للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رحلة الحجاز [١]
(٤)

السفر إلى مكة المكرمة
في صبيحة يوم السبت سافر ركب المحمل المصري من جدة قبل شروق
الشمس، وفي ضحوته سافرت الوالدة والشقيقة ومعهما الصديق الكريم الشيخ خالد
النقشبندي والصهر الحميم محمد نجيب أفندي وقد استأجرنا لهم أربعة جِمال
بجنيهين، اثنان للركوب واثنان لحمل المتاع (العفش) وأرسلت حكومة جدة معهم
جنديين عربيين من جنود الشريف الهجانة للخفارة وزوَّدهم صديقنا ومضيفنا الشيخ
محمد نصيف بأنفس الزاد الكافي. وتأخرت عنهم لإتمام ما كنت بدأت به من كتابة
نبذة من التفسير للمنار لإرسالها مع البريد من جدة مع كتابة ما لا بد من كتابته
إلى مصر. ثم سافرت بعد صلاة العصر من هذا اليوم على حمار استأجرته بمائة
قرش عثماني ولم أكد أظفر به لولا مساعدة الأصدقاء؛ لأن المغاربة والمصريين قد
سبقوا إلى استئجار جميع حمير البلد أو أكثرها! وسافر معي جنديان من هجانة
العرب بأمر الحكومة لأجل التكريم لا الحفظ؛ فإنها واثقة بأمن الطريق، وركب
معي الشيخ محمد نصيف والشيخ مساعد اليافي مدير الشرطة في جدة وبعض
الأصدقاء مشيعين مودعين ثم عادوا عند غروب الشمس إلى جدة، وقد زودني
الصديق المضيف بالزاد النفيس الكافي كما زود الآل والصحب واختار لي شابًّا
نشيطًا من أهل جدة للخدمة في الطريق وأخذ الحمار في مكة وأدركنا في الطريق
أحد الحجاج المصريين على حمار، فرافقنا.
* * *
(العناية بأمر الماء في السفر)
ولم أهتم لنفسي إلا بملء إبريقي المعدني الذي يحفظ ما يودع فيه من بارد
وحار زمنًا طويلاً بقطع الثلج وملء قربة من الماء النقي. ذلك بأني أعنى بأمر
الماء ما لا أعنى بأمر الطعام ولا سيما في السفر، ولا يشق عليّ فقْد شيء من
طيبات الدنيا التي اعتدتها إلا الماء البارد النقي. وهذا الإبريق من نوع الرَّوَّايات
الوارد (أوعية الماء للسفر) الإفرنجية التي يسمون واحدها (ترموس) وأكثر هذا
النوع عمودي الشكل، وهو يحفظ ما يودع فيه من بارد وحار يومًا وليلة بالتقريب،
وإبريقي الذي ذكرت يخالفها في الشكل والجودة؛ فهو نوع جيد يحفظ الثلج أو
الجليد عدة أيام لا يذوب منه إلا القليل، وقد ملأته بالثلج مرة في طرابلس الشام
وسافرت قاصدًا مصر، فبِتّ في بيروت ليلتين وفي البحر ليلتين، بعدها لم أحتجْ
فيها إليه؛ لأنني أعده لشرب الليل والماء المثلوج متيسر في الباخرة عامة النهار
وناشئة الليل. وقد اتفق أن كان منزلي (القمرة) من الدرجة الأولى بجانب
مستودع الماء المثلوج للباخرة، وفي ضحوة اليوم الخامس نزلنا في محجر
الإسكندرية الصحي فتعاهدت الإبريق فإذا بالثلج فيه لم يذُب إلا بعضه. وقد كان
هذا الإبريق هدية من سلطان مسقط السابق السيد فيصل رحمه الله تعالى - ولم أَرَ
هذا النوع إلا عنده - أهداه إليَّ عند سفري من مسقط سنة ١٣٣٠؛ إذ رأى أنني
حين كنت في ضيافته لم أسأل عن شيء إلا عن الماء المثلوج. وكان عنده آلة
لصنع الثلج، ولكنها كانت معطلة في فصل الشتاء، وكان وصولي إلى مسقط في
أول فصل الربيع والشمس في برج الحَمَل (شهر أبريل - نيسان) ، فأمر بإصلاح
الآلة واستعمالها قبل الموعد المعتاد عندهم لأجلي. ووضع عندي في دار الضيافة
إبريقًا من هذا النوع الذي نتكلم عنه ليتيسر وجود الثلج عندي في كل ساعة من
الليل والنهار، ولما سافرت وجدت مع متاعي في الباخرة إبريقًا آخر منه جديدًا لم
يُستعمل من قبل، فاستفدت منه في سفري ذاك، وكان أكبر نفعه في السفر من
البصرة إلى بغداد في شط العرب ودجلة؛ إذ قلّ الثلج في الباخرة بين العمارة
وبغداد، ثم نفد، ثم في السفر من بغداد إلى حلب ولا يوجد الثلج بينهما إلا في
مدينة دير الزور وهي بين العراق وسورية، وكان شأننا في تدبير ماء الشرب في
ذلك الطريق - التي قطعناه في ١٨ ليلة في مركبات (عربات) سفرية تسير على
ضفاف الفرات لا تبعد عنه في بعض الأحيان إلا قليلاً- أننا كنا كلما نزلنا منزلاً في
المساء نبادر إلى تقطير الماء في قدور من الفخار، ثم نبرده بهواء الليل الجاف
البارد في أكواز (قلل) الماء البغدادية وفي قلة معدنية مغشَّاة بقِماش يبلل بالماء،
فيبرد المعدن بضرب الهواء له، ويبرد الماء ببرده - وهذه القلة أهداها إليّ الطبيب
النطاسي محمد عبد الولي في مدينة لكنهو بالهند - وكنت قبل الإدلاج في آخر الليل
أملأ الإبريق المعهود من هذا الماء وترمسًا آخر عموديًّا من النوع المعروف لكثرته
في هذه البلاد، كان أهداه إليَّ صديقي السيد يوسف الزواوي أكبر سروات مسقط
بعد بيت السلطان فيها، فكنت أشرب في بكرة النهار من هذا وأدخر ذاك إلى العشي؛
لأنه أحفظ، والتغير فيه أبطأ. وقد انكسر العمودي معي في حماه، ولا أسف
عليه؛ لأن مثله كثير، إلا أنه أثر من صديق، ثم انكسر الأول في مصر فآلمني
كسره لطرافته وفائدته ولكونه أثرًا من ذلك السلطان الكريم - سقى الله لحده - ولكن
نجله البر الوفي صديقي السيد نادر قائد الجيش الأول لسلطنة مسقط أهداه إليّ إبريقًا
آخر عوضًا عنه، وهو الذي كان معي في الحجاز وكان ما حملت فيه من الثلج
كافيًا لي بين جدة ومكة، إلا أن ماء قربة الجلد تغير في الطريق؛ لأنها كانت بعيدة
العهد بالاستعمال.
