جاءنا من حضرة المحامي الشهير صاحب الإمضاء ما يأتي: رأينا فيما أوردتموه بأحد أعداد المجلة في تفسير قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُم..} (البقرة: ٥٤) إلى قوله جل شأنه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: ٥٦) أن سيدنا موسى دعا من يرجع إلى الرب من قومه، فأجابه بعضهم فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضًا ففعلوا، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف. وإن البعث بعد الموت عبارة عن كثرة نسلهم والبركة في أحفادهم تعويضًا لهم عن قتل آبائهم، على أننا لو أعدنا التأمل نرى أن الأمر والإرشاد للتوبة لا يستلزمه قتل نفوس التائبين وكذلك البعث بعد الموت لا يكون معناه زيادة النسل. وحينئذٍ يكون الأقرب هو أن قتل النفس معناه إماتتها عن الفساد والمعصية بسيف التوبة والندم ليبعثها الله بعد هذا الموت المعنوي إلى عالم الفلاح والتقوى، وأن البعث هنا معناه هو الوصول إلى الحقيقة بعد ذلك الضلال الذي ماتت عنه عواطفهم. فأرجوك أيها الصديق الفاضل إنعام النظر في ما أوضحته وإرشادي إلى الحقيقة. ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل عاصم
(المنار) تقدم في تفسير الآيات أن سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى الذي عوقبوا عليه بالصاعقة كان في واقعة مستقلة غير واقعة اتخاذ العجل الذي عوقبوا بالقتل وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: ٥٦) وارد على غير الذين قتلوا أنفسهم بالتوبة، فإذا اعتبر الخطاب لمجموع الأمة فلا فصل فهي التي قتلت وهي التي صعقت، وهي التي بعثت وهذا ما عليه الأستاذ الإمام في إسناد الله تعالى أعمال سلف بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل الذين كانوا في زمن التنزيل، وعليه لا إشكال في إسناد] بَعَثْنَاكُم [إلى الذين ماتوا بالصاعقة أو غيرها ولا بعد في تفسير هذا البعث بعد الموت بكثرة النسل لا سيما مع ملاحظة أن المخاطَبين بهذا كله هم اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم. أما قتل بعضهم بعضًا في التوبة فهو المنقول في كتبهم المقدسة والذي يتناقلونه خلفًا عن سلف، وبه قال جماهير المفسرين، وذهب القاضي عبد الجبار من المعتزلة إلى أن القتل هنا مجاز وما كان الله ليكلف الناس بالقتل؛ لأن التكليف لمصلحة العبد ولا مصلحة في القتل لمن يقتل. ووجه الآية توجيهًا مقبولاً في اللغة وأساليبها وهو نحو ما في السؤال لم يحصل بالفعل وإن كان يجوز التكليف به. قال الآلوسي: ومن الناس من جوَّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال (معنى اقتلوا: ذللوا) ومن ذلك قوله: إن التي عاطيتني فشربتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا، ونقل عن قتادة أنه قرأ (فاقتلوا أنفسكم) والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه وقد هلكت فاقتلوها بالتوبة والتزام الطاعة وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات اهـ. وقال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: ٥٦) بعدما أورد القول المشهور: ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانًا وهمودًا لا موتًا حقيقة كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: ١٧) ومنهم من حمل الموت مجازًا كما في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: ١٢٢) وقد شاع ذلك نثرًا ونظمًا ومنه قوله: أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم ومعنى البعث على هذا التعليم أي: ثم علمناكم بعد موتكم اهـ. فما ورد في السؤال معقول وجيه ولم أذكره في تفسير الآيات؛ لأنني لم أتذكر أن الأستاذ الإمام أورده على أنه ما كان ليغفل مثل هذه الوجوه المعقولة ولعلي نسيت وسبحان مَن لا ينسى.