً من الذهب في عواصمنا؛ لأنه لو لم يحول سلطة الخلافة عما وضعها عليه الشرع وجرى عليه الراشدون، لَمَلَكَ العرب بلادنا كلها وصيروها إسلامية عربية. *** ١١- إمامة الضرورة والتغلُّب بالقوة: اتفق محققو العلماء على أنه لا يجوز أن يبايَع بالخلافة إلا مَن كان مستجمعًا لما ذكروه من شرائطها، وخاصة العدالة والكفاءة والقرشية، فإذا تعذر وجود بعض الشروط تدخل المسألة في حكم الضرورات، والضرورات تقدر بقدرها، فيكون الواجب حينئذ مبايعة مَن كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها،قال الكمال بن الهمام في المسايرة: والمتغلب تصح منه هذه الأمور للضرورة كما لو لم يوجد قرشي عدل أو وجد ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة ا. هـ. [٣] قال هذا ردًّا على جماعة الحنفية في استدلالهم على عدم اشتراط العدالة في الأئمة بقبول بعض الصحابة للولاية والقضاء من ظلمة بني أمية كمروان وصلاتهم معهم، فمراده بالأمور: القضاء والإمارة والحكم، كما قاله شارح المسايرة. وقال السعد في شرح المقاصد: وههنا بحث، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على شرائطه وبايع طائفة من أهل الحل والعقد قرشيًّا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد ويقتدر على النصب والعزل لمن أراد - هل يكون ذلك إتيانًا بالواجب؟ وهل يجب على ذوي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والعدل والإنصاف، أن يفوضوا إليه الأمر بالكلية، ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد يُتَمَسك بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول [٤] . اهـ. وإنما فرض أن المبايعين في هذه الصورة بعض أهل الحل والعقد؛ لأنه إذا بايعه جميعهم ومنهم الملوك الذين ذكرهم تمت شوكته ونفذ حكمه قطعًا، وهذه الصورة تصدق على بعض خلفاء بني أمية وبني العباس الذين كانت تنقصهم العدالة أو العلم الاجتهادي، وكان الجمهور يوجبون طاعتهم، ويصححون للضرورة إمامتهم إذا لم تتيسر بيعة أمثل منهم، وإن كان موجودًا والمعتمد عند الحنفية أن إمامتهم صحيحة مطلقًا لأن العلم والعدالة عندهم ليست من شروط الانعقاد كما تقدم في محله. قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية في (المسايرة) تبعًا للغزالي: (الأصل العاشر) لو تعذر وجود العلم والعدالة، فمن تصدى للإمامة بأن تغلَّبَ عليها جاهل بالأحكام أو فاسق وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق - حكمنا بانعقاد إمامته كي لا نكون كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وإذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغي في بلادهم التي غلبوا عليها لمسيس الحاجة، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند لزوم الضرر العام بتقدير عدمها. وإذا تغلب آخر على ذلك المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول وصار الثاني إمامًا. اهـ. وقال السعد في شرح (المقاصد) بعد ذكر شروط الإمامة، وآخرها النسب القرشي ما نصه: وأما إذا لم يوجد في قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة - فلا كلام في جواز تقلد القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوك، كما إذا كان الإمام القرشي فاسقًا أو جائرًا أو جاهلاً، فضلاً عن أن يكون مجتهدًا. وبالجملة مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار، وأما عند العجز والاضطرار، واستيلاء الظلمة والكفار والفجار، وتسلط الجبابرة الأشرار، فقد صارت الرئاسة الدنيوية تغلبية، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام ضرورة، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط، والضرورات تبيح المحظورات، وإلى الله المشتكى في النائبات، وهو المرتجى لكشف الملمات ا. هـ بحروفه [٥] . والفرق بين هذه الخلافة وما قبلها بعد كون كل منهما جائزًا للضرورة أن الأولى صدرت من أهل الحل والعقد باختيارهم لمن هو أمثل الفاقدين لبعض الشرائط، ولذلك فَرَضَه المحقق التفتازاني قرشيًّا؛ إذ القرشيون كثيرون دائمًا، وأما الثانية فصاحبها هو المعتدي على الخلافة بقوة العصبية لا باختيار أهل الحل والعقد له؛ لعدم وجود من هو أجمع للشرائط منه، فذاك يطاع اختيارًا، وهذا يطاع اضطرارًا. ومعنى هذا أن سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة، تنفذ بالقهر وتكون أدنى من الفوضى. ومقتضاه أنه يجب السعي دائما لإزالتها عند الإمكان، ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكُرة بين المتغلبين يتقاذفونها، كما فعلت الأمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها بقوتها الكامنة فيها، وكون قوة ملوكها وأمرائها منها، ألم تر إلى من استناروا بالعلم الاجتماعي منا كيف هبت لإسقاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين، وكان آخر من فعل ذلك الشعب التركي، ولكنه أسقط نوعًا من التغلب بنوع آخر عسى أن يكون خيرًا منه، وإنما فعله تقليدًا لتلك الأمم الأبية؛ إذ كان جماهير علماء الترك والهند ومصر وغيرها من الأقطار، يوجبون عليهم طاعة سلاطين بني عثمان، ما داموا لا يظهرون الكفر والردة عن الإسلام، مهما يكن في طاعتهم من الظلم والفساد وخراب البلاد وإرهاق العباد، عملاً بالمعتمد عند الفقهاء بغير نظر ولا اجتهاد، وهذا أهم أسباب اعتقاد الكثير منهم أن سلطة الخلافة الشرعية تحول دون حفظ الملك والحياة الاستقلالية، وسنفصل الكلام في هذا بعد، وفيما يجب لجعل الحكم شرعيًّا إسلاميًّا. *** ١٢ - ما يخرج به الخليفة من الإمامة: قال الماوردي بعد بيان ما يجب على الإمام، وقد تقدم: وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله. (والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جَرح في عدالته، والثاني نقص في بدنه، فأما الجرح في عدالته فهو على ضربين (أحدهما) ما تابع فيه الشهوة (والثاني) ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات، تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة، لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد. وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بشبهة تَعرض فيتأول لها خلاف الحق - فقد اختلف العلماء فيها: فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، ويخرج بحدوثه منها.. إلخ (ص١٦) . (المنار: وبعد تفصيل الخلاف في هذه المسألة - وهي الابتداع بالتأول - ذكر القسم الثاني مما يمنع من الخلافة وهو نقص البدن فجعله ثلاثة أقسام: نقص الحواس ونقص الأعضاء ونقص التصرف. وقسمها أيضًا إلى أقسام، وأطال في بيان أحكامها والذي تقتضي الحال نقله منه نقص التصرف، وقد عقد له فصلاً خاصًّا قال فيه ما نصه) : (وأما نقص التصرف فضربان: حَجْر، وقهر، فأما الحَجْر فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية، ولا مجاهرة بمشاقة، فلا يمنع ذلك من إمامته، ولا يقدح في صحة ولايته، ولكن ينظر في أفعال من استولى على أموره، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل جاز إقراره عليها، تنفيذًا لها، وإمضاء لأحكامها؛ لئلا يقف من الأمور الدينية ما يعود بفساد على الأمة. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل لم يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه) . (وأما القهر فهو أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه فيمنع ذلك من عقد الإمامة له؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء كان العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا، وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة، وإن أُسِرَ بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من نصرته، وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك، إما بقتال أو فداء. (فإن وقع الإياس منه لم يخلُ حال مَن أسره مِن أن يكونوا مشركين أو بغاة المسلمين، فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه، واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة) . وهنا ذكر مسألة عهده بالإمامة إلى غيره، وما يصح منها وما لا يصح، ثم قال: (وإن كان مأسورًا مع بغاة المسلمين: فإن كان مرجو الخلاص فهو على إمامته ويكون العهد في ولي العهد ثابتًا وإن لم يصر إمامًا، وإن لم يرج خلاصه لم يخل حال البغاة من أحد أمرين: إما أن يكونوا نصبوا لأنفسهم إمامًا أو لم ينصبوا، فإن كانوا فوضى لا إمام لهم فالإمام المأسور على إمامته؛ لأن بيعته لهم لازمة، وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل، إذا صار تحت الحَجْر، وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم. فإن خلع المأسور نفسه أو مات لم يصر المستناب إمامًا لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده. وإن كان أهل البغي قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته وانقادوا لطاعته، فالإمام المأسور في أيديهم خارج عن الإمامة بالإياس من خلاصه؛ لأنهم قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة، وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة، ولا للمأمسور معهم قدرة، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه لها، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة بخروجه منها) (ص١٩، ٢٠) . ومن المعلوم أن كل هذا التفصيل في الإمام الحق المستجمع للشروط القائم بالوجبات، وأما إمامة التغلب فكلها تجري على قاعدة الاضطرار المتقدمة (رقم ١١) . وما ذكره من انعزال الإمام بالفسق قد اختُلف فيه، والمشهور الذي حققه الجمهور أنه لا يجوز تولية الفاسق، ولكن طروء الفسق بعد التولية لا تبطل به الإمامة مطلقًا وبعضهم فصَّل: قال السعد في شرح المقاصد: وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة ثم جاء آخر فقهره انعزل وصار القاهر إمامًا، ولا يجوز خلع الإمام بلا سبب، ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه، فإن كان يعجز عن القيام بالأمر انعزل وإلا فلا، ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء وينعزل بالجنون وبالعمى والصم والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم. (ص٢٧٢ ج٢) . وقد استدل من قال يخلع بالكفر دون المعصية بحديث عبادة بن الصامت في المبايعة عند الشيخين قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) . وقد ذكر الحافظ في شرح قوله (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) روايات أخرى بلفظ المعصية والإثم بدل الكفر، ثم قال: وفي رواية إسماعيل بن عبد الله عند أحمد والطبراني والحاكم من روايته عن أبي عبادة (سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون. فلا طاعة لمن عصى الله) وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه: (سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة) . وقال في شرح قوله: (عندكم من الله فيه برهان) أي من نص آية، أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل. قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محقَّقًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأَنْكِرُوا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم ا هـ وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر. والذي يظهر: حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر. وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم. ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إذا قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب , وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورًا بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح: المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه. اهـ. وقد تقدم التحقيق في المسألة ونصوص المحققين فيها، وملخصه أن أهل الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل، وإزالة سلطانهم الجائر، ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة والمفسدة هي المرجوحة، ومنه إزالة شكل السلطة الشخصية الاستبدادية، كإزالة الترك لسلطة آل عثمان منهم، فقد كانوا على ادعائهم الخلافة الإسلامية جائرين جارين في أكثر أحكامهم على ما يسمى في عرف أهل هذا العصر بالملكية المطلقة، فلذلك بدأ الترك بتقييدهم بالقانون الأساسي تقليدًا لأمم أوروبا، وسبب ذلك جهل الذين قاموا بهذا الأمر بأحكام الشرع الإسلامي (كمدحت باشا وإخوانه) ثم قام الكماليون أخيرًا بإسقاط هذه الدولة، ورفض السلطة الشخصية بجملتها وتفصيلها. *** ١٣- دار العدل ودار الجور والتغلب: دار الإسلام وما يقابلها من دار الحرب معروفان، ولهما أحكام كثيرة. وقد تكرر فيما نقلناه عن العلماء من أحكام الخلافة ذكر دار العدل، وهي دار الإسلام التي نصب فيها الإمام الحق، الذي يقيم ميزان العدل، تُسمى بذلك إذا قوبلت بدار البغي والجور، وهي ما كان الحكم فيها بتغلب قوة أهل العصبية من المسلمين، وعدم مراعاة أحكام الإمامة الشرعية وشروطها، وأهل دار العدل هم الذين يسمَّون الجماعة، وهم الذين يجب على جميع المسلمين اتباعهم واتباع إمامهم اختيارًا، وعدم اتباع من يخالفهم إلا اضطرارًا، وهذان الداران قد توجدان معًا في وقت واحد، وقد توجد إحداهما دون الأخرى، ولكل منهما أحكام. أما دار العدل فطاعة الإمام فيها في المعروف واجبة شرعًا ظاهرًا وباطنًا، ولا تجوز مخالفته إلا إذا أمر بمعصية لله تعالى ثابتة بنص صريح من الكتاب والسنة دون الاجتهاد والتقليد، ويجب قتال من خرج عليه من المسلمين أو بغى في بلاده الفساد بالقوة، كغيره من القتال الواجب شرعًا، وتجب الهجرة من دار الحرب ومن دار البغي إلى هذه الدار على من استضعف فيهما فظلم أو منع من إقامة دينه، وعلى من تحتاج إليهم دار العدل لحفظها ومنعها من الكفار أو البغاة، ولغير ذلك من المصالح الواجبة لإعزاز الملة، إذا توقف هذا الواجب على هذه الهجرة. وأما دار البغي والجور فالطاعة فيها ليست قربة واجبة شرعًا لذاتها، بل هي ضرورة تقدر بقدرها، وتقدم تفصيل القول فيها. ومن الظلم الموجب للهجرة منها على من قَدَرَ إلى دار العدل - إن وُجدت - حمل المتغلبين من يخضع لهم على القتال لتأييد عصبيتهم والاستيلاء على بعض بلاد المسلمين، فمن قدر على التفصي من ذلك وجب عليه، فأمرها دائمًا دائر على قاعدة ارتكاب أخف الضررين، والظاهر أن يفرق بين قتالهم لأهل العدل فلا تباح الطاعة فيه بحال، وبين قتال غيرهم كأمثالهم من المتغلبين، وفيه تفصيل لا محل لبيانه هنا. وأما الجهاد الشرعي فيجب مع أئمة الجور؛ ومنه دفاعهم عن بلادهم إذا اعتدى عليها الكفار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقِتلةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه. وفي رواية: يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي) رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة. والعمية بضم العين وكسرها (لغتان) وتشديد الميم وفسروها بالكبر والضلال، والمراد بها عظمة القوة والبطش، والتغلب الذي لا يراد به الحق، ولذلك بينه بأنه يغضب للعصبة، وهي بالتحريك: قوم الرجل الذين يعصبونه ويعتصب بهم، أي يقوى ويشتد، وفي رواية (العصبية) وهي نسبة إلى العصبة. وأنت تعلم أن المتغلبين ما قاموا ولا يقومون إلا بالعصبية، المراد بها عظمة الملك العمية، لا يقصدون بقتالهم إعلاء كلمة الله، ولا إقامة ميزان الحق والعدل بين جميع الناس، وما أفسد على هذه الأمة أمرها، وأضاع عليها ملكها إلا جعل طاعة هؤلاء الجبارين الباغين واجبة شرعًا على الإطلاق، وجعل التغلب أمرًا شرعيًّا كمبايعة أهل الاختيار من أولي الأمر وأهل الحل والعقد للإمام الحق، وجعل عهد كل متغلبِ باغٍ إلى ولده أو غيره من عصبته لأجل حصر السلطان والجبروت في أسرته - حقًّا شرعيًّا وأصلاً مرعيًّا لذاته، وعدم التفرقة بين استخلاف معاوية لولده يزيد الفاسق الفاجر بالرغم من أنوف المسلمين، وبين عهد الصديق الأكبر للإمام العادل عمر بن الخطاب ذي المناقب العظيمة بعد مشاورة أهل الحل والعقد فيه وإقناعهم به، والعلم بتلقيهم له بالقبول. *** ١٤- كيف سُن التغلب على الخلافة: كان سبب تغلُّب بني أمية على أهل الحل والعقد من الأمة أن قوة الأمة الإسلامية