وسبب حفظ الترمس لما يودع فيه مدة طويلة هو أنه مؤلف من إناءين،
أحدهما وهو الظاهر معدني وثانيهما زجاجي، باطنه كالمرآة وظاهره مُغشّى بمادة
من المواد البطيئة التوصيل للحرارة والبرودة، ويوضع الزجاجي في باطن المعدني
منفصلاً عنه، ويكون الاتصال بينهما من أعلى الفوهة ولهذه الفوهة صمام (سداد)
من الفلين على رأسه قطعة من معدنه الأبيض ويكون فوقها غطاؤه المعدني المتصل
به، فإذا رفع الصمام قليلاً أمكن صب الماء من بلبل الإبريق.
أطلت في مسألة الماء ليستفيد مما كتبت مَن يعنون بأمر صحتهم ورفاهيتهم
في السفر. والعناية بأمر الماء محمودة، بل ضرورية، فالماء الرديء يكون سببًا
لأمراض كثيرة؛ إذ الماء يحمل من جراثيم الأمراض والأوبئة ما لا يحمل غيره،
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل ما وجد ولا يذم طعامًا ولكنه لم يكن
يشرب من كل ماء يوجد، بل كان يستعذب له الماء من آبار السقيا وهي على
مسافة يوم من المدينة أو أكثر، وكان أحب الشراب إليه العذب البارد. والماء الذي
يوجد بين جدة ومكة في القهاوي - أي الأكواخ التي يأوي إليها المسافرون
للاستراحة وشرب القهوة والشاي - كله قذر، فلا أصله جيد ولا أوانيه نظيفة،
وماء بحرة - التي ينزل فيها جميع الحجاج للاستراحة - رديء غير عذب. ويقال
إن بالقرب منها بئرًا لا بأس بمائها، ولكن لا يسهل إلا على الأقلين الوصول إلى
شيء منها. فمن الضروري للمسافر الذي يُعنَى بصحته أن يحمل ما يكفيه من الماء
بين جدة ومكة في سفره من كل منهما إلى الأخرى، وللشقادف قلل من الفخار
يربطونها في مؤخرتها، فيكون ماؤها مقبولاً ولا سيما في الليل.
* * *
(القهوات في طريق مكة والدكرور)
نزلنا بعد المغرب في أول قهوة من القهوات التي أشرنا إليها آنفًا، فأذنت
وصليت المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، وصلى معي الرفاق، وشربت الماء
المثلوج وشرب الرفاق القهوة وبعد أن استرحنا قليلاً أعطيت صاحب القهوة عنهم
أضعاف المعتاد، فدعا لنا، وركبنا حُمُرنا وركب الجنديان هجانهما، وسرينا لا
نرى من الحجاج في الطريق إلا سودان الدكرور مشاة على أرجلهم رجالاً ونساءً
وأطفالاً، يحمل الرجال حرابهم والنساء أطفالهن على ظهورهن وما لديهن من
المتاع والزاد على رءوسهن، وكنا نرى بعضهم نيامًا على جانبي الطريق، فهم
ينامون إذا تعبوا، فإذا استيقظوا في أي ساعة في ليل أو نهار مشوا، لا يخافون
اللصوص ولا قُطاع الطريق، وقد قيل لنا: إنه لا يتعرض لهم أحد بسوء؛ لأنه لا
يكاد يوجد معهم شيء له قيمة ينتفع به اللصوص من الأعراب هنالك؛ فأكثرهم
عراة لا يملكون من اللباس ما يزيد على ستر العورة ولباس جميع رجالهم ونسائهم
الأبيض وهم مع ذلك يدافعون عن أنفسهم دفاع الأبطال بحرابهم السودانية، فلا
يُستهان بهم مع كثرتهم؛ فإنهم منتشرون طول الطريق، لا تبعد ثلة منهم عن أخرى
إلا قليلاً، واللصوص قلما يكونون كثيرين إلا إذا كانوا يقصدون سلب القوافل
الكبيرة.
* * *
(أمن الطريق وحادثة اعتداء)
وقد كان الطريق في هذا الموسم آمنًا مطمئنًّا، لم يبلغنا أنه وقع فيه اعتداء
على أحد إلا ما حدث بالقرب منا، فإننا سمعنا قبل انتهاء الثلث الأول من الليل
صوت طلق رَصاص استفز الحارسين اللذين معنا، فسألتهما: ما هذا؟ قالا: قوم.
وهم يعنون بكلمة القوم اللصوص وقطاع الطريق، وأشارا علينا بأن نسرع في
السير ما استطعنا، ونقصد قهوة كنا نرى ضوءها فننزل فيها، وتركانا مسرعين
بهجانهما إلى الجهة التي سمع منها صوت الرصاص، وطفقنا نحن نلكز حمرنا
مسرعين بها إلى تلك القهوة، فبلغناها بعد جهد وعناء فاسترحنا فيها ساعة، وشرب
رفيقاي الجندي والمصري الذي ألفَيْناه في الطريق الشاي، ورأينا هناك أناسًا من
الفقراء يطلبون من القهوة طعامًا. ثم جاء الجنديان مع رجل آخر، فأخبرا أن القوم
- قطاع الطريق - الذين سمعنا صوت رصاصهم قد شرّدوا بعيرين للرجل الذي
عاد معهما ولرفيق له، وكانا عائدين من جدة بعد بيع ما كانا حملاه إليها، وأن
خفراء الطريق ما زالوا يقتفون أثرهم، وقال الرجل: إنه لم يَرَ هو ورفيقه إلا لصًّا
واحدًا، ولكنه مسلح وهما أعزلان.
