] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [[*] في يوم الأحد رابع رجب الحرام، فُجعنا بوفاة والدنا، ومربينا، ومربي اليتامى، وكافل الأرامل، الشيخ الجليل، السيد النبيل، علي رضا الحسيني الحسني أحد سادات الديار الشامية المشهورين وأجواد الأمة المحسنين، وله من السن ستون سنة، أو ثلاث وستون سنة في الأكثر - وليس عندي هنا قيد لسنة ولادته - فصبرنا واحتسبنا رجاء صلوات ربنا ورحمته وهدايته ومثوبته؛ فلم نقل ولم نفعل ما لا يُرضي ربنا -جل جلاله- فله ما أعطى وله ما أخذ وإليه المصير. وُلِدَ تغمده الله - تعالى - برحمته ورضوانه في قرية القلمون بسفح لبنان من الجهة الشمالية بجوار طرابلس الشام، وفيها تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم اشتغل بطلب العلم في طرابلس على المرحوم الشيخ محمود نشابة أشهر علماء الديار السورية، وشيخ الشيوخ في طرابلس عدة سنين، وأدى امتحان العسكرية فيها غير مرة، ثم انقطع عن الطلب قبل أن يتم حضور الكتب، ويصل إلى مقام التدريس لشدة حاجة والده إليه في إدارة أملاكه، والنظر في أعماله مع الحكومة والناس؛ إذ لم يكن يومئذ له ولد رشيد سواه، ولكنه لم ينقطع عن المطالعة في كتب الدين والأدب والتاريخ، بل كان يتراوح بين هذه الكتب ما سمح له الوقت، وكان قوي الذاكرة طلق اللسان جريء الجنان، يذكر ما يحفظ من الأشعار، وأخبار الأوائل، ووقائع الأواخر كلما عرض ما يذكر بشيء منها، ولكنه كان يعيد الشيء المحفوظ كما قرأه أول مرة؛ فإن اتفق أن كان محرفًا أو ملحونًا أعاده كذلك عند الاستشهاد به غالبًا، وإن عرف بعد حفظه ما فيه من خطأ أو تحريف، كأنما ينطبع في ذهنه لا يقبل المحو، وكأن ما يعرض بعد ذلك من التصحيح ينطبع في مركز آخر من مراكز الدماغ فلا يلقيه إلى اللسان إلا إذا أورد المحفوظ لأجل بيان صحته. ومن قوة ذاكرته أنه كان يحفظ كل ما مر به في سفره وحضره، وكل ما له عند الناس، أو لهم عنده من الحقوق المالية وإن طال عليها الزمان. وكان مهيبًا وقورًا حتى في طور الشباب؛ يجله كل من جالسه وإن كان أكبر منه سنًّا أو فضلاً وجاهًا كمشايخه وكبار الحكام. وأعرف ما عرف به، وغلب على سائر أخلاقه الجود والسخاء؛ فقد كان مِضْيافًا متلافًا، مَبْذُول القِرى لكل طارق من غني وفقير، وقريب وغريب، ومسلم وغير مسلم، كل من نزل به يلقى ما يليق به من الإكرام والحفاوة، وكان في أول العهد يتكلف لأهل الوجاهة والثروة؛ إذا استضافوه زيادة عما جرت به العادة في المنزل، ويقدم لغيرهم ما راج حتى كنا ننكر عليه، ثم رجع عن هذا إلى قاعدة الصوفية (لا نبخل بموجود، ولا نتكلف لمفقود) حتى ربما أنكرنا ذلك أحيانًا، ولا حاجة لاستثناء ما لأهل الخصوصية الذين يدعوهم إليه من الاختصاص، وإنما الكلام في العادة اليومية مع الضيوف، وقد بلغت عنايته بأبناء السبيل أنه كان يحمل الطعام إليهم بنفسه أحيانًا. وقد جاع الناس في سنة من السنوات؛ فكان يرسل الدقيق والأرز إلى بيوت القانعين الذين يفضلون الموت على السؤال في حنادس الظلام، والناس نيام، وله في إخفاء الصدقة حذق غريب. أنعم السلاطين العظام على جدنا الثالث بسبعة قراريط من مال عشر القلمون وما يتبعها من المزارع؛ لينفق منها على مسجده الذي جدده في