للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


الشفاعة الشرعية
والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
تابع لما قبله
وسُئل أيضًا - رحمه الله تعالى - هل يجوز للإنسان أن يتشفَّع بالنبي صلى
الله عليه وسلم في طلب حاجة أم لا؟
(فأجاب) :
الحمد لله، أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق
يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.
ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة، واستفاضت به
السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضًا لعموم الخلق.
وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين
خاصة في رفْع الدرجات، ومنهم مَنْ أنكر الشفاعة مطلقًا.
وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته، ويتوسلون
بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس: (أن عمر بن الخطاب كان إذا
قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل
إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون) .
وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ربما ذكرت قول الشاعر،
وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يَستسقي، فما ينزل حتى يجيش
كل ميزاب:
وأبيضَ يُستسقَى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فالاستسقاء هو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة،
ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا، وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما
أجدب الناس في الشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه،
وقال: اللهم إِنَّا نستشفع، ونتوسَّل إليك بخيارنا، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع
(يديه) ، ودعا الناس حتى سقوا؛ ولهذا قال العلماء يُستحب أن يُستسقََى بأهل الدين
والصلاح، وإذا كانوا بهذه المثابة - وهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم - كان أحسن، وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلاً قال: (إنا نستشفع بك
على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رُئِيَ
ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله؟ ! ، إن الله لا يُستشفع به
على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك) ، فأنكر عليه قوله: (إِنَّا نستشفع بالله
عليك) ، ولم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله) ؛ لأن الشفيع يسأل
المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحدًا من عباده أن
يقضي حوائج خلقه، وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله في مثل قوله:
شفيعي إليك الله لا رب غيره ... وليس إلى رد الشفيع سبيل
فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالِم، وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله
إلى رسوله، وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي {يَسْأَلُهُ
مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرحمن: ٢٩) ، والرسول صلى الله عليه وسلم
يُستشفع به إلى الله، أي يُطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الخلق أن يقضي الله
بينهم، وفي أن يدخلهم الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض
مَن يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها [١] أن يخرج منها، ولا نزاع
بين جماهير الأمة أن يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، وعند
الخوارج والمعتزلة أنه لا يشفع لأهل الكبائر؛ لأن الكبائر عندهم لا تغفر، ولا
يخرجون من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها، ومذهب أهل السنة
والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، ولا يُخلَّد أحد في النار من أهل الإيمان، بل
يخرج من النار مَن في قلبه حبة من إيمان أو مثقال ذرة.
والاستشفاع به وبغيره هو طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله،
والسؤال بذاته بحضوره، فأما في مغيبه أو بعد موته - فالإقسام به على الله
والسؤال بذاته لم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين [٢] ، بل عمر بن الخطاب
ومعاوية ومَن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمَن كان
حيًّا كالعباس وكيزيد بن الأسود - رضي الله عنهما - ولم يُنقل عنهم أنهم في هذه
الحالة استشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ولا غيره، فلم يقسموا
بالمخلوق على الله عز وجل، ولا سألوه بمخلوقٍ، نبيٍّ ولا غيره، بل عدلوا إلى
خيارهم كالعباس وكيزيد بن الأسود، وكانوا يصلون عليه في دعائهم، روي عن
عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا، فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك
لما تعذر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.
وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، ويقولوا [٣] في دعائهم في
الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيك أو بجاههم ونحو ذلك , ولا نُقل
عنهم [٤] أنهم تشفَّعوا عند قبره، ولا في دعائهم في الصحراء، وقد قال صلى الله
عليه وسلم: (اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا، اشتد غضبُ اللهِ على قوم اتخذوا قبورَ
أنبيائهِم مساجدَ) رواه الإمام مالك في الموطأ وغيره، وفي سنن أبي داود أنه قال:
(لا تتخذوا قبري عيدًا) ، وقال: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ،
قال ذلك في مرض موته يحذر ما فعلوا، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى
عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله.
وقد روى الترمذي حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم
رجلاً أن يدعو، فيقول: (اللهم إني أسالك، وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة،
يا محمد، يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي؛ لتُقضَى لي، اللهم
فشفِّعْهُ فِيَّ) ، وروى النسائي نحو هذا الدعاء. وفي الترمذي وابن ماجه عن
عثمان بن حنيف رضي الله عنه: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: ادعُ الله أن يعافيَني، فقال: (إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ
صبرتَ؛ فهو خير لك) ، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، فيُحْسن الوضوء،
ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسالك، وأتوجه بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله
إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفعه فيَّ) قال الترمذي:
حديث حسن صحيح [٥] ، ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال:
يا رسول الله، ادعُ الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلقْ، فتوضأْ،
ثم صَلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري،
اللهم فشفعه فيّ، قال: فدعا، وقد كشف الله عن بصره، فهذا الحديث فيه التوسل
إلى الله به في الدعاء.