* * *
(النزول ببحرة)
وبعد استراحة الجنديين وشربهما الشاي أكرمت صاحب القهوة واستأنفنا
السرى، فبلغنا (بحرة) في منتصف الليل تقريبًا ورأينا أنوار ركب المحمل
المصري بالقرب من الخصاص التي يأوي إليها الحجاج وغيرهم من المسافرين،
والخصاص جمع خص، وهي البيوت من عيدان الأشجار أو القصب أو غيره من
النبات وهي هنالك كثيرة تسع الألوف الكثيرة من الناس، وعلى جانبي الطريق
سوق منها، فيه الحوانيت والقهوات وإن شئت قلت: الخانات أو الفنادق لإيواء
المسافرين، فيجد المسافرون فيها الماء والخبز واللحم والبيض وأنواعًا أخرى من
الأغذية وقهوة البن والشاي، والموسرون من المسافرين قلما يحتاجون إلى شيء
منها؛ لأنهم يحملون زادهم من جدة أو مكة لعلمهم بأن ما يوجد هنالك غير نظيف
ولا جيد. والخصاص التي وراء هذه السوق التي في الطريق العام عبارة عن دور
يتألف كل منها من عدة بيوت، يمكن أن يجعل بعضها للنساء وبعضها للرجال ولها
مراحيض وراء المساكن. وقد نزلنا في قهوة كبيرة كنا أُوصِينا بالنزول فيها،
فاسترحنا فيها ساعتين كاملتين وكنا قد جُعنا فأكلنا مما نحمل من لحوم الضأن
والدجاج والسمك والخضر والحلوى والفاكهة وشربت الماء المثلوج وحمدت الله
تعالى حمدًا كثيرًا. وأحببت أن أعرف أين نزل جماعتنا فتعذر عليّ ذلك.
* * *
(السُّرَى من بحرة ومسألة أمن الطريق)
ولما أردنا استئناف السرى استأذنني الجنديان في البقاء ببحرة؛ لأنهما
يريدان العودة صباحًا إلى جدة، وجاءاني بجنديين عربيين من المشاة، فقالا: هذان
من جنود سيدنا الموكلين بحراسة الطريق وهما يقومان مقامنا، فسرينا ومشيا أمامنا،
يحمل كل منهما بندقية من الماوزر على كتفه شادًّا مِنطقة من رصاصها المنضود
في وسطه، وهو حافي القدمين، ليس عليه إلا قميص قصير، فسألت أحدهما عن
أمن الطريق، فقال: إن الأمن تام ولا خوف عليكم في الطريق، قلت: أرأيت إذا
هجم علينا قوم كثيرون فماذا تغني عني أنت وصاحبك؟ قال: إن القوم الكثيرين
لا يعتدون على الأفراد أو الجماعة القليلة من المسافرين وإنما يقصدون القوافل
الكبيرة التي تحمل ما يحتاجون إليه من الطعام ونحوه، والقوم القليلون لا يتجرؤون
على جنود سيدنا، وإن كانوا أقل منهم، وفي الطريق على طوله مخافر متقاربة
يمكن إيصال أنباء الاعتداء من بعضها إلى بعض بسهولة. وحقًّا ما قال؛ فإنَّا كنا
بعد مفارقة جدة بقليل نرى تلك المخافر على جانبي الطريق، وكثير منها في
الروابي والهضاب، وهي كثيرة متقاربة، وكان هذان الجنديان كلما أبصرا أحداً في
الطريق على مقربة منا أسرعا إليه قبل وصوله إلينا وعرفا حاله. وقد رأينا في
طريقنا قبل بحرة وبعدها كثيرًا من القوافل قاصدة جدة إما من مكة وإما من الطائف،
وهي التي تحمل الفاكهة كالرمان والعنب والسفرجل، ورأينا أيضًا كثيرًا من
الأفراد والجماعات يقصدون جدة. وفي أثناء الساعة الثانية وصلنا إلى قهوة
استرحنا فيها قليلاً واستأذنني الجنديان بالتخلف وأوصيا جنديًّا كان هنالك بأن
يصحبني إلى مكة، وكانت المسافة قد قربت وعلمت منهما أنهما جائعان، وليس
معهما شيء، فأعطيتهما ما تيسر من الدراهم.
ثم أدلجنا وسألت الجندي عن حال الأمن في تلك البقعة فقال: إن هذه الأرض
أرض هذيل الذين أنا منهم، وهم لا يسرقون ولا يعتدون على أحد وإن ماتوا جوعًا
بل يعيشون بمواشيهم وإنما اللصوص وقطاع الطريق هم عرب الشمال. وبعد أن
أصبحنا وصلنا إلى مكان، فذكر لي حادثة من الحوادث المثبتة لأمانتهم، قال:
مات في هذا المكان رجل من حجاج المغاربة، يظهر أنه كان مريضًا، فتعب في
الطريق فتحول عنه إلى هذا المكان للاستراحة فمات فيه وكان له ولد منفرد عنه
وصل مكة، فلم يجد والده فعاد ينشده في الطريق وكان بعض عربنا قد رأوا الميت
ووجدوا معه كيسًا كبيرًا فيه نقود كثيرة فحفظوه ولما رأوا الولد دلوه على والده
وأعطوه نقوده وأعانوه على دفنه ولم يأخذوا من الكيس شيئًا ولو شاؤوا لأخذوه كله.
وجملة القول إن العناية بحفظ الأمن في هذا الموسم كانت كبيرة، وإنني لم
أسمع من أحد من الحجاج شكوى اعتداء على نفس ولا مال، ولكن حدثتني الوالدة
- بعد الوصول إلى مكة المكرمة - أنه عرض لهم في الليل رجل ادعى أنه من
الحجاج المصريين من المنصورة، وأنه فقير لم يجد ما يركبه، وكان يحاول أن
يركب البعير الذي عليه أسفاطنا وصناديقنا، فينهره أحد الجنديين اللذين معهم
بالكلام فيتحول قليلاً، ثم يعود، ولم ينصرف حتى هدده بالضرب، واتهمه بأنه
يريد أن يركب البعير ليشرده ويذهب به، وأنه لا بد أن يكون له رفاق ينتظرونه.
ويجوز أن يكون الرجل صادقًا، ولكن إساءة الظن في هذا المقام من الفِطنة.
والفضل الأول في هذا الأمن الذي لم يُسمع بمثله منذ قرون لشخص الشريف
الحسين بن علي [٢] ، وقد كان السيد الزواوي قال لي -منذ بضع سنين -: إنه لم
يَرَ أقدر من هذا الأمير على حفظ الأمن في الحجاز كله، وسياسة العرب فيه.
* * *
(بحث لغوي في الحجر والفِهْر والصخر)
لم أستفد من حديث هذا الأعرابي الجندي ولا من حديث مَن قبله فائدة لغوية
تُذكر، على أني أكثرت من الكلام مع هذا ما لم أكثر مع الآخرين ورأيته أفصح
منهم وذكرت له أبياتًا من الشعر العربي، فرأيته لا يفهم جميع مفرداتها، ولكنه
امتحنني بالسؤال عن شيء أبيض في الجبل - ولون الجبل أسود بل أصهب - قلت:
أي شيء هو؟ ، قال: ما هو مثل الشاة؟ والغنم هناك أبيض اللون، قلت: نعم.