القرية، وعلى نفسه فلما وصل هذا إلى والدنا -رحمه الله تعالى- كان في الغالب يأخذ من الحكومة حصتها بما يسمونها (الالتزام) ثم يسمح لأكثر الأهالي بعشر كثير مما يزرعون من البقول وغيرها، وما يجنون من الثمار، لا يعنى إلا بعشر حب الحصيد والزيتون، وكان كثيرًا ما يفوض إليهم أمر ما يجب عليه من غير أن يخرص ويقدر: يجيئه الرجل بشيء من النقد يزعم أنه عشر ما استفاده من أرضه فيقبل. وكنا نقول له يجب أن تضبط جميع ما لك عند الناس ثم تأخذ ما شئت وتسمح بما شئت - فلا يعجبه. وكان كريمًا بجاهه أيضًا، إذا قصد بحاجة أو قدر على دفع مكروه أوجب منفعة للناس فإنه يبذل جهده. وكان حسن المجاملة عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة الشديدة على الإسلام، والمناضلة عنه بما يحج المناظر ولا يؤذيه، وإنني منذ دخلت في سن التمييز أرى في دارنا وجهاء النصارى من طرابلس ولبنان، بل أرى فيها القسوس والرهبان، لا سيما أيام الأعياد، وأرى الوالد -رحمه الله تعالى- يجاملهم كما يجامل من يزوره من الحكام ووجهاء المسلمين، ويذكر ما يعرف من محاسنهم في غيبتهم بكل إنصاف، وقد كان هذا من أسباب دعوتي إلى التساهل والوفاق وتعاون جميع أهالي البلاد على ما يرقي البلاد مع القسط والبر المشروعين فإن الإنسان إذا تربى على شيء، ورأى ثمرته في نفسه وفي من يعاشر، كان أعرف بفائدته لاتفاق فكره ووجدانه فيه. وكان شديد الغيرة على الدولة العلية، وقد عرف كثيرين من وزرائها وعظمائها كالمرحومين شرواني باشا وحمدي باشا اللذين وليا الصدارة وولاية سورية وكامل باشا والي أزمير اليوم، والصدر الأعظم من قبل، وجميع متصرفي لبنان السابقين وغيرهم، فكان لإجلاله لهؤلاء، واعتقاده بحسن سياسة أكثرهم كبير الأمل في الدولة. ولا أعلم أنه صدر منه قول، ولا فعل ينافي الإخلاص للدولة، والسلطان المعظم، وكان يعزّ على الجواسيس المفسدين أن يأخذوا من أقواله ما يشون به عليه، إلا أن يكون حسن ذكره لمصر، وثنائه على أميرها الماضي وأميرها الحاضر، وقد زارها في أيامهما على أنني عرضت عليه عندما زار مصر في سنة ١٣١٧ أن أستأذن له في زيارة الأمير فلم يرض، ومع هذا كان يملأ الأندية ثناء على سموه، وعلى أستاذنا الإمام، وكذا على صاحب المؤيد الذي عرفه هنا، وأما اتهامه بالسياسة في هذا العام، وجعله تحت المراقبة إلى أن وافاه الحمام، فسببه وشاية من مصر فيه إلى السلطان بأنه من أعوان مريدي إقامة الخلافة العربية (الموهومة) على أنه منذ سنين لم يفارق القرية؛ فهل تقلب الدول وتؤسس الممالك من شيخ مريض في قرية لا زعماء فيها ولا ثروة، ولا سياسة، ولا حكومة، ولا مدارس؟ وإن تعجب فعجب عُجاب أن تهتم الدولة بأمر الشيخين- الشيخ محمد عبده والسيد علي رضا - وتأخذ الحذر منهما بعد أن نزل بهما مرض الموت، وأعجب من هذا أن يبقى هذا الحذر على أشده بعد موتهما؛ فإن كانا قضيا عمرهما، ولم يحفظ عنهما قول، ولم يعرف لهما فعل يؤذي الدولة؛ فهل يخشى من رفاتهما في القبر أن يقلب دولة ويؤسس دولة؟ يا للخجل من تلاعب سفهاء الجواسيس بالدول، الحق أقول: إنني كنت شديد الميل إلى البحث في خلل الدولة، وبيان طرق إصلاحها، وما منعني من الاسترسال في ذلك إلا الشيخان، أعلم أن والدي يستاء إن كتبت ما لا يُرضي الدولة وأستاذي كان ينهاني عن الكتابة في السياسة مطلقًا. وكان الوالد تغمده الله برحمته معتصمًا بكمال الصبر في المصائب: ابتلي بمرض الصدر المعروف بالربو وهو في شبابه؛ فكانت النوبة تشتد عليه أحيانًا حتى يمنعه الزفير من النوم والكلام المتصل، فلا تراه إلا حامدًا شاكرًا. وكان فخورًا بنسبه إلى البيت النبوي خلافًا لما عليه أسرتنا من البعد عن الفخر. وكان سنيًّا شافعي المذهب، ويميل إلى الشيعة إلا أنه يعظم الشيخين والسيدة عائشة ويقول في معاوية (لا نسبه ولا نحبه) وينحي على غير الصحابة وعمر بن عبد العزيز من بني أمية إنحاء شديدًا. وقد كان يقرأ في كتاب أمام أستاذه الشيخ محمود نشابة فجاء ذكر معاوية، فقال له الشيخ: لِمَ لَمْ تقل (سيدنا معاوية) قال الوالد (سيدكم معاوية) قال الشيخ: ألا تعترف بالسيادة لصاحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكاتب الوحي؟ قال إنني لم أنكر صحبته، ولا كتابته للوحي، ولكن أقول: إنه لا سيادة لأموي على هاشمي؛ فسكت الشيخ -رحمه الله تعالى- وكان الشيخ يحترمه حتى كان يخاطب جميع تلامذته ويذكرهم بأسمائهم، ولا يذكره إلا بلقب السيد. وكان - طيب الله ثراه - سليم القلب، بريئًا من الحقد والحسد، بعيدًا من الإيذاء والانتقام، إلا أنه كان يحتقر من عاداه بقدر ما يتودد لمن والاه، فلا يعرف الدهان والتملق، وكان باطنه خيرًا من ظاهره لأعدائه وأحبائه؛ فمهما أعرض عن عدوه وازدرى به في الظاهر لا يستحل أن يؤذيه في الباطن، وإنني لأستحي أن أصف ما امتاز به في معاملة الأصدقاء لئلا يشتم منها رائحة المنة على أحد منهم، مع أنه كان يرى لهم المنة إذا حكموا في ملكه حكمه فيه. وجملة القول: إن مزاياه كثيرة، وفضائله عظيمة، ولا بدع؛ فإن البيت الذي نشأ فيه يندر أن يوجد مثله في هذه الأمة الآن؛ في سلامة الفطرة، وطهارة الأخلاق وحسن الفعال؛ وإنني والله لم أحكم إلا بعد الأسفار وطول الاختبار، بل أقول إن قريتنا تمتاز على القرى والمدن التي نعرفها بالخُبر والخَبر بالعفة والشجاعة، والتقوى، والأخذ بالسنن، والبعد عن البدع، وإنما كانت كذلك بوجود بيتنا فيها؛ إذ لا يخلو مسجدنا من واحد منا يقرأ علوم الدين والتهذيب للعامة واستعداد أهلها للعلم عظيم، وكلهم في الأصل شرفاء النسب، مشهورون بالسيادة وقد كتب في سجل الإحصاء العام للدولة المودع في الباب العالي المعبر عنه بالدركنار (القلمون سيدة القرى والمزارع) نعم، صار فيها دخلاء كثيرون، أكثرهم من مسلمي لبنان، وأكثر ما يقع فيها من المخالفات الضرب، وسرقة الثمار. وفق الله أهلها وتاب عليهم، إنه هو التواب الرحيم. ومما كنت أنكره على الوالد -عفا الله عنه - بعد ما عرفت طرق التربية الحديثة، وقرأت علم الأخلاق، اختيار الشدة والترهيب في التربية؛ فقد بلغنا مبلغ الرجال ونحن نهاب مؤاكلته ومكالمته والاتكاء أمامه. وكان يعاقبنا على الذنب بالإعراض والهجران حتى نتوسل إليه بأن يرضى. وقد صار في أخريات سنيه يمازح أولاده الصغار، ويجمعهم على الطعام ذكرانًا وإناثًا؛ إذا اتفق خلو البيت من الضيوف، وكان يوصينا دائمًا بالخوف من الله -تعالى- دون سواه. عفا الله عنه وأحسن إليه ورحمه رحمة واسعة بمنه وكرمه، وأحسن عزاءنا عنه وثوابنا فيه.