الكبرى في عهدهم كانت تفرقت في الأقطار التي فتحها المسلمون وانتشر فيها الإسلام بسرعة غريبة وهي مصر وسورية والعراق، وكان أهل هذه البلاد قد تربوا بمرور الأجيال على الخضوع لحكامهم المستعمرين من الروم والفرس، فلما صارت أزمَّة أمورهم بيد حكامهم من العرب استخدمهم معاوية الذي سن سنة التغلب السيئة في الإسلام على الخضوع له بجعل الولاة فيهم من صنائعه الذين يؤثرون المال والجاه على هداية الإسلام وإقامة ما جاء به من العدل والمساواة، وصار أكثر أهل الحل والعقد الحائزين للشروط الشرعية محصورين في البلدين المكرمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) وهم ضعفاء بالنسبة إلى أهل تلك الأقطار الكبيرة الغنية التي تعول الحجاز وتغذيه. أخذ معاوية البيعة لابنه الفاسق يزيد بالقوة والرشوة، ولم يلق مقاومة تذكر بالقول أو الفعل إلا في الحجاز، فقد روى البخاري والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيره - واللفظ له - من طرق أن مروان خطب بالمدينة وهو على الحجاز من قِبَل معاوية فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيًا حسنًا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر وفي لفظ: سنة أبي بكر وعمر - فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده إلخ. وفي رواية: سنة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما. ثم حج معاوية ليوطئ لبيعة يزيد في الحجاز، فكلم كبار أهل الحل والعقد أبناء أبي بكر وعمر والزبير فخالفوه وهددوه إن لم يردها شورى في المسلمين، ولكنه صعد المنبر وزعم أنهم سمعوا وأطاعوا وبايعوا يزيد، وهدد من يكذبه منهم بالقتل. وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن زمانة أن معاوية لما حضره الموت قال ليزيد: قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت نصيحته. قال: فلما كان من خلافهم عليه ما كان، دعاه فوجهه فأباحها ثلاثًا، دعاهم إلى بيعة يزيد وأنهم أعبُدٌ له وقِنٌّ في طاعة الله ومعصيته. وأخرج أبو بكر بن خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ في المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يومًا فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإني عرفت نصيحته إلخ. ذكره الحافظ في الفتح. أباح عدو الله مدينة الرسول ثلاثة أيام فاستحق هو وجنده اللعنة العامة في قوله صلى الله عليه وسلم عند تحريمها كمكة (من أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا عَدْلاً) أي فرضًا ولا نفلاً. متفق عليه. فكيف بمن استباح فيها الدماء والأعراض والأموال؟ وكان الحسن البصري يقول: أفسد أمرَ الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف - وذكر مفسدة التحكيم - والمغيرة بن شعبة. وذكر قصته إذ عزله معاوية عن الكوفة فرشاه بالتمهيد لاستخلاف يزيد فأعاده. قال الحسن: فمن أجل هذا بايع هؤلاء الناس لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة اهـ. ملخصا من تاريخ الخلفاء. وهذا الذي قاله الحسن البصري - من أئمة التابعين - موافق لما قاله ذلك السياسي الألماني لأحد شرفاء الحجاز من أنه لولا معاوية لظلت حكومة الإسلام على أصلها، ولساد الإسلام أوروبا كلها، وقد تقدم. وقد اضطرب أهل الأهواء ومن لا علم لهم بشيء من حقيقة الإسلام ونشأته إلا من أخبار المؤرخين وهي أمشاج لم يكن يميز صحيحها من ضعيفها وحقها من باطلها إلا الحفاظ من المحدثين، فنجد من هؤلاء من يميل إلى النواصب أو الخوارج ومن يرجح جانب غلاة الشيعة , وكان أستاذنا الشيخ حسين الجسر ينشد: من طالع التاريخ مع أنه ... لم يتمسك باعتقاد سليم أصبح شيعيًّا وإلا فقُل: يخرج عن نهج الهدى المستقيم ولذلك نجد في المصريين وغيرهم من المنتمين إلى مذاهب السنة - على غلو دهمائهم في تعظيم آل البيت - مَن هو ناصبي يفضل بني أمية على العلويين، ويزعم أنهم أعزوا الإسلام وأقاموا الدين، والتحقيق أن فتح الإسلام لكثير من البلاد في أيامهم الذي هو حسنتهم العظيمة كان أمرًا اقتضته طبيعة الإسلام والإصلاح الذي جاء به لإنقاذ البشر، ولم يكن لغير عمر بن عبد العزيز منهم عمل انفرد به في إقامة الدين نفسه، ولم يكن لهم عمل في ذلك مختص بدولتهم بحيث يقال: إنه لولاهم لرجع الإسلام القهقرى في العلم والعمل أو الفتح، وما كان لهم من عمل حسن في هذه الأمور، فقد كان لمن بعدهم من العباسيين مثله، وكلاهما تابع في الدين للخلفاء الراشدين لا متبوع. وأما الأمور المدنية التي استتبعت الفتح الإسلامي فلكل من الفريقين فيها عمل، وإنما سيئة الأمويين التي لا تغفر ما سنوه في قاعدة حكومة الإسلام، فهي انتخابية شورى في أولي الاختيار من أهل الحل والعقد، وقد نسخوها بالقاعدة المادية: القوة تغلب الحق، فهم الذين هدموها، وتبعهم من بعدهم فيها. ومن اطلع على كتب السنة يعلم أن الله تعالى قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على مستقبل أمته، وأن ما وقع كان مما تقتضيه طباع البشر بحسب قدر الله وسنته، وقد أخبر بذلك بعض أصحابه بالتلميح تارة وبالتصريح أخرى، ومنهم أبو هريرة الذي روى عنه في الصحاح والسنن والمسانيد عدة أحاديث وآثار في ذلك، وأنه كان يستعيذ بالله من إمارة الصبيان ومن رأس الستين، وهي السنة التي ولي فيها يزيد (وقد مات قبلها) وكان يقول: لو قلت لكم: إنكم ستحرقون بيت ربكم وتقتلون ابن نبيكم لقلتم: لا أَكذَبَ من أبي هريرة. يعني قتل الحسين وقد وقع بعده. وأخرج البخاري وغيره من طريق عمر بن يحيى بن سعيد بن العاص الأموي قال: أخبرني جدي قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا مروان (هو ابن الحكم بن أبي العاص وكان أمير المدينة لمعاوية) قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: (هلكة أمتي على أيدي غلمة من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا الشام فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم اهـ. وإنما أهلكوا الأمة بإفساد حكومتها الشرعية الإصلاحية، وإلا فقد وسعوا ملكها بتغلب العصبية. قال الحافظ في شرح الحديث: قال ابن بطال: وفي هذا الحديث حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء ولم يأمرهم بالخروج عليهم، مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم، لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين، وأيسر الأمرين اهـ. ونقول: ما ذكر من القاعدة صواب، وما قبله من تطبيق النازلة عليها لا يصح، فقد قاوم أهل الحجاز فغُلبوا على أمرهم، والصواب ما بيناه من قبل من تفرق جماعة الإسلام العالمة العادلة في الممالك، وكون من بقي منهم بالحجاز ضعفاء بالنسبة إلى المملكة الإسلامية الجديدة، فلم يكن أمر الخروج ممكنًا إلا بعصبية كعصبيتهم كما فعل بنو العباس، وقد مهَّد أكثر العلماء السبيل للاستبداد والظلم بمثل هذا الإطلاق في الخضوع لأهلهما، وقد تكرر بيان التحقيق فيه. ثم قال الحافظ: يُتعَجَّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع أن الظاهر أنهم من ولده، فكأن الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشد في الحجة لعلهم يتعظون. وقد وردت أحاديث في لعن الحَكَم والد مروان وما ولد، أخرجها الطبراني وغيره غالبها فيه مقال وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك اهـ. وقوله: (من ولده) يصدق على الأكثر وإلا فإن يزيد بن معاوية أول من كان يعني أبو هريرة بالغلمة والصبيان. وجملة القول: أن مرادنا من هذا البحث بيان مفسدة إخراج الخلافة الإسلامية عما وضعها عليه الإسلام، وجعلها تابعة لقوة العصبية والتغلب، فهذه المفسدة هي أصل المفاسد والرزايا التي أصابت المسلمين في دينهم ودنياهم. وقد كررنا ذكرها لتحفظ ولا تنسى. ومن أغرب الغرائب أن قصّر المسلمون عن غيرهم من أهل الملل التي كانوا قد فاقوها في العلم والعمل، بأن لم يقم أحد منهم بعمل منظم لإعادة حكم الإسلام كما بدأ، بل رضوا بالتفرق والانقسام والظلم والاستذلال مِن كل مَن تولى الأمر في قطر من أقطارهم، حتى سهل عليهم مثل ذلك من غيرهم، فكانوا كما قلنا في المقصورة: من ساسه الظلم بسوط بأسه ... هان عليه الذل من حيث أتى ومن يهن هان عليه قومه ... وماله ودينه الذي ارتضى أفلم يأتهم نبأ ما فعل البابوات من تنظيم الجمعيات وجمع القناطير من الدنانير لأجل إعادة سلطانهم الديني؟ ألا إننا قلدنا غيرنا فيما يضر، ولم نقلد ولا استقللنا فيما ينفع في هذا الأمر، ولا يزال فينا من يجدّ في نبذ ما بقي من قشور سلطان الخلافة الإسلامية بعد ذهاب لبابها، ويظنون أن وجودها هو الذي أضعف ملكنا وإنما أضعفه ذهابها. فإن ما لا نزال ندعيه منها للمستبدين كذب على الإسلام، ولو استمسكنا بعروتها الوثقى لكنا سادة العالمين، وقد عرف هذا كثير من علماء الأجانب ولم يعرفه أحد من زعمائنا السياسيين. *** ١٥- وحدة الخليفة وتعدده: أصل الشرع أن يكون رئيس الحكومة - وهو الإمام - واحدًا، وهذا أمر إجماعي عند جميع الأمم كالمسلمين، وسببه معروف وهو أن أمر الحكومة أولى من كل أمر عام له شُعب كثيرة بأن تكون له جهة واحدة يُضبط بها النظام وتُتقى الفوضى. قال الكمالان في (المسايرة) وشرحها [٦] (ولا يولى) الإمامة (أكثر من واحد) لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، والأمر بقتله محمول كما صرح به العلماء على ما إذا لم يندفع إلا بالقتل، فإذا أصر على الخلاف كان باغيًا، فإذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، والمعنى في امتناع تعدد الإمام أنه منافٍ لمقصود الإمامة من اتحاد كلمة أهل الإسلام واندفاع الفتن، وأن التعدد يقتضي لزوم امتثال أحكم متضادة (قال الحجة - حجة الإسلام الغزالي: فإن ولي عدد موصوف بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من الأكثر، والمخالف باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق وكلام غيره من أهل السنة اعتبار السبق فقط فالثاني يجب رده) ا. هـ ودليل الجمهور نص الحديث. وقال الماوردي (في ص٧) : (وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما؛ لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه) اهـ. وأقول: إنما جوَّزه من جوَّزه في حال تعذر الوحدة، وهذا هو الخلاف الذي نقله العضد في المواقف، إذ قال: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد) قال شارحه السيد الجرجاني: لوقوع الخلاف. واعتمد الجواز مُحشّيه الفناري وهو من أشهر علماء الروم أو الترك. وأما في حال إمكان الوحدة فلا نعلم أن أحدًا من العلماء الذين لعلمهم قيمة قال بجواز التعدد، وقول من قال بالتعدد للضرورة أقوى من قول الجمهور بإمامة المتغلب للضرورة، إذا كان كل من الإمامين أو الأئمة مستجمعًا للشروط مقيمًا للعدل، فإن كان في هذه تفرق فهو في غير عدوان ولا عداوة، وفي تلك بغي وجور ربما يفسد الدين والدنيا معًا، بل أفسدهما بالفعل. وقد بسط ترجيح هذا القول السيد صديق خان بهادر في آخر كتابه الروضة الندية [٧] قال: (وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم - فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كلَّ واحد منهما جماعةٌ في وقت واحد، فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما. فإن استمرا على التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك) . (وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر من أقطار [٨] الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب [٩] ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يُدرى مَن قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا العكس. فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر ذلك فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان) اهـ. هذا أوجه تفصيل قيل في جواز التعدد للضرورة، وهو اجتهاد وجيه، ويشبهه عند بعض الأئمة تعدد الجمعة في البلد الواحد، فالأصل في الشرع أن يجتمع أهل البلد كلهم في مسجد واحد؛ لأن للشارع حكمة جلية في الاجتماع، فإن تعددت فالجمعة للسابق، والمتأخر لا يعتد بجمعته، فمتى علم أنها أقيمت في مسجد لم يجز أن تقام ثانية فيه ولا في غيره من ذلك البلد، ومن أقامها كانت صلاتهم باطلة وكانوا آثمين ولا تسقط عنهم صلاة الظهر، وجوَّز التعدد للضرورة بقدرها أشد المانعين حظرًا له في حال الاختيار. وظاهر كلام الجمهور الذين أطلقوا منع تعدد الإمام الحق، أن المسلمين الذين لا يستطيعون اتباع جماعة المسلمين في دار العدل لبعد الشقة وتعذر المواصلة، يعذرون في تأليف حكومة خاصة بقطرهم، ويكون حكمهم فيها حكم من أسلموا وتعذرت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام لنصرة الإمام، ولا تكون دارهم مساوية لدار العدل وجماعة الإمامة الذين أقاموا الشرع قبلهم، بل يجب عليهم اتخاذ الوسائل للالتحاق بها، وجمع الكلمة ولو باستمداد السلطة منها، ونصرة إمامها وجماعتها بقتال من يقاتلهم عند الإمكان، كما يجب على الجماعة مثل ذلك لهم في حال الاعتداء عليهم، وإذا صح أن يكون حكمهم كحكم من لم يهاجروا إلى دار الإسلام، فالحكم في نصرهم يدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: ٧٢) على القول المختار بأن هذه الآية في الولاية العامة، لا فيما كان من ولاية التوارث خاصة. وجملة القول: أن جمهور المسلمين على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز، ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتُعذر في ترك اتباع الجماعة هي حكومة ضرورة تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي عدوه شاذًّا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة، ولهذه المسائل أحكام كثيرة لا محل هنا للبحث فيها. ولكن لا بد من البحث في ثبوت هذه الضرورة، فإن بُعْدَ الشقة بين البلاد، وتعذر المواصلات التي يتوقف عليها تنفيذ الأحكام، مما يختلف باختلاف الزمان والمكان، فلا يصح أن يجعل عذرًا دائمًا لصدع وحدة الإسلام، وقد تقارب الزمان في عهدنا هذا مصداقًا لما ورد في بعض الأحاديث المنبئة بالأحداث المستترة في ضمائر الغيب، فاتصلت الأقطار النائية بعضها ببعض، في البر والبحر، بالبواخر والسكك الحديدية، ثم بالمراكب الهوائية (الطيارات والمناطيد) التي صارت تنقل البرد والناس مسافة مئات وألوف من الأميال في ساعة أو ساعات، دع نقل الأخبار بقوة الكهرباء من أول الدنيا إلى آخرها في دقائق معدودات، ولو كانت هذه الوسائل في عصر سلفنا لملكوا العالم كله (هو ما يطمع به بعض الأمم اليوم، وهذه شعوب الشمال في أوروبا قد سادت معظم شعوب الجنوب والشرق، وبين الفريقين منتهى أبعاد العمران من الأرض) . ولكن المسلمين قصروا في هذه الوسائل، فبعض بلادهم محرومة منها كلها، وما يوجد في بعضها فهم عالة فيه على الإفرنج، وإن شرعهم يفرضها عليهم فرضًا دينيًّا من وجوه: أهمها أن كثيرًا من الفرائض والواجبات تتوقف عليها أو لا تتم إلا بها، كحفظ المملكة والدفاع عنها، والإعداد لأعدائها ما نستطيع من قوة كما أمرنا كتابنا، وقد صار هذا من الفرائض العينية علينا؛ لاستيلائهم على أكثر بلادنا، ويتحقق الوجوب العيني على الرجال والنساء باستيلاء الأعداء على قرية صغيرة منها، دع توقف وحدة السلطة عليه بالخضوع لإمام واحد يقيم الحق والعدل فينا، منفذًا به أحكام شرعنا. فأمام وحدة الإمام الواجبة واجبات كثيرة قد فرط فيها المسلمون من قبل، بقبولهم أحكام التغلب التي أضاعت جل ما جاء به الإسلام لإصلاح البشر في شكل حكومتهم وصفاتها وغير ذلك، فأي واجب منها أقاموا حتى يطالبوا بهذا الواجب. *** ١٦- وحدة الإمامة بوحدة الأمة: وحدة الإمامة تتبع وحدة الأمة، وقد مزقت العصبية الجنسية الشعوب الإسلامية بعد توحيد الإسلام إياها برب واحد وإله واحد وكتاب واحد، وشرع واحد، ولسان واحد، فأنى يكون لها إمام واحد، وهي ليست أمة واحدة؟ لا أقول: هذا محال في نفسه، وإنما أقول: إنني لا أعرف شعبًا من شعوب المسلمين ولا جماعة من جماعاتهم المنظمة تقدره قدره، وتسعى إليه من طريقه، فهم في دركة من الجهل والتخاذل والتفرق المذهبي والتعصب الجنسي وضعف الهمة تقعد بهم عن التسامي إلى مثل هذا المثل الأعلى في الكمال الديني والاجتماعي. وحمل البلاد الإسلامية ذات الحكومات المستقلة على الخضوع لرئيس واحد بالقوة العسكرية مما لا سبيل إليه في هذا الزمان، ولا سبيل أيضًا إلى إقناع حكومات هذه البلاد باتباع واحد منهم بالرضا والاختيار. والحكومات المستقلة الآن هي حكومات الترك والفرس والأفغان ونجد واليمن العليا - وهي النجود وما يتبعها - واليمن السفلى والحجاز، وقد استقلت بعض الأقطار الإسلامية التي كانت تابعة لروسية القياصرة كبخارى وخيوة، ولكن استقلالها لم يستقر بعد، على أنه قد اعترف به في المعاهدة التركية الأفغانية، ومثلهما أذريبجان ودونهما كردستان، وهذه الحكومات الصغيرة تجزم الدولة التركية بأنها ستسودهن وتدغهن في جامعتها الطورانية. وكذا سائر شعوب القوقاس الإسلامية، ولا توجد حكومة منهم يمكن أن تدعي الخلافة الدينية، فبقي الكلام في الحكومات العربية، والدول الثلاث الأعجمية. فأما أهل اليمن العليا فيعتقدون أن الإمامة الشرعية الصحيحة محصورة فيهم منذ ألف سنة ونيف لأن أئمتهم ينتخبون انتخابًا شرعيًّا تُرَاعى فيه جميع الشروط الشرعية التي يشترطها أهل السنة مع زيادة مراعاة مذهبهم الزيدي، وأن هذه الزيادة لا تعارض مذهب أهل السنة، وأنهم يحكمون بالشرع ويقيمون الحدود. ومذهبهم في الفروع قلما يخالف مذاهب السنة الأربعة، ولا سيما مذهب الحنفية، فلا مطمع في إقناعهم باتباع غيرهم، وقد قاتلهم الترك عدة قرون ولم يستطيعوا إزالة إمامتهم، ولكن جيرانهم من العرب وسائر المسلمين لا يعتدون بإماماتهم، وهم لا يدعون إليها ولا يستعدون لتعميمها، وقد اعترف بصحتها إمام حفاظ السنة، وقاضي قضاة مصر وشيخ مشايخ الإسلام في أزهرها لعهده: الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في شرحه لحديث: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي اثنان) من صحيح البخاري. وأما السيد الإدريسي فهو على كونه حاكمًا مستقلاًّ. وسيدًا علويًّا وفقيهًا أزهريًّا، ومرشدًا صوفيًّا، لم يدَّع منصب الخلافة فيما نعلم، ولم يدْع رؤساء إمارته إلى مبايعته بها، ولكن أهل بيته وجماعته يعتقدون أنه أحق بها من شرفاء الحجاز، ويلقبونه بالسيد الإمام، ولقبه بعضهم بصاحب الجلالة الهاشمية، وقد نقل لنا الثقات أن الملك حسينًا اجتهد في استمالته للاعتراف بالتبعية للحجاز في السياسة الخارجية أو بالاسم فقط - فلم يفلح كما أنه لم يفلح سعيه لدى الإمام يحيى كذلك، وقد استغرب كل منهما هذا السعي. وبلغنا أن السيد الإدريسي كان يفضل الاعتراف بسيادة الترك السياسية على بلاده في الأمور الخارجية هربًا من دسائس الإفرنج وتقوية للروابط الإسلامية. وأما حكومة الحجاز فهي جديدة ولا يُعرف لها نظام ثابت، وإنما ملك الحجاز هو هنالك الحكومة وكل شيء، وقد بايعه أهل مكة على أنه ملك العرب ثم بايعه آخرون من سورية وغيرها بالخلافة وإمارة المؤمنين على عهد وجود ولده فيصل فيها قبل إعلان استقلال دمشق، وذلك كما يبايع أمثالهم في سورية ومصر الخليفة في الآستانة، ويظهر أن ولده فيصل ملك العراق وولده عبد الله أمير شرق الأردن مُصرَّان على بذل نفوذهما لجعله هو الخليفة، وأخذ المبايعة له من سورية والعراق عند سُنُوح الفرصة، وقد نشر في جريدة القبلة مقالات قديمة وحديثة في بطلان خلافة خلفاء الترك في الآستانة وتكفيرهم وتكفير حكومتهم. وقد كان في عمان مسجد متداع فأمر الأمير عبد الله بتجديد بنائه فوضع له قاضيه الشيخ سعيد الكرمي تاريخًا في أبيات من الشعر نقشت على لوح من الرخام وضع فوق بابه، قال في أولها: حسين بن عون من بنى مجد عدنان ... فصار أمير المؤمنين بلا ثاني أعاد له حق الخلافة بعد ما ... ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان وقد جعل هذا القاضي بناء حسين لما سماه مجد عدنان سببًا لصيرورته أمير المؤمنين الذي لا ثاني له في بلاد الإسلام، وهو لم يبن لعدنان مجدًا، ومجد عدنان ليس سببًا للخلافة، وإنما يرضي الناظمُ بذلك أميرَه الذي كان ولا يزال يسعى لتحقيق جعل والده خليفة، ولكنه طعن في إمامة يحيى حميد الدين الذي يخطب أميره ووالد أميره الملك وده، لا في خلافة أعدائه الترك فقط، ولا يستطيع أحد أن يقرن به أحدًا من شرفاء الحجاز وأمثالهم ممن يرون أنفسهم أهلاً للإمامة بأنسابهم فقط، فإنه على تواتر نسبه الهاشمي العلوي، وصراحته بخلوه من شوائب الرق غير الشرعي: عالم مجتهد، شجاع مدبر، ذو شوكة ومنعة يقدر بهما على حفظ استقلاله، وقد بويع بالإمامة منذ عشرات من السنين، والمعترفون بإمامته يزيدون على عدد أهل الحجاز، وكذا على أهل سورية كلها والعراق. ليس من غرضنا هنا مناقشة هؤلاء ولا غيرهم في دعاويهم ولا أغراضهم، بل بيان الواقع في البلاد الإسلامية المستقلة، وهو أن ملك الحجاز وأولاده يعتقدون أن الخلافة حقهم بنسبهم ومركزهم في الحجاز، وأنهم ينالونه بمساعدة الدولة اللبنانية لهم، وقد قال أحدهم - عبد الله أمير شرق الأردن في الإسكندرية: إن الخلافة لنا. ونقلت الجرائد المصرية هذا عنه ورُدَّ عليه في بعضها. وأما أهل نجد فحنابلة سلفيون وهم يسمون أميرهم إمامًا، ولا يسمونه خليفة ولم يبلغني أنه يدعي الخلافة العامة، ولكنهم يعتقدون أنه لا يوجد أمير مسلم يقيم دين الله كما أنزله غيره، وأن بلادهم دار العدل وجماعة المسلمين والهجرة إليها واجبة بشروطها. فلا مطمع في اتباعهم لغيرهم. وقد اتهموا بانتحال مذهب جديد نَفَّرَ منهم غيرَهم، وهم لا يبالون ما يقال فيهم، ولا يدعون أحدًا إلى اتباعهم، إلا البدو المجاورين لهم، الذين لا يعرفون من الإسلام عقيدة ولا عملا، فيدعونهم إلى التدين وترك البداوة واتباع حكومتهم الإسلامية التي تقيم شرع الله وحدوده على مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل. فهذا ملخص ما نعلم من حال البلاد العربية المستقلة، وتركنا ذكر حكومة عمان الإباضية؛ لأن نفوذ الإنكليز فيها كبير فأهلها لا يهتدون سبيلاً إلى الارتباط بغيرهم، ومذهب أكثرهم إباضي، فهم من الخوارج الذين لا يقيدهم مذهبهم بشرط القرشية، وقد علمت من سلطان مسقط السابق أنه كان يتمنى الارتباط بالدولة العثمانية. وأما الدول الأعجمية المستقلة: فالإيرانية منها شيعة إمامية، والإمامة عندهم للإمام محمد المهدي المنتظر، فلا تعترف بإمامة أخرى لغيره وإنما ترتبط بغيرها من الدول الإسلامية بنوع المخالفات السياسية. والأفغانية سنية، وقد اعترفت في المحالفة التي عقدت بينها وبين الحكومة التركية الجديدة في أنقرة بأن الدولة التركية دولة الخلافة، ولكن لم تعترف لها بسيادة ما عليها. بل كانت محالفتها محالفة الند للند. وقد كان نص المادة الثالثة من هذه المحالفة التي وضعت في (أنقرة) قد جعل الدولة الأفغانية في مكان التابع من الدولة التركية، وهذه ترجمته التي نشرت في جريدة الأخبار المصرية لمراسلها في (كابل - عاصمة الأفغان) . (تصدق الدولة الأفغانية بهذه المناسبة على أنها تقتدي بتركيا التي تخدم خدمات جليلة وتحمل علم الخلافة الإسلامية) أي تقر وتعترف بهذه القدوة. وذكر المراسل أن أمير الأفغان لم يقبل هذا النص بل غيَّرَه (بأن الدولة الأفغانية لا تقتدي بالدولة العلية التركية، وإنما عليها أن تعترف بأنها دولة الخلافة) وقد كان هذا قبل الانقلاب التركي الأخير، وذكر في بعض الجرائد أن الأفغان أنكروا منه جعل الخلافة روحية لا شأن لها في السياسة والأحكام، وإذا آل الأمر إلى اعترافهم بصحة الخلافة العثمانية التركية شرعًا فلا مندوحة لهم عن اتباع الخليفة لأنهم قوم مسلمون مستمسكون بدينهم استمساكًا عظيمًا. ولكن الظاهر أن جميع الذين يعترفون للعثمانيين من الترك بالخلافة ولا يتبعون حكومتهم فإنما يعترفون لهم بلقب من ألقاب الشرف، لصاحبه نفوذ معنوي لدى الدول. وإلا فلا معنى لكون الرجل خليفة المسلمين إلا أنه إمام دينهم ورئيس حكومتهم الذي تجب طاعته عليهم. وتباح دماؤهم في الخروج عليه والاستقلال بالحكم دونه. وأما المتغلب الذي لا يطاع إلا بالقهر فلا يجوز لغير من قهرهم الاعتراف له بالخلافة، وإن من العبث بالإسلام أن تجعل إمامته الكبرى مجرد لقب من ألقاب المدح والشرف. هذا، وأما البلاد الإسلامية الرازحة تحت أثقال السيطرة الأجنبية كمصر وسائر أقطار أفريقية الشمالية وسورية والعراق - فليس لها من أمر حكمها أو حكومة دينها شيء، وليس فيها جماعة تتصرف في ذلك بحل ولا عقد، فلو أن رؤساء الحكومة