قال: هذا فِهر. وأقول: إن المشهور في كتب اللغة أن الفِهر الحَجر الصغير
الذي يؤخذ باليد، ويدق به الجوز ونحوه، وقال بعضهم: الذي يملأ الكف. وذلك
الحجر كبير لا يمكن رفعه بيد واحدة؛ ولذلك رجعت إلى معاجم اللغة، فرأيت في
لسان العرب - بعد تعريفه بما ذكرت آنفًا -: (وقيل هو الحجر مطلقًا) ، ومن
العجيب أنه قد فسر هو والفيروزآبادي الحجر بالصخرة، والصخرة بالحجر
العظيم الصلب. وهو تساهل أو تقصير في تحديد المعاني، والصواب أن الحجر
اسم جنس لهذه الأجسام المعروفة يُطلَق على صغيرها وكبيرها وعلى الصلب الشديد
اليبوسة منها وغيره. وقالت العرب: استحجر الطين أي يبس فصار حجرًا.
والصخر ما عظم من الحجارة، واحدته صخرة، والحصى صغار الحجر، واحدتها
حصاة، وجمعها حصيات وحُصيّ. قالهما ابن سيده في المخصص، وهذا ما يفهمه
جميع الناطقين بالضاد من معنى الحجر والصخر والحصى. وقول اللسان في الفهر:
(وقيل هو الحجر مطلقًا) على ضعفه - لا يؤخذ على إطلاقه والذي ظهر لي من
نُقول أهل اللغة ومن كلمة الأعرابي الهذيلي أن أكثر العرب كانت تطلق الفهر على
الحجر الذي يؤخذ باليد الواحدة للدق به والكسر أو الحذف والرجم، وقليل منهم
أطلقه على ما يؤخذ بكلتا اليدين لدقّ شيء أو ضربه، وأكثر العرب تؤنث الفِهر،
وورد تذكيره في حديث حمالة الحطب؛ فإنها أخذت فهرًا وجاءت لتضرب به النبي
صلى الله عليه وسلم، فلم تره فقالت لأبي بكر رضي الله عنه - وهو معه -: لو
وجدت صاحبك لشدخت رأسه بهذا الفهر. نقله شارح القاموس بهذا اللفظ عن
الروض. قال صاحب الهمزية:
وأعدّت حمالة الحطب الفهـ ... ـر وجاءت كأنها الورقاء
يوم جاءت غضبى تقول في مثـ ... ـلي من أحمد يقال الهجاء
وتولت وما رأته ومن أيـ ... ـن ترى الشمس مقلة عمياء
(قهوة سالم)
وقد بلغنا قهوة سالم مصبحين، وهي في حدود الحرم على مقربة من مكة،
وكنا مررنا ليلاً بالعلمين المنصوبين لحدوده. فصيلنا فيها صلاة الفجر ثم لم أملك
نفسي من التعب والنعاس أن اضطجعت، فنمت حتى طلعت الشمس. وكنت عازمًا
على الاغتسال في هذه القهوة لدخول مكة عملاً بالسنة، وسألت في جدة وفي
الطريق عن مكان يمكنني أن أغتسل فيه فقيل لي قهوة سالم، ولكنني خشيت على
نفسي المرض من الاغتسال وقتئذ بالمال البارد مع شدة الإعياء، فاكتفيت بالوضوء،
ورأيت أن أمشي ميلاً أو ميلين لتلين عروق رجلي ووركي وأعصابها المتيبِّسة
من طول الركوب الذي طال عليَّ عهده، ففعلت وضايقني دخول الرمل في نعلي
فمشيت حافيًا ضاحيًا (أي بارزًا للشمس) كسودان الدكرور، الذين كنت أراهم
أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي منذ خرجت من جدة إلى أن دخلت مكة.
* * *
(أسرى الترك)
ولما قربنا من مكة وظهرت لنا ضواحيها - رأينا أسرى الترك الذين أسرهم
العرب في الطائف خارجين منها مشاة في الطريق اليسرى مرسَلين إلى جدة،
يخفرهم قليل من الجنود الأعراب، وفي اليوم الثاني من دخولنا مكة رأينا فيها
ضباطهم ركوبًا على الإبل متلفِّعين، لا ترى إلا أعينهم وأنوفهم، وهم مرسَلون إلى
جدة يخفرهم قليل من جنود الأعراب الهجانة، وكان قد بلغنا في جدة خبر فتح
الشريف الأمير عبد الله الطائف بعد أن حاصرها عدة أشهر، وتسليم قائد الحامية
التركية غالب باشا الذي كان والي الحجاز له.
* * *
(وفد الأمير لاستقبال العبد الفقير)
ولما بلغنا قهوة المعلم وهي آخر قهوة بين جدة ومكة - رأيت صديقنا الأستاذ
الكبير السيد عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة مع بعض ولده وبعض
المكيين، فأقبل لاستقبالي ونزلت عن دابتي فتعانقنا وتصافحنا وجلسنا للاستراحة
وبعد السلام قال لي: إن هذا الوقت هو وقت دخول سيدنا الشريف عبد الله نجل
سيدنا الأمير مكة قادمًا من الطائف، بعد أن تم فتحها على يديه، وقد أُعِدَّ له احتفال
كبير، وخرج سيدنا بجميع الشرفاء والوجهاء ورجال الحكومة إلى خارج البلد
لاستقباله، ولما علم بأن قدومك يتفق في هذا الوقت أوفدني من قِبَله لأجل استقبالك،
وأرسل إليك بغلته هذه مع مَن ترى من حُجّاب سيادته لتدخل عليها مكة - وأشار
إلى بغلة دهماء مشدودة مع حاجبين أبيضَيْ اللون بثياب حمر كالثياب التي يلبَسها
قواسة وكلاء الدول - ولو جئت قبل هذا الموعد لرأيت من العناية باستقبالك ما
يسرك، ولكنت معنا الآن في استقبال صديقك سيدنا الشريف عبد الله، ولدخلت بك
مكة من الطريق التي دخل منها سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فقابلت هذه
العناية الهاشمية بالشكر والثناء وخالص الدعاء.