ومن الناس مَن يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقًا حيًّا وميتًا،
ومنهم مَن يقول: هذه قضية عين، وليس فيها إلا التوسل بدعائه وشفاعته، لا
التوسل بذاته، كما ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم
إنهم - بعد موته - إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلاً عنه، فلو كان التوسل به
(حيًّا وميتًا) مشروعًا لم يميلوا عنه، وهو أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه، إلى
غيره ممن ليس مثله، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم
أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء، وما ينفع،
وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة
يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث، بكل طريق - دليل على
أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه؛ ولهذا ذكر الفقهاء - في كتبهم في الاستسقاء-
ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًّا هو الطلب لدعائه وشفاعته،
وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون يسألونه أن يدعو لهم في حياته،
وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه ذلك، لا عند قبره ولا عند غيره، كما
يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين [٦] ، وإن كان قد روي في ذلك حكايات
مكذوبة عن بعض المتأخرين، بل طلب الدعاء مشروع لكل مؤمن من كل مؤمن،
فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب - لما استأذنه في العمرة -:
(لا تنسَنَا - يا أخي - من دعائك) ، حتى إنه أمر عمر أن يطلب من أويس
القرني أن يستغفر له، مع أن عمر رضي الله عنه أفضل من أويس بكثير، وقد
أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة، وأن يصلُّوا عليه.
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو
لأخيه في ظهر الغيب بدعوة إلا وكَّل الله به ملكًا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الموكَّل
به: آمين، ولك مثل ذلك) [٧] ، فالطالب للدعاء من غيره نوعان: أحدهما أن
يكون سؤاله على وجه الحاجة إليه، فهذا بمنزلة أن يسال الناس قضاء حوائجه،
والثاني أنه يطلب منه الدعاء؛ لينتفع الداعي بدعائه له، وينتفع هو، فينفع الله هذا
وهذا بذلك الدعاء، كمَن يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر
على دعاء الله ومسألته، فطلَبُ الدعاء منه جائز، كمن يطلب منه الإعانة بما يقدر
(عليه) ، فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يُطلب إلا من الله، لا من
الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقول لغير الله: اغفر
لي، واسقنا الغيث، ونحو ذلك؛ ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصدِّيق رضي الله عنه:
قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاؤوا إليه،
فقال: (إنه لا يُستغاث بي، إنما يُستغاث بالله) ، وهذا في الاستعانة مثل ذلك.
فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: ٩) ، وفي دعاء موسى عليه الصلاة
والسلام: وبك المُستغاث، وقال أبو يزيد البسطامي: (استغاثة المخلوق بالمخلوق
كاستغاثة المسجون بالمسجون) ، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن
دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (الإسراء: ٥٦) ، وقال تعالى:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... } (آل عمران: ٧٩) [٨]
الآية، فبيَّن أن مَن اتخذ النبيين أو الملائكة أو غيرهم أربابًا فهو كافر، وقال تعالى:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي
الأَرْضِ ... } (سبأ: ٢٢) إلى قوله: { ... وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ} (سبأ: ٢٣) ، وقال: { ... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة:
٢٥٥) ، وقال تعالى: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَليٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} (السجدة: ٤) ،
وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) الآية، وقال تعالى - عن صاحب ياسين -:
{وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ
الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ} (يس: ٢٢-٢٣) الآية،
وقال تعالى: { ... وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: ٢٣) ، وقال
تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه:
١٠٩) ، وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: ٢٨) .
فالشفاعة نوعان:
أحدهما: الشفاعة التي أثبتها المشركون، ومَن ضاهاهم من جُهال هذه الأمة
وضُلالهم، وهي شرك.
والثانية أن يشفع الشفيع بأن المشفِّع الله التي أثبتها الله [٩] لعباده الصالحين؛
ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي، ويسجد
تحت العرش، قال: ( ... فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليَّ، لا أحسنها الآن، فيقال:
أيْ محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطه، واشفعْ تُشفَّع) ، فإذا أذن الله
في الشفاعة شفع لمَن أراد الله أن يشفع فيه، قال أصحاب هذا القول فلا يجوز أن
يشرع ذلك في مغيبه وبعد موته، وهو معنى الإقسام به على الله، والسؤال بذاته؛
فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فرقوا بين الأمرين، فإن في حياته صلى الله عليه
وسلم ليس في ذلك محذور ولا مفسدة؛ فإن أحدًا من الأنبياء لم يُعبد في حياته
بحضوره، فإنه ينهى أن يشرك به، ولو كان شركًا أصغر، كما أن مَن سجد له
نهاه عن السجود له، وكما قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا:
ما شاء الله ثم شاء محمد) وأمثال ذلك.