والشعب في قطر منها - وهم الذين كانوا لولا السلطة الأجنبية أهل الحل والعقد فيها - أرادوا أن يبايعوا خليفة في بلاد الترك أو العرب مثلاً مبايعة صحيحة، وهي ما توجب عليهم أن يكونوا خاضعين لسلطانه، مطيعين في أمورهم العامة لأمره ونهيه، ناصرين له على من يقاتله أو يبغي عليه - لما استطاعوا أن يمضوا ذلك وينفذوه بدون إذن الدولة الأجنبية المسيطرة عليهم، وهي لن تأذن وإن كانت تدعي أنها لا تعارض المسلمين في أمور دينهم، وأنها تاركة أمر الخلافة إليهم. وأما الأفراد والجماعات الذين ليس لهم رئاسة ولا نفوذ في قيادة الشعب، ولا يستطيعون أن يطيعوا إذا بايعوا، كأن ينفروا إذا استنفروا، وينصروا إذا استنصروا - فقد يسمح لهم في بعض هذه الأقطار أن يقولوا ماشاءوا، وفي بعضها لا يسمح لهم بذلك. ورأي السواد الأعظم من المسلمين في كل قطر من هذه الأقطار مخالف لرأي الدولة المسيطرة عليه، ومن ذلك مبايعة بعض الأفراد والجماعات المصرية والهندية للخليفة التركي الجديد، ولو أراد مثل ذلك أهل تونس والجزائر لما أبيح لهم مع عِلم فرنسة المسيطرة عليهم أن هذه المبايعة لا يترتب عليها اتباعهم لحكومته التركية. وأن هذه الحكومة نفسها غير تابعة لخليفتها، بل هو تابع لها وموظف عندهم وهي التي تحدد عمله ووظيفته. وصفوة القول أن الشعوب الإسلامية المقهورة بحكم الأجانب ليس لها من أمرها إلا ما يجود به عليها الأجانب القاهرون لها. ولا يمكنها أن تساعد على وحدة الأمة التي تتوقف عليها وحدة الإمامة، إلا من طريق بث الدعوة وبذل المال، وأن الشعوب المستقلة لا مطمع الآن بجمع كلمتها بترك التعصب لمذاهبها ولجنسيتها، وإيجاد خلافة صحيحة قوية توحد حكومتها. وأقرب منه عقد موالاة ودية أو محالفات سياسية عسكرية بينها، وقد بدأ بذلك الأعاجم منها. وأما العربية فقد عز إلى اليوم التأليف بينها، فإذا يسره الله تيسر اتفاقها مع غيرها، وكان ذلك تمهيدًا للإمامة العامة التي تجمع كلمتها كلها. ومن ذا الذي يطالب بإعادة تكوين الأمة الإسلامية المنحلة العُقَد المفككة المفاصل، وبإعادة منصب الخلافة إلى الموضع الذي وضعه الشارع فيه؟ أهل الحل والعقد - أهل الحل والعقد. ومن وأين هم اليوم؟ *** (استدراك أو تصحيح) كنا عند كتابة ما تقدم تركنا الكلام على الخلافة العثمانية التركية؛ لأن أصل السياق فيها، والبحث موجه إلى بيان حالة المسلمين وحكومتهم المستقلة التي لا يمكن تعميم الخلافة بكفالة الترك لها إلا باتفاقهن عليها، ثم بدا لنا أن نكتب كلمة فيها ليكون بحثنا تامًّا جامعًا لكل ما تنجلي به المسألة من الجهة الشرعية ومن جهة المصلحة العملية. وهذا نص الكلمة ومحلها في السطر الثالث من ص ٥٥: (وأما الدول الأعجمية المستقلة فأولها التركية، وكان المشهور أن الخلافة انتقلت إلى سلاطينها بنرول آخر خلفاء العباسيين عنها للسلطان سليم الذي أسره بمصر وحمله إلى الآستانة وتسلسل ذلك فيهم بعد ذلك بالعهد والاستخلاف، حتى كان من أمرهم في هذه الأيام ما كان، ويقال: إن السلطان محمد وحيد الدين المخلوع ما زال يدعي الخلافة التي آلت إليه بنظام الوراثة، والحق ما بيَّناه من قبل، وأن الخليفة العباسي الذي أسره السلطان سليم لم يكن يملك الخلافة ولا النزول عنها ولو لأهلها، ولو كان يملكهما لاشتُرط في نزوله الحرية والاختيار، ولم يكن يملكها، ومثله السلطان وحيد الدين الآن، فلذلك لا يُعتد بما توقعه بعضهم من نزوله عنها لملك الحجاز، وإذا كانت خلافة الترك العثمانيين بالتغلب فلا فرق بين اختيار الأمير عبد المجيد الآن بعد انقطاع سلسلة العهد والاستخلاف بخلع محمد وحيد الدين أو قبله، وبين اختيار من قبله عملاً بذلك النظام، هذا إذ جعلته حكومة أنقرة خليفة بالمعنى الشرعي المعروف، ولكنها اخترعت نوعًا جديدًا من الحكومة ونوعًا آخر من الخلافة، ووضعت للأولى قانونًا أساسيًّا عرفناه، ولمَّا تضع للثانية قانونًا لنعلم منه كنهها، فإن كانت خلافة روحية لا سلطان لها في سياسة الأمة وحكومتها فهي غير الإمامة التي بيَّنا أحكامها، على أن ما يضعونه لها من النظام إن كان موافقًا للشرع حمدناه، وإن كان مخالفًا له أنكرناه، ولا يضرنا تسمية هذا العمل خلافة فمثله معهود عند أهل الطريق ولا مشاحَّة في الاصطلاح، وسنبين في كل وقت ما يجب علينا وعليها للإسلام. *** ١٧- أهل الحل والعقد في هذا الزمان وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام: فرغنا مما قصدنا إلى بيانه من أحكام الإمامة العظمى في الإسلام، ونُقفي عليه ببيان ما يجب من السعي للعمل بهذه الأحكام، بإعادة تكوين الأمة ووحدتها، ونصب الإمام الحق لها. الذي بينا في المسألة الثانية أنه واجب عليها شرعًا، تأثم كلها بتركه، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع فقده، فالأمة كلها مطالبة به، وهي صاحبة الأمر والشأن فيه كما بيَّنَاه في المسألة الرابعة، وإنما يقوم به ممثلوها من أهل الحل والعقد كما حرَّرْناه في المسألة الثالثة، فأهل الحل والعقد هم المطالبون بجميع مصالح الأمة العامة، ومسألة السلطة العليا خاصة. قلنا: إن أهل الحل والعقد هم سراة الأمة وزعماؤها ورؤساؤها، الذين تثق بهم في العلوم والأعمال والمصالح التي بها قيام حياتها، وتتبعهم فيما يقررونه بالشأن الديني والدنيوي منها، وهذا أمر من ضروريات الاجتماع في جميع شعوب البشر، تتوقف عليه الحياة الاجتماعية المنظمة، قال شاعرنا العربي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا وإذا صلحت هذه الفئة من الأمة صلح حالها وحال حكامها، وإذا فسدت فسدا، ولذلك كان مقتضى الإصلاح الإسلامي أن يكون أهل الحل والعقد في الإسلام من أهل العلم الاستقلالي بشريعة الأمة ومصالحها السياسية والاجتماعية والقضائية والإدارية والمالية، ومن أهل العدالة والرأي والحكمة، كما بيناه في المسألة الرابعة، وهي ما يشترط في أهل الاختيار للخليفة. فذكر أهل الحل والعقد قد تكرر في مسائل أحكام الخلافة ولم نجعله عنوانًا إلا لهذه المسالة التي عقدت للكلام فيهم أنفسهم وأين يوجدون اليوم، وما يجب عليهم لأمتهم في هذا العصر، فإن الحكومات غير الشرعية من أجنبية ووطنية تُعنى بإفساد زعماء الشعوب التي تستبد في أمرها، ليكونوا أعوانًا لها على استبدادها، ومن تعجز عن إفساده على قومه بالترغيب ثم بالترهيب تكيد له أو تبطش به، فأهل الحل والعقد من قِبَل الأمة قلما يوجدون إلا في الأمم الحرة، وأكثر الرؤساء في الأمم المقهورة يكونون من قِبَل حكامها، وهم الذين توليهم رئاسة بعض الأعمال والمصالح فيها، فيكون ما بيدهم من الحل والعقد مستأجرًا، وقد تُغَش الأمة ببعض رجاله، وقد يكونون في نظرها من الخونة المستحقين للعقاب، وقد يوجد فيهم من يكون أهلاً للثقة، وتعرف له الأمة ذلك أو تجهله، وإذا سكتت عن إظهار احتقارها لصنائع المستبدين فيها؛ لتفرقها في وقت الانقياد والدعة، فإنها تظهره في وقت الاجتماع بالاضطراب والثورة، وقد أظهرت لنا الثورة المصرية في هذه السنين، كراهة الأمة واحتقارها لأفراد من رؤساء مصالح الدنيا والدين، وترئيس أفرادًا آخرين عليها، وآية هذه الزعامة المصنوعة المستأجرة للحكومة أن صاحبها إذا خرج من منصبه، تجد جمهور الأمة لا يحفل به، ولا يعده زعيمًا له، وربما أظهر له الاحتقار والإهانة، وقد رأينا الأجانب الغاصبين لبعض بلادنا في هذه السنوات النحسات يقودون بعض هؤلاء الزعماء الذين أفسدوهم على الأمة أو رأسوهم عليها إلى عواصم بلادهم ويتواطؤن معهم على توطيد سلطتهم فيها (أي الأمة) ويستخدمون بعضهم في البلاد للاستعانة بهم على استعمارها، وكذلك كان يفعل السلاطين والأمراء في استمالة العلماء والوجهاء بالرتب والأوسمة والهبات، ثم هب الترك والمصريون يطلبون سلطة الأمة بمجالس النواب، وهذه المجالس بمعنى جماعة أهل الحل والعقد في الإسلام، لا أن الإسلام يشترط فيهم من العلم والفضل، ما لا يشترطه الإفرنج ومقلدتهم في هذا العصر. وقد صار أهل الجمعية الوطنية في أنقرة أصحاب الحل والعقد بالفعل، وبالرغم من السلطان الذي ناصبهم فباء بالخزي والعزل، وحلوا محل مجلس المبعوثين ومجلس الوزراء وشخص السلطان جميعًا، وقد ذكرني هذا ما قاله لي الغازي أحمد مختار باشا في الآستانة لما