هذا، وإنني كنت عازمًا عند الوصول إلى جدة أن أكتب إلى هذا الصديق
الوفي أكلفه أن يستأجر لي ولمَن معي دارًا ننزل فيها، ولكنه كلمني بالمسرة
(التلفون) من مكة، فقال: إن سيدنا الأمير - أعزه الله - قد أمر بإعداد منزل لك
مؤلَّف من دائرتين، إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وفيه جميع ما يُحتاج إليه
من الأثاث والماعون والخدم وهو بقرب الحرم الشريف. وعلمت من هذا الصديق
أنه كان يتمنى أن ننزل في داره ضيوفًا عليه، لو لم يتفضل (سيد الجميع)
بتشريفنا بضيافته السنية الهاشمية.
وقد تذكرت الآن - والشيء بالشيء يُذكر - أن صديقي السيد يوسف
الزواوي كبير تجار مسقط وسرواتها، الذي مرّ ذكره في هذه الرحلة - وهو من آل
هذا البيت - كان قد كتب إليَّ وأنا في بمباي ثغر الهند الأول سنة ١٣٣٠ يقول إنه
بلغه أنني عازم على زيارة مسقط ويدعوني إلى النزول في داره، ولم يكن يعلم أن
سمو سلطانها السيد فيصل - رحمه الله وطيب ثراه - قد أمر مندوبه في بمباي
بدعوتي إلى ضيافته وبأن يخبره عن يوم سفري بالبرق (التلغراف) ، فلما جئت
مسقط ونزل السيد إلى الباخرة مع مَن نزل من ولد السلطان وحاشيته في زورقه
البخاري لاستقبالي فيها - أخبرني بما كان تمناه واستعد له من حسن الضيافة، لولا
أن سمو السلطان نفس عليه بذلك وقال له: أنت تنتظر مثلي قدوم فلان على بلدنا
وتريد أن تستأثر بضيافته من دوننا؟ ! ولكن السيد يوسف - أحسن الله إليه -
أدب لي مأدبة عظيمة في نفس مسقط، ودعا إليها جميع كبرائها ووجهائها ومأدبة
أعظم وأفخم منها في دار له بمزرعة في ضواحي مسقط، دعا إليها كبراء مسقط
ووجهاء البلاد المجاورة لها، حضرها عشرات منهم، فقضينا معهم يومًا كاملاً من
أطيب أيام الحياة، ذكَّرناهم فيه بآيات الله، فألفينا آذانًا صاغية وقلوبًا واعية،
وكذلك الأستاذ السيد عبد الله - حيّاه الله تعالى - فإنه أدّب لنا عدة مآدب فخمة،
حضر بعضها أهل العلم والوجاهة من حجاج المغاربة، وسيجيء ذكر هؤلاء
المغاربة في هذه الرحلة.
* * *
(دخول مكة المكرمة والطواف والسعي)
بعد أن استرحنا قليلاً ركبت البغلة التي تفضل بإرسالها إليَّ سيدنا الأمير،
ومشى أمامي حاجباه، وركب السيد الزواوي فرسه اللينة السير ونجله السيد عبد
الرحمن دابته، وسارا إلى جانبي، وركب مطوّف بلدنا (طرابلس الشام) الشيخ
محمد الحريري ونجله دوابهما وسارا وراءنا، فلما دخلنا مكة ومررنا في أسواقها
جعل الناس يقومون على الجانبين تكريمًا لمَن كرَّم أميرُهم ومنقذُهم من الهلكة، وإن
كانوا لا يعرفون شخصه ولا صفته، حتى إذا ما بلغ السير بنا بيت الله الحرام،
دخلناه ومررنا فيه من باب بني شيبة [٣] حيث دخله سيد الرسل عليه أفضل الصلاة
والسلام، فلما وقعت العين على الكعبة المعظمة، التي كساها الله تعالى حُلل المهابة
والعظمة، قلت كما كان يقول عمر بن الخطاب عليه الرضوان: اللهم أنت السلام
ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام. وقفَّيت على ذلك بالدعاء الذي ورد، وإن لم
يصح به السند: (اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًّا) .
وطفت طواف القدوم والعمرة سبعة أشواط، وطاف معي مطوفنا رافعًا
صوتًا بما يحفظه من الثناء والدعاء - وهو ما اعتاد المطوفون تلقينه للحجاج - وأنا
أدعو وأثني بما أعلم وما أُلهم. وقد ذكَّرني المطوف بما كدت أذهل عنه من الرَّمَل
في هذا الطواف، وما يُسَنُّ فيه من كشف المنكب الذي يكون بالاضطباع، وبعد
الطواف صليت ركعتين، وشربت من ماء زمزم، ثم خرجت من باب الصفا لأجل
السعي بين الصفا والمروة.
كنت أحب أن أطَّوَّف بالصفا والمروة ماشيًا ولكن السعي بينهما سبع مرات
عبارة عن قطع ثلاثة كيلو مترات مشيًا، وذلك ما كنت أعجز عنه في ذلك الوقت
لما عرض لوركي من التعب والألم من الركوب عامة الليل على حمار غير فاره
لولا الإشناق له طول الطريق لخرَّ بي مرارًا، وكم ثنى ركبتيه للركوع، ومنعه
جذبي الرسن من السجود، فسعيت راكبًا على البلغة وهو جائز، ورملت بها في
موضع الرمل وهو ما بين الميلين (العمودين) الأخضرين الناتئين من جدار الحرم،
وقد بينت في المناسك أن جميع مناسك الحج قد شرعها الله تعالى على لسان
إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام إلا الرمل في الطواف والسعي، فإنه من
آثار نبينا صلى الله عليه وسلم، فعله مع الاضطباع وهو عبارة عن كشف المنكب
الأيمن وإظهاره ليظهر قوة المسلمين للمشركين في عمرة القضاء؛ إذ كان بلغه أنهم
قالوا: إن محمدًا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهُزَال، وكان بلغه
عنهم في الحديبية أنهم قالوا في المؤمنين: أوهنتهم حمى يثرب.
وبعد السعي عدت إلى دار السيد الزواوي إجابة لدعوته، فمروا بي من
طريق آخر وحُجاب الأمير أمامي والكثيرون من الناس يقفون في دكاكينهم، وفي
الطريق من الجانبين، فأحييهم بالسلام وبالإشارة حتى إذا ما جئت الدار أعد لي ماءً
للاستحمام فاغتسلت وتغديت مع السيد وولده ونمت، وكان الحر قد اشتد، فلم أنم
إلا قليلاً. وقد سألني السيد: متى تحب أن أذهب بك لزيارة سيدنا الأمير؟ قلت
له: إنني كنت محرمًا بالعمرة وقد أديت طوافها وسعيها وسأقصر شعري وأتحلل
منها، ولكن ثيابي مع الوالدة والرفاق، فمتى وصلوا ألبَس ونذهب، ورغبت إليه
في الذهاب إلى الدار المعدة لنا لأجل انتظارهم فيها، ولما جئت الدار وجدتها على
الشارع العام بجوار باب الحرم الغربي الكبير المسمى بباب إبراهيم، وقد تأخر
وصول الجماعة إلى قرب المغرب، فلم نتشرف بتلك الزيارة إلا ليلاً، وسأذكر لقاء
الأمير وشمائله في فصل آخر.
