(٦) (أمالي دينية - الدرس السادس) (١٩) تنزيه الباري: علمنا من الدرسين السابقين أن هذا العالم ممكن، وأن الممكن لا وجود له من ذاته؛ لأن معنى كونه ممكنًا أن وجوده وعدمه سيان في نظر العقل، ومن ثم احتاج هذا العالم في وجوده إلي من رجح وجوده على عدمه، وأن هذا المرجح لا بد أن يكون واجب الوجود , وهذا هو بارئ الكون المسمى بلسان الشرع الإسلامي (الله جل جلاله) وحيث كان واجبًا فهو مباين للممكنات لا يشبهها، ولا تشبهه في شيء ما، إذ لو شابه شيئًا منها في نحو هيئة أو لون أو مقدار أو تحيُّز أو صفة من الصفات لكان ممكنًا مثلها ولم يكن واجبًا، وقد ثبت بالبرهان أنه واجب، فتعين أن يكون مباينًا للممكنات بأسرها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١) . (٢٠) القِدَم والأزلية: ما ذكرناه آنفًا كافٍ في اعتقاد التنزيه إجمالاً، ولكن العلماء لا يكتفون في هذا المقام بالإجمال، ومن التفصيل الذى جروا عليه ذكر القِدَم والبقاء، والقيام بالنفس، ومخالفة الحوادث، والوحدانية، ذكر السنوسي هذه الأشياء وسمَّاها الصفات السلبية، وتبعه في هذا من جاء بعده، أما مخالفة الحوادث فقد بيناها آنفًا، وأما القِدَم بمعنى الأزلية أي عدم ابتداء الوجود، فهو من لوازم وجوب الوجود؛ لأن الواجب ما كان وجوده لذاته، وما كان كذلك لا يعقل غير موجود ولذلك عرَّفه السنوسي بقوله: (ما لا يتصور في العقل عدمه) فالأزلية داخلة في مفهومه، فإذا قيل مع ذلك أنه حادث لم يكن في الأزل، كان هذا القول بمعنى أنه (واجب لا واجب) وهو تناقض محال بالضرورة ٠ (٢١) البقاء والأبدية: إن دخول معنى البقاء الأبديّ - أي عدم الانتهاء - فى مفهوم الواجب أظهر من دخول معنى القدم؛ لأنه إذا كان فرض العدم في الأزل محالاً ففرض طروئه بعد الجزم بالوجود الواجب محال بالأولى، وتكليف العقل أن يتصور عدم ما يجزم بأنه لا يتصور عدمه تكليف بما لا يطاق، كتكليفه بأن يتصورأن شيئًا ما موجود ومعدوم في حالة واحدة، وهو محال بالبديهة، بل إن العقل ليكاديعجز عن تصوّر طروء العدم على الممكن ٠ (٢٢) القيام بالنفس: فسره السنوسي بعدم الاحتياج إلى المخصص والمكان، وهو تفسير باللازم، ومعناه الأصلي الثبوت بالذات، أي وجوب الوجود؛ لأن القيام يطلق في اللغة بمعنى التحقق والثبوت، وقد تقدم البرهان على وجود الواجب واستغنائه بذاته عن المرجح، وقد سمعتم آنفًا البرهان علي قدمه، ومتى كانت ذاته قديمة فجميع ما يجب لها من صفات لا بد أن يكون قديمًا بقدمها لئلا يكون ما لا يقبل الانتفاء (وهو الواجب) منتفيًا في وقت ما، وهو محال فثبت بهذا أنه مستغنٍ عن المخصص والمرجح في ذاته كما هو مستغنٍ عن ذاته، وأما عدم الاحتياج إلى المكان فلأن المكان لا يكون إلا حادثًا، والقديم يستغني بالضرورة عن الحادث، وقد ثبت في الحديث: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان. ولأن المستقر في مكان يجب أن يكون محدودًا بمقدار مخصوص، وذو المقدار لا يكون إلا حادثًا لأن المقادير لا نهاية لها، فيحتاج صاحبها إلى مرجح يرجح له مقداره على سائر المقادير الأخرى كما هو ظاهر، وأما الزمان فهو أمر وهمي كما يؤخذ من كلام الشيخ الأشعري فلا حاجة لنفيه ٠ (٢٣) الوحدة ونفي التركيب: قلنا: إن واجب الوجود لا يحويه مكان؛ لأن التحيز عليه محال، ومن لوازم هذا أن لا يكون مركبًا من أجزاء، والبرهان على هذا أنه لو كان له أجزاء لكان كل جزء منها متقدمًا في الوجود علي مجموع الذات؛ لأن الجزء مقدم على الكل طبعًا، فيلزم أن يكون مجموع الذات حادثًا؛ لأنه مسبوق بوجود الأجزاء والمسبوق بالوجود لا يكون إلا حادثًًا، وأيضًا يكون وجوده تابعًا لوجود أجزائه، وتقدم أن الواجب ما كان له الوجود لذاته، وأنه لا بد أن يكون قديمًا، أما كون الواجب لا يكون إلا واحدًا، فسيأتي برهانه في درس آخر إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))