سألته عن رأيه في الحكومة الدستورية، قال: عندنا مجلس وليس عندنا سلطان، ولابد من الكفتين في وجود الميزان. وأما البلاد المقهورة بالاحتلال الأجنبي كمصر والهند، فلا مجال فيها لمثل ما فعل الترك، وإنما يظهر فيها فرد بعد فرد، إلى أن تبلغ الأمة سن الرشد. ولقد وصل الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلى مقام الزعامة في هذه الأمة ومرتبة أهل الحل والعقد في الأمور الدينية والدنيوية من سياسية وغيرها، بل قارب أن يكون زعيم الأمة الإسلامية كلها، ولكن بالقوة لا بالفعل؛ لأن الأمة لم تكن قد تكونت تكونًا يؤهلها للسير في الخطة التي يختطها لها ولذلك كان يقول: يا ويح الرجل الذي ليس له أمة وقد كان أمير بلاده ينهى عنه وينأى عنه، على أنه كان يرجع في المهمات وحل المشكلات إليه. وقد بلغ ربيبه سعد باشا زغلول مقام الزعامة السياسية في هذه السنين التي تكون فيها قومه، فلما تصدى للعمل بقوة الشعب، كان جزاؤه النفي بعد النفي، ويوجد في الهند رجال من المسلمين والهنود رفعتهم أحداث الزمان إلى مقام الزعامة في الأمة بإظهارها ما هم عليه من الكفاءة وعلو الهمة، وهم الآن في غيابات السجون، ومنهم (غاندي) عند الهندوس وأبو الكلام ومحمد علي وشوكت علي عند المسلمين، ويلي هؤلاء جماعاتهم كالوفد المصري عندنا، وجمعية الخلافة عندهم. وأما الجماعات القديمة، فإن هيئة كبار العلماء في الأزهر بمصر وفى جامع الفاتح والسليمانية من الآستانة وجامع الزيتونة بتونس ومدرسة ديونبد بالهند - فإن جمهور الأمة يثق بأن حكم الله ما قالوا، ولكن أكثر المتفرنجين - ومنهم أكثر الحكام والقواد والأحزاب السياسية - قلما يقيمون لأحد منهم وزنًا إلا من كان ذا منصب أو ثروة أصاب بها بعض الوجاهة، ولا يوجد في علماء أهل السنة مجتمعين ولا منفردين من يبلغ في الزعامة واتباع الشعب له مبلغ مجتهدي علماء الشيعة، ولا سيما متخرجي النجف منهم، فأولئك هم الزعماء لأهل مذهبهم حقًّا، ويقال: إنهم أفتوا في هذه الآونة بتحريم انتخاب الجمعية الوطنية، التي أمرت بها حكومة الملك فيصل لإقرار المعاهدة بين العراق والدولة البريطانية، فأطاعها البدو والحضر من الشيعة، وقد كان ميرزا حسن الشيرازي - رحمه الله تعالى - أصدر فتوى في تحريم التنباك فخضع لها الشعب الإيراني كله، وتركوا استعمال التنباك وزرعه، وهو بالنسبة إلى صادرات بلادهم كالقطن في القطر المصري، وكان الذي حمله على إصدار هذه الفتوى موقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله روحه بسبب إعطاء حكومة إيران امتيازًا بالتنباك لشركة إنكليزية، فاضطرت الحكومة لفسخ الامتياز في مقابلة تعويض للشركة قدره خمسمائة ألف جنيه إنكليزي، ولو لم تفسخ هذه الشركة لفعلت في إيران ما فعلت شركة الجلود الإنكليزية في الهند، أي لملكت أمتها تلك البلاد وضمتها إلى إمبراطورية الهند. قلت: إن الحكومات المستبدة تجتهد في إفساد من يظهر من الزعماء في الشعوب التي تتولى أمرها. على أنها تعنى قبل ذلك بالأسباب التي تمنع وجود الزعامة فيها بإفساد التعليم ومراقبته، وقد أبعدوا علماء الدين عن السياسة وعن الحكومة، فصار أكثر أهلها وأنصارها من الجاهلين بالشريعة، وتولى هؤلاء أمر التعليم وإعداد عمال الحكومة له، وانكمش العلماء وأرِزوا إلى زوايا مساجدهم، أو جحور بيوتهم، ولم يطالبوا بحقوقهم، ولا استعدوا لذلك بما تقتضيه حال الزمان، وطبيعة العمران، ولا عرفوا كيف يحفظون مكانتهم من زعامة الأمة بتعريفها بحقوقها، وقيادتها للمطالبة بها، فأضاعوا حقهم من الحل والعقد فيها، وتركوها لرؤساء الحكام وللأحزاب والجمعيات السياسية التي يتولى أمرها في الغالب من لا حظ لهم من علوم الدين، ولا من تربيته التي لا نظام لما بقي منها عند بعض المسلمين. فإذا أريد السعي - والحال هذه - لما وحب في الشرع من إمامة الحق والعدل العامة، فلا بد قبل ذلك من السعي لوجود جماعة أهل الحل والعقد المُتحلِّين بالصفات التي اشتُرطت فيهم كما تقدم في المسألة الخامسة، فإنهم هم أصحاب الحق في نصبه بنيابتهم عن الأمة، وبتأييده في حمل الأمة على طاعته، والمطلوب قبل نصب الإمام العام للأمة كلها، أو للبلاد المستقلة منها أن تتحد شعوب هذه البلاد، وترجع عن جعل اختلاف المذاهب والأجناس واللغات، موانع للوحدة والاتفاق. وإنا نتساءل هنا: هل يوجد في البلاد الإسلامة من أهل الحل والعقد من يقدر على النهوض بهذا الأمر؟ وإذا لم يكن فيها من لهم هذا النفوذ بالفعل أفلا يوجد من له ذلك بالقوة؟ ثم ألا يمكن للمسلمين وضع نظام لجعل النفوذ بالقوة نفوذًا بالفعل؟ بلى إنه ممكن عسر، وقوة العزيمة تجعل العسر يسرًا، وقوة العزيمة تتبع قوة الداعية، ومن ذا الذي يُرْجَى أن يضع النظام ويشرع في العمل؟ ألا إنه حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل. *** ١٨ - حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل: قد علم مما تقدم أن العمل لوحدة الأمة الإسلامية بقدر الإمكان ينحصر اليوم في الشعبين الكبيرين - العربي جرثومة الإسلام. والتركي سيفه الصمصام - وأن أمر البلاد العربية المستقلة بيد أئمتها وأمرائها، فالتأليف بينهم مقدم على كل شيء فيها، ونقول هنا: إن المتصدرين للزعامة السياسية ومقام الحل والعقد في غير جزيرة العرب من البلاد الإسلامية أزواج ثلاثة: مقلدة الكتب الفقهية المختلفة - ومقلدة القوانين والنظم الأوربية - وحزب الإصلاح الجامع بين الاستقلال في فهم فقه الدين وحكم الشرع الإسلامي وكنه الحضارة الأروبية، وهذا الحزب هو الذي يمكنه إزالة الشقاق من الأمة على ما يجب عمله في إحياء منصب الإمامة، إذا اشتد أزره وكثر ماله ورجاله، فإن موقفه في الوسط يمكِّنه من جذب المستعدين لتجديد الأمة من الطرفين. وهو الحزب الذي سميناه في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين) بحزب الأستاذ الإمام؛ إذ كان المنار يمهد السبيل لجعل الأستاذ زعيم الإصلاح في جميع بلاد الإسلام، وإنا نعرف أفرادًا من هؤلاء المصلحين المعتدلين في الأقطار المختلفة، ولا سيما العربية والتركية والهندية، ونشهد أن مسلمي الهند في جملتهم أرجى لشد أزر هذا الحزب بالمال والرجال، ولكنهم لا يستطيعون العمل إلا باتحاد عقلائهم مع عقلاء سائر الأقطار لتكوين جماعة أهل الحل والعقد بما يتفقون عليه من النظام لأجل قيادة الرأي العام، ولتكوين مؤتمر عاجل لأجل تقرير ما يتخذ من الوسائل الآن، فإن مسألة الخلافة كانت مسكوتًا عنها، فجعلها الانقلاب التركي الجديد أهم المسائل التي يبحث فيها، ولولا كثرة التخبط وتضليل الرأي العام بأكثر ما كتب فيها لآثرنا السكوت على القول مع السعي إلى ما نرى من المصلحة فيها بالعمل، ولكن وجب التمهيد له ببيان الحقائق، وإن جعلت موضع البحث والمراء باختلاف الآراء والأهواء، وحسبنا أن نذكر حزب الإصلاح بما يعتنُّ له من العقبات من حزبي التقاليد والعصبيات، وبما يجب أن يعد للعمل من القواعد والبينات. *** ١٩ - حزب المتفرنجين: بيَّنَّا في المقالة الثالثة من مقالات (مدنية القوانين) مرادنا من التفرنج وأهله وأن منهم المرتدين المجاهرين بالكفر والمُسرِّين به، ومداركهم في حكومة الإسلام وشريعته. ونقول هنا أيضا: إن ملاحدة المتفرنجين يعتقدون أن الدين لا يتفق في هذا العصر مع السياسة والعلم والحضارة، وأن الدولة التي تتقيد بالدين تقيدًا فعليًّا لا يمكن أن تعز وتقوى وتساوي الدول العزيزة. وهؤلاء كثيرون جدًّا في المتعلمين في أوربة وفي المدارس التي تدرس فيها اللغات الأوربية والعلوم العصرية، ورأي أكثرهم أنه يجب أن تكون الحكومة غير دينية، وحزبهم قوي ومنظم في الترك وغير منظم في مصر، وضعيف في مثل سورية والعراق والهند، ورأيه أنه يجب إلغاء منصب الخلافة الإسلامية من الدولة، وإضعاف الدين الإسلامي في الأمة، واتخاذ جميع الوسائل لا ستبدال الرابطة الجنسية أو الوطنية، بالرابطة الدينية الإسلامية، والترك من هؤلاء أشد خصوم إقامة الإمامة الصحيحة في الدولة التركية. وقد بثت جمعياتهم الدعوة في الأناضول - مهد النعرة الإسلامية - إلى العصبية العمية بالأساليب التي لا يشعر الجمهور بالغرض منها، وقد أشرنا من قبل إلى بعضها، فكان لها التأثير المطلوب: كان