* * *
الحالة الروحية عند أداء المناسك
وحُكم التلبية والطواف والسعي
الحج عبادة روحية جسدية اجتماعية، فهو تربية عالية للإنسان منفردًا
ومجتمعًا، أي تربية كاملة له، فإن الإنسان مركَّب من جسد وروح، وقد خُلق
ليعيش مجتمعًا، وفي الحج تقوية لجسده ولروحه ولروابطه الاجتماعية.
أما كونه رياضة بدنية مقوية للجسد فظاهر في جميع المناسك؛ فالإحرام
ضرب من الرياضة والسفر كذلك، قد وصفت لك - أيها القارئ - سفري من جدة
إلى مكة، وعلمت بالإجمال ما قاسيت فيه من المشقة، مع استكمال أسباب الراحة
وقرب الشقة. وفي الطواف والسعي رياضة المشي التي يصف الأطباء نفعها
ويوصون بها، فدائرة المطاف حول الكعبة المعظمة لا يقل متوسطها عن مائة متر
وأقل الطواف سبعة أشواط (مرات) ومن الناس من يطوف في اليوم والليلة أسابيع
كثيرة متصلة ومنفصلة، أما أنا فلم أستطع أن أزيد على سبعة أسابيع في أمثل
الأوقات وأعدلها وهو وقت السحر؛ لما كنت عليه من ضعف البدن، وكان رفيقي
وأخي في الله الشيخ خالد يطوف ضِعفي ذلك أو يزيد. وإذا كان أقل الطواف -
وهو أسبوع - عبارة عن مشي ثلاثة أرباع الكيلو فإن السعي بين الصفا والمروة
سبع مرات يقرب من مشي ٣ كيلو.
وأما كونه مقويًا للروابط الاجتماعية فلما فيه من التعارف والتآلف بين
الشعوب المختلفة في أفضل بقاع الأرض، وفي أحسن الأحوال التي يكون عليها
الإنسان في هذه الحياة، وهي التجرد من شواغل الدنيا والتوبة إلى الله تعالى من
جميع المعاصي والآثام.
وأما كونه عبادة روحية مهذبة للنفس بتقوية شعور الإيمان، فهو المقصود
بالذات الذي يجب أن يُتَحَرَّى وينوى، ويلاحظ عند كل عمل من أعمال المناسك،
وهاك خلاصة وجيزة من العلم والاختبار في ذلك:
(الحالة الروحية في طريق مكة وتأثير التلبية)
كنت قبل عودة المشيعين لي من جدة ألبي في السير قليلاً، وأتكلم معهم
كثيرًا، فلما عادوا وولى النهار بأنسه وبهائه، وأقبل الليل بوحشته وظلماته -
هدأت المشاعر، وقرت النواظر، وخشعت السرائر، وتزاحمت الخواطر - فكان
الغالب منها على الفكر والقلب ما يثيره تأثير الزمان والمكان وزي الإحرام في
النفس.
فأما الزمان فهو شهر ذي الحجة الحرام، وأما المكان فهو الطريق إلى بيت
الله الحرام، وأما زي الإحرام فهو الذي كان يتزيَّا به إبراهيم خليل الله،
وإسماعيل ذبيح الله، ومحمد خاتم رسل الله، وغيرهم من رسل الله الكرام، عليهم
الصلاة والسلام، وكل مَن حج البيت أو اعتمر من أصحابهم وأتباعهم هداة البشر،
فيا لها من ذكرى لذي اللب، يخشع لها القلب، ويُرجى بها رضوان الرب، بما
تثمره من قوة الإيمان، وطهارة الوجدان، وخلوص السر والإعلان، ولو لم يقترن
بها ذكر لسان، ولا عمل أركان، فكيف إذا صحبها تكرار التلبية، التي تزيد
حرارتها تذكية؛ وإخلاصها تزكية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن
الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تأملت نفسي في تلك الليلة الليلاء، والطريق الجرداء، فرأيتني حاسرًا حافيًا
في إزار ورداء، غير مُبالٍ بما يكون من تأثير الهواء، وهي حال لم أعهدها في
سالف الأيام، إلا بين جُدُر الحمام، وقد كان الهواء عند خروجنا من جدة حارًّا
رطبًا، وكانت الدابة وهي في أول السير تنهب الأرض نهبًا. وهذه ثلاثة أسباب
يتفصَّد بها العرق من الإهاب، ثم كنا كلما أوغلنا في السرى، وتغلغلنا في البيداء،
نشعر بجفاف الجو، وبرد الهواء، حتى اضطررت إلى إخراج سجادة صلاة كانت
تحتي، فوضعتها على عاتقي فلم تغنِ عني، فأخرجت العباءة فتلفعت بها، جاعلاً
لأجل الإحرام أعلاها أسفلها، ولم أخف من أذى يصيبني من برد الليل ولا ضرر،
ولم يعرض لي سأم من طول السرى ولا ضجر، فإن مسني طائف من شيطان
الوسوسة - ذكرت الله تعالى، فطردته بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك
لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ويالله ما أحلى التلبية في تلك الفلوات، وما أعظم الأُنس بها في حنادس
الظلمات، إذا خشعت بها الأصوات، واستمطرت بها العَبَرات، ومن دقائق حكم
الشرع استحبابه رفع الصوت بها للرجال، وتجديدها بتجدد المناظر واختلاف
الأحوال، فرفْع الصوت بها ينفي الوسواس، وإذا كان في الليل يطرد النعاس،
وهو أجلب للخشوع، وأذرف للدموع، واستئنافها عند اختلاف الأحوال وتجدد
المناظر أدعى إلى دوام الذكر وعدم تفرق الخواطر، فكنت كلما علونا نجْدًا، أو
هبطنا غورًا، أو نزلنا مكانًا، أو استأنفنا سُرَانا، أو لقينا مشاة أو ركبانًا - جأرتُ
إلى الله تعالى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك
والملك، لا شريك لك.
* * *
(تأثير رؤية الكعبة والطواف بها)
تلك التلبية تملأ قلب متدبرها إيمانًا وتوحيدًا، وتجرده من الحظوظ والأهواء
تجريدًا، وتعده لزيارة بيت الله والطواف، وهو في أحسن حال وأتم استعداد، حتى
إذا اكتحلت عينه برؤية الكعبة المعظمة، وراع القلب ما جللها من المهابة والعظمة
- تذكَّر أنها أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدى للعالمين، وخصه الله بالآيات
البينات الباقية على بقاء الأيام والسنين، ورأى أمامها مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا
وآلهما الصلاة والسلام، ووجد نفسه حيث كان بدء دين الله الإسلام، وحيث الختام،
فإذا دنا من مهبط الروح الأمين، ومطاف الملائكة والنبيين، والصديقين والشهداء
والصالحين فلا تسلْ ثَمَّ عن الدموع كيف تنسكب، وعن الضلوع كيف تضطرب،
وعن الأعناق كيف تخضع، وعن القلوب كيف تخشع، ولا عن وجدان الإيمان،
كيف يتألق نوره في الجَنان، ويفيض بيانه على اللسان، فيحركه بما يُلهم من الثناء،
وما يشعر بالحاجة إليه من الدعاء، وما يذكره أو يُذكّر به من المأثور، من
مرفوع أو موقوف، لا تسلْ - أيها القارئ - عن شيء من ذلك، ولا عن غيره مما
يكون عند أداء المناسك، فمَن ذاق عرف، ومَن حُرم انحرف.
على هذه الحال تدخل الحرم المقدس، طاهر القلب والبدن من الحدث
والدنس، فتأتي الركن الأسود، حيث العظمة والسؤدد، فتقول: بسم الله، الله أكبر،
فيصغر في قلبك كل شئون البشر، ثم تبدأ الطواف، مع النية والإخلاص، بلمس
الحجر وتقبيله إن قدرت، وبالإشارة إليه إن أنت عجزت، ولا بأس بأن تتذكر ما
رُوي من أنه رمز إلى يمين الله التي لا تشبه الأيمان، وأن استلامه وتقبيله في
معنى تحية رب البيت ومبايعته على الإيمان والإسلام والإحسان، ومن أنه يشهد
لمستلمه يوم القيامة كما تشهد الأعضاء، وبأن تقول بلسانك أو قلبك، كما قال أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب من قبلك: (إنني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع،
ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبَّلك [٤] لما قبَّلْتك) ، فتقبيلك ليس
لذاتك الحجرية، ولا لمنفعة فيك مرجوة أو مضرة مخشية، ولا هذا الطواف الذي
بك يبتدأ وعندك يختتم، في معنى عبادة الوثن وتعظيم الصنم، وإنما هو خضوع
لأمر الله، واقتداء برسل الله، وتعظيم لما عظم الله، وأنس بالقرب مما نُسب إلى
الله، يكمل به توحيد الله، وتنمي به محبة الله، فمن شأن المحبين الأُنس بكل ما
يُنسب إلى المحبوب، ولا سيما إذا تعذر اللقاء وعز الوصول، وكم نظموا من
الأشعار، في الوقوف بالأطلال والطواف بالآثار:
أمر على الديار ديارِ ليلى ... أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب مَن سكن الديارا
ولما كان الرب العلي العظيم، الجدير بأعلى مراتب الحب والتعظيم، لا
تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، ولا يراه عباده في هذه الدار - كان من
رحمته بالمؤمنين المحبين أن وضع هذا البيت للطائفين منهم والعاكفين، ونسبه إليه؛
ليكون تعظيمه تعظيمًا له.
فإذا مضيت في الطواف يمينًا مصاحبًا لهذه الذكرى، جاعلاً البيت من الجهة
اليسرى، فاشغلْه بالثناء على الله، والدعاء لنفسك، ولآلك وصحبك، ولأمتك
وأولي أمرك، فإذا بلغت الركن اليماني - وهو الجنوبي الغربي - فاستلمه إن سهل
عليك؛ فإنه على قواعد إبراهيم، التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم، ومتى
انتهيت إلى مقابله - وهو الركن الأسود - فقد أتممت من طوافك الشوط الأول،
وبقية الأشواط مثله في الشروط والآداب، كالخشوع والتذكر وترك غير الضروري
من الكلام، وعدم التهافت على استلام الركن والحجر عند الزحام، فإذا أتممت
السبعة الأشواط فاختم دعاءك بين الركعتين بقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: ٢٠١) ، ثم صَلِّ ركعتين
سنة الطواف، والأفضل أن تصليهما وراء المقام.
* * *
(تأثير السعي وحكمته)
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، وليس له نفل فلا
يفعل في كل منهما أكثر من مرة، ويجب أن يكون بعد الطواف، ولا يشترط فيه
شروط الصلاة. فإذا جئت الصفا فاقرأ كما قرأ الرسول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن
شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: ١٥٨) ، وقُل كما قال: (نبدأ بما بدأ الله) ، ثم اصعد
درجة أو أكثر، واستقبل البيت الحرام، فإذا رأيته فقل كما كان يقول عليه الصلاة
والسلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل
شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده) ، وادعُ الله تعالى مكررًا ذلك ثلاث مرات.
وتذكر عند السعي أنه ذكرى سعي جدَّتنا السيدة هاجر عليها الرضوان، أم
أبينا إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وعلى أبيه، وصفوة بنيه، ويا لها من ذكرى
لمجد العرب الكرام، ومعجزات الإسلام، مثبتة لحفظ الله تعالى لهذه الملة، وعنايته
بهذه الأمة، حفظتها العرب بالعمل المتواتر، وكم حفظت ما هو دونها من المآثر.