التركي هنالك إذا سئل عن جنسه قال: مسلم والحمد لله. وبذلك يمتاز من الرومي والأرمني. وأما الآن فصار يجيب بأنه تركي. وكان لا يفهم من وجوب الخدمة العسكرية إلا طاعة خليفته وسلطانه في الجهاد في سبيل الله، فبثت فيه فكرة القتال في سبيل الترك ووطن الترك لمجد الترك، وقد اطلعنا في هذه الأيام على قصة (قميص من نار) للكاتبة الإسرائيلية النسب التركية السياسة والمذهب، خالدة أديب وزيرة المعارف في حكومة أنقرة، وقد أنشأتها لبيان كُنْه الحركة الوطنية في الأناضول التي أنشئت لمقاومة سلطة الآستانة وإخراج اليونان من البلاد وتأمين استقلالها، فألفيناها مصوِّرة لما ذكرنا، لم نر فيها كلمة واحدة تدل على فكرة الجهاد الإسلامي ولا الروح الديني الذي كنا نعهد. على أن فريقًا من هؤلاء المتفرنجين يرى أن وجود منصب الخلافة في الترك يمكن الانتفاع به من بعض الوجوه السياسية والأدبية وغيرهما إذا كانت الخلافة صورية أو روحانية لا سلطان لها في التشريع ولا في التنفيذ، بل ينحصر نفوذها في الدعاية السياسية للدولة من طريق الدين، كسلطة البابا والبطارنة وجمعيات التبشير، وأكثر هؤلاء من أصحاب العصبية الطورانية، الذين يتفقون من بعض الوجوه مع طلاب الجامعة الإسلامية، فإنهم يطمعون في تأليف أمة كبيرة من شعوب الشرق الأعجمية المسلمة بجعهلهم كلهم تركًا؛ لأنه ليس لأحد منهم لغة علمية مدونة إلا الفرس الإيرانيون والأفغانيون، وكذا لغة الأوردو في مسلمي الهند، على أن اللغة التركية فاشية في أكثر بلاد إيران، ومن لم يمكن إدغامه في الأمة التركية باسم الوحدة الطورانية ورابطة اللغة التركية، فإن من الممكن إدغامه فيها بالتبع للخلافة الإسلامية، ثم يكون أولاد هؤلاء تركًا بالتعليم والتربية تبعًا للحكومة. وحزب العصبية التركية المحضة معارض لحرب العصبية الطورانية العامة؛ إذ يخاف أن يضيع الترك فيها كما ضاعوا في الجامعة العثمانية أو الإسلامية بزعمه. وليس من غرضنا هنا تحقيق هذه المسائل ولا انتقادها، بل التذكير بما فيها من معارضة الإمامة الإسلامية بأوجز عبارة، ولا نيأس من إقناع الكثيرين منهم بالجمع بين الجنسية والإسلامية. وهنالك فريق من المتفرنجين - ومنهم بعض المتدينين أكثر من غيرهم - يرون أن إقامة الخلافة الإسلامية وجعل رئيس الدولة هو الإمام الحق الذي يقيم الإسلام ،متعذر في هذا الزمان في دولة مدنية، فإما أن تكون الخلافة في الدولة التركية اسمية كما كانت في الدولة العثمانية يُنتفع بها بقدر الإمكان ويُتقى شر استبداد الخليفة وتكون الحكومة مطلقة من قيد التزام الشرع في الأحكام التي لا يمكن العمل بها في هذا العصر؛ وإما أن يُستغنى عنها ألبتة، واستمالة حزب الاصلاح لهؤلاء أيسر من استمالته لغيرهم. *** ٢٠- حزب حشوية الفقهاء الجامدين: إن جميع علماء الدين وأكثر العامة المقلدين لهم يتمنون أن تكون حكومتهم إسلامية محضة، والترك يُحَتِّمُونَ أن تكون تابعة لفقه المذهب الحنفي، ومنهم من لا يرى مانعًا من الأخذ في بعض الأحكام بفقه غير الحنفية من مذاهب أهل السنة، ولا يبالون بما خالف ذلك من مدنية العصر، ولكن هؤلاء العلماء يعجزون عن جعل قوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الفقه التقليدي ويأبون القول بالاجتهاد المطلق في كل المعاملات الدنيوية، ولو فوض إليهم أمر الحكومة على أن ينهضوا بها لعجزوا قطعًا، ولما استطاعوا حربًا ولا صلحًا. طالما بينا في المنار أن تقصير علماء المسلمين في بيان حقيقة الإسلام والدفاع عنه بما تقتضيه حالة هذا العصر هو أكبر أسباب ارتداد كثير من متفرنجة المسلمين عنه، وأنهم لو بيَّنوه كما يجب لدخل فيه من الإفرنج أنفسهم أضعاف من يخرج منه بفتنتهم. وإن سبب ذلك أو أهم أسبابه أنه ليس للمسلمين إمام ولا جماعة تقيم ذلك بنظام ومال كما يفعل إمام الكاثوليك (البابا) وجمعيات التبشير في بلاد النصرانية، على أن السلاطين والأمراء وأتباعهم قد أفسدوا العلماء وأبطلوا عليهم زعامتهم للأمة إلا فيما يؤيد ظلمهم واستبدادهم كما ذكرنا آنفًا. ولو كان للمسلمين خليفة قائم بأعباء الإمامة العظمى لما أهمل أمر الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه حتى كثر الارتداد عنه، وغلب على الدولة العثمانية من لا علم لهم به. أليس من الغريب أنني لما وضعت مشروع الدعوة والإرشاد للقيام بهذه الفرائض التي هي أول ما يجب على إمام المسلمين وجماعتهم - لم يوجد في وزراء الدولة ولا رؤسائها من تجرأ على إجازة هذا الاسم؟ وأن الذين استحسنوا المشروع اتفقوا على تسمية جمعيته بجماعة العلم والإرشاد؟ ! نعم إن مستشار الصدارة قال لحقي باشا الصدر الأعظم أمامي: إذا نفذنا هذا المشروع ألا نلقى مقاومة من الدول العظمى؟ فأجابه: إن لدولة البلغار مدرسة عندنا لتخريج الدعاة إلى النصرانية، أفتكون دولة الخلافة في عاصمتها دون دولة البلغار حرية في دينها؟ ولكن هذا الصدر الأعظم لم ينفذ المشروع ولم يساعدنا فيه أدنى مساعدة، وإنما اغتنمنا فرصة سفره إلى إيطالية وسفر طلعت بك وزير الداخلية وزعيم الاتحادية إلى أدرنة لتقرير المشروع رسميًّا، وأعانني على ذلك انعقاد مجلس الوكلاء برئاسة شيخ الإسلام موسى كاظم أفندي أحد أنصاره، فما زلت ألح عليه حتى أصدر - رحمه الله - قرارًا من المجلس بتنفيذه، ثم جاء طلعت بك فأفسد الأمر. وكان الذي يسمونه السلطان و (الخليفة) في قفصه، مغلوبًا على أمره، لا يكاد يصحو من سكره، ولا ترجو المشيخة الإسلامية منه قولاً ولا عملاً في هذا الأمر ولا غيره، ولماذا كان نفوذ مثل طلعت وناظم أغلب عليه من نفوذ شيخ الإسلام وشيوخ دار الفتوى؟ أليس لعجز هؤلاء الشيوخ وأعوانهم عن إدارة أمور الدولة وعن إظهار كفاية الشريعة، وعن إثبات أصول الاعتقاد والعمل بها بالحجة، ودفع كل ما يرد عليها من شبهة؟ أليس لأنهم غير متصفين بما اشترطه أئمة الشرع في أهل الحل والعقد، من العلم والسياسة والكفاية والكفاءة؟ على أن نفوذ علماء الدين في بلاد الترك أقوى منه في مثل سورية ومصر، ولكن خصومهم من المتفرنجين أقوى منهم، وكل من الفريقين يعد الآخر سبب ضعف الدولة وتقهقر الأمة، والحق أن الذنب مشترك بينهما، وأن نصب الإمام الحق وجعل الدولة التركية كافلة لمنصب الخلافة، لا يتم إلا بجمع حزب الإصلاح لكلمة المسلمين المتفرقة، بجذب أكثر أصحاب النفوذ إليه، حتى تنحصر صفات أهل الحل والعقد فيه، وإنما يكون ذلك بتحويل العلماء منهم عن جمود التقليد وعصيبة المذاهب، وكشف شبهات المتفرنجين على الدين والشرع، وبيان الخطأ في عصبية الجنس، فإن كان إقناع السواد الأعظم بذلك غير مستطاع الآن، فحسب هذا الحزب من النجاح الرجحان على سائر الأحزاب، واستعداده لذلك بما سنبينه من الأسباب. إن الإسلام هداية روحية ورابطة اجتماعية سياسية، فالكامل فيه من كملتا له، والناقص فيه من ضعفت فيه إحداهما أو كلتاهما، وقد فقدهما معًا الملاحدة من غلاة العصبية الجنسية، فهؤلاء لا علاج لهم، لا عند أنصار الخلافة ولا عند غيرهم، لكن بيان حقيقة الإسلام وما فيه من الحِكَم والأحكام الكاملة لأرقى معارج المدنية والعمران، مع الخلو من كل ما في المدنية المادية من الشر والفساد، على الوجه الذي سنشير إليه في أبحاثنا هذه - يفل من حدهم، ويقفهم عند حدهم، بل يهدي من لم يختم على قلبه من أفرادهم، وهو بهداية الكثير من غيرهم أقوم، ونجاح الدعوة فيهم أرجى. حسبنا هذه الإشارة إلى ما يجب من السعي لهذا العمل في الترك، وأما الشعب العربي الذي هو أصل الإسلام وأرومته، ولا حياة إلا بلغته، ولا تتم أركانه إلا بفريضة الحج التي تؤدى في بلاده، وهو الركن الاجتماعي الوحيد الجامع بين شعوبه، ولا يمكن أن تكون الإمامة الصحيحة العامة بمعزل عنه - فهو شعب كله متدين، ليس في جزيرته إلحاد ولا تفرنج، وإنما آفته الجهل بطرق إدارة البلاد وعمرانها وبالعلوم والفنون التي يتوقف حفظ الاستقلال وعزة الملة عليها، وتعادي الأمراء، ودسائس الأعداء، فكل ما يجب له على حزب الإصلاح إقناع أمرائه بما يجب من الاتحاد، ومساعدتهم على ما يجب من إعداد وسائل القوة والعمران، وها نحن أولاء نذكره بما يجوز نشره من برامج الأعمال وأساليب الاستدلال. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))