وما يحفظ بالتمثيل والمحاكاة يكون أثبت مما يحفظ بالتلقين والروايات، ولكنهم
مزجوا مناسك الحنيفية، بخرافات الوثنية، فإن كانوا قد وضعوا صنمين على
الصفا والمروة فقد وضعوا ٣٦٠ صنمًا على الكعبة، ثم طهر الله تعالى هذه البقاع
بالإسلام، وأعادها إلى ما كانت عليه في عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما وآلهما
الصلاة والسلام، روى البخاري وغيره من طريقين عن ابن عباس رضي الله
عنهما، قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان [٥] خرج بإسماعيل وأم
إسماعيل ومعهم شنة [٦] فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها
على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة - زاد في الرواية الأخرى فوق
زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ولا بها ماء ووضع عندهما جرابًا فيه
تمر، وسقاءً فيه ماء - ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا
كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى مَن تتركنا؟ ، قال: إلى الله، قالت:
رضيت بالله، وفي الرواية الأخرى أنها قالت: إذًا لا يضيعنا، وفيها أنه لما كان
عند الثنية، أي ثنية كداء حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء
الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ
بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: ٣٧) ، قال: فرجعت فجعلت تشرب من
الشنّة ويدرّ لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبتُ فنظرت لعلِّي
أُحسّ أحدًا - زاد في الرواية الأخرى: حتى إذا نفد ما في السقاء (أي الشنة)
عطشت وعطش ابنها، فجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية
أن تنظر إليه - (قال) : فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت هل تُحسّ أحدًا،
فلم تُحسّ أحدًا، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطًا ثم قالت:
لو ذهبت فنظرت ما فعل، تعني الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه
ينشغ [٧] للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أُحسّ أحدًا،
فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدًا حتى أتمت سبعًا - زاد في
الرواية الأخرى: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك سعي
الناس بينهما) - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت، فقالت:
أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل - وفي الرواية الأخرى فقالت: قد أسمعت
إن كان عندك غَواث، فإذا هي بالمَلَك عند زمزم - قال: فقال بعَقِبه هكذا وغمز
عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل [٨] ، فجعلت تحفر
(قال) : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (لو تركته كان الماء ظاهرًا) -
ولفظ الرواية الأخرى: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت - أو قال - لو لم تغرف
من زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا) ، أي جاريًا على وجه الأرض - (قال) :
فجعلت تشرب من الماء ويدرّ لبنها على صبيها، قال: فمر ناس من جرهم ببطن
الوادي، فإذا هم بطير - وفي الرواية الأخرى: فرأوا طائرًا عائفًا أي يحوّم على
الماء - كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم،
فنظر فإذا هم بالماء، فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن
نكون معك أو نسكن معك - وزاد في الرواية الأخرى فقالت: نعم ولكن لا حق لكم
في الماء، قالوا: نعم - ثم قال مصرحًا بالرفع: (فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم
فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم
وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم) . اهـ المراد منه،
ويليه ذكر عودة إبراهيم إلى مكة لتفقد تركته، أي ما تركه فيها وخبر بنائه البيت.
وجرهم كقُنفذ هو ابن قحطان ولكن رجح الحافظ أن قحطان نفسه من ذرية إسماعيل.
فهذا حديث صرح فيه ابن عباس بما يدل على رفعه كله، وإن لم يسنده إلى
النبي صلى الله عليه وسلم في أوله. وفيه نص صريح في بيان حكمة جعْل الصفا
والمروة من شعائر الله، التي يحيا شعور الإيمان بها، ووجوب التطوف بهما
والسعي بينهما. فإنه تمثيل يذكِّر بتلك الواقعة التي هي من أكبر آيات الله ومظاهر
قدرته، وعنايته بتلك السيدة العظيمة القوية الإيمان به والاتكال عليه والثقة به،
وبولدها الذي أراد سبحانه أن يباركه ويجعله أمة عظيمة، كما هو منصوص في
سفر التكوين من أسفار التوراة القديمة، وأي شيء أجدر بأن نتذكره هنالك، ونمثله
كما وقع لأجل الاعتبار به، وإحياء شعور الإيمان بتصوره، من رضاء أم مُرضع
بأن تقيم مع طفلها منفردين بعيدين عن العمران، في وادٍ غير ذي زرع ولا ماء؛
لأن الله تعالى قد أمر بذلك أبَا ولدها الذي لقنها الإيمان، ورأت ما أيده الله به من
الآيات البينات، وكيف نصره وحده على قومه المشركين الظالمين الأقوياء؟
أليس تمثيل حال تلك الأم جائعة ظامئة، والهة حائرة، تشاهد طفلها يتلوَّى
ويتمرغ، من شدة الجوع والظمأ، ويضرب بنفسه الأرض كالمصاب بالصَّرع،
وينشغ - أي يشهق من صدره - للموت في ذلك القفر، فيسوقها ذلك الألم إلى
الفرار من رؤيته بتلك الحال، والسعي بين ذينك الجبلين القريبين من ذلك المكان،
تصعد هذا مرة وذلك أخرى، ضارعة إلى الله، راجية أن تجد من عنده غوثًا،
حتى إذا ما انتهت من الشوط السابع أرسل الله تعالى روحه الأمين الذي يؤيد به
الأنبياء، فأنبع لها ذلك الماء، وجعل فيه الري والغذاء، ثم ساق ذلك الركب من
جرهم إليها، وسخرهم للإقامة عندها، ليتربى فيهم، ويتذرّاهم ولدها، ثم يجعله
أصلاً لهذه الأمة الكريمة، ويجعل ذلك الوادي القاحل صدفة لدرة الكعبة اليتيمة، إذ
جعله بلدًا يحفظ بيته الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، وجعل قلوب الناس تهوي إليه
من جميع الأقطار إيمانًا ونسكًا، ورزق أهله من الثمرات، وسخر لهم البشر في
كل زمان، ألسنا نرى في هذا العام معجزة من معجزات هذا التسخير؟ بلى، وقد
ابتلى في هذا العام وما قبله الأمم الغنية القوية، المتصرفة في البلاد العامرة
الخصبة الغنية، بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات،
بهذه الحرب الأوربية التي تقطعت بها الروابط، وقلَّت المواصلات، واقتضى
دخول الدولة العثمانية في غمراتها، أن تضرب الدول المحاربة لها حَجْرًا بحريًّا
على جميع سواحلها، فكان الضيق على سكان حرم الله تعالى أليمًا شديدًا، حتى إذا
ما أوشك أن يفتك بهم الموت جوعًا - سخر الله تعالى لهم تلك الدول تحمل إليهم
الأقوات والأموال، وتنقل إليهم وفود الحجاج، وأراهم بهذه الإغاثة العامة مثالاً
لتلك الإغاثة الخاصة، أعني إغاثة هاجر وإسماعيل، استجابة لدعاء الخليل:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} (إبراهيم: ٣٧) ،
وكثيرًا ما ذكَّرت الناس بذلك في أثناء أداء المناسك.
فمن سعى بين الصفا والمروة عالمًا بما ذُكر، متذكرًا له، معتبرًا به - فإنه
يشعر في قلبه بنماء الإيمان بالله وبرسل الله، ويفهم سر قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: ١٥٨) .
((يتبع بمقال تالٍ))