وأما بعد موته فيخاف الفتنة والإشراك به، كما أُشرك بالمسيح والعزير
وغيرهما؛ ولهذا كانت الصلاة في حياته مشروعة عند قبره منهيًّا عنها، والصلاة
خلفه في المسجد مشروعة، إن لم يكن المصلي ملاقاته، والصلاة إلى قبره منهيًّا
عنها [١٠] .
فمَعَنَا أصلان عظيمان: (أحدهما) أنه لا يُعبد إلا الله، (والثاني) أن لا
يُعبد إلا بما شرع، لا بعبادة مبتدَعة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل
لأحدٍ فيه شيئًا.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) ، فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما
مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف
الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه؛ {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: ٣٦) ، ولا تقُل على الله ما لا تعلمه.
وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله، ولو حلف بالكعبة أو
بالملائكة أو بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام - لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك،
بل يُنهى عنه إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه؛ فإن للعلماء في ذلك قولين،
والصحيح أنه نهي تحريم؛ ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَن
كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمتْ) ، وفي الترمذي عنه أنه قال: (مَن حلف
بغير الله فقد أشرك) .
ولم يقل أحد من العلماء إنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام؛ فإن عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتين، لكن
الذي عليه الجمهور - كمالك والشافعي وأبي حنيفة - أنه لا ينعقد اليمين به
كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح، ولا يُستعاذ أيضًا بالمخلوقات، بل
إنما يُستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته؛ ولهذا احتج على أن كلام الله غير
مخلوق بقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ؛
فقد استعاذ بها، والمخلوق لا يستعاذ به، وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (لا بأس بالرقى ما لم يكن شركًا) ، كالتي فيها استعانة بالجن، كما
قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوَهُمْ رَهَقاً} (الجن: ٦) ، وهذا مثل العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن، وقد نهى عن
كل قسم وعزيمة لا يُعرف معناهما، بحيث أن يكون فيهما ما لا يجوز من سؤال
غيره.
فسائلُ الله بغير الله إما أن يكون مقسمًا عليه، وإما أن يكون طالبًا بذلك
السبب، كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء
والصالحين، فإن كان إقسامًا على الله بغيره فهذا لا يجوز، وإن كان طالبًا من الله
بذلك السبب - كالطلب منه بدعاء الصالحين والأعمال الصالحة - فهذا يصح؛ لأن
دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة
سبب لثواب الله لنا، فإذا توسلنا بذلك كنا متوسلين إليه بوسيلة تبقى عنده، وأما إذا
لم نتوسل بدعائهم ولا بالأعمال الصالحة ... [١١] ، ولا ريب أن لهم عند الله من
المنازل أمرًا يعود نفعُهُ عليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم، ومحبتنا لهم،
وبدعائهم لنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته ونحو
ذلك - فهذا من أعظم الوسائل، وأما نفس ذاته مع عدم الإيمان به، و (عدم)
طاعته وعدم دعائه لنا - فلا يجوز، فالمتوسل إذا لم يتوسل لا بما من المتوسَّل به
ولا بما منه، ولا بما من الله فبأي شيء يتوسل؟ ! [١٢] ، والإنسان إذا توسل إلى
غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي
الرجل أو صديقه أو مَن يكرم عليه: اشفعْ لنا عند فلان، (وإما) أن يسأل - كما
يقال -: بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك.
وقد عُلم أن الإقسام على الله بغير الله لا يجوز، بل لا يجوز أن يقسم بمخلوق
على الله أصلاً، وأما حديث الأعمى فإنه طلب من النبي أن يدعو له، كما طلب
الصحابة رضي الله عنهم الاستسقاء منه صلى الله عليه وسلم، وقوله: (أتوجه
إليك بنبيك محمد) أي بدعائه وشفاعته لي؛ ولهذا في تمام الحديث: (فشفعه فيّ) ،
فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو ما نحن فيه، وقد قال تعالى:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (النساء: ١) ، فعلى قراءة الجمهور [١٣] ،
إنما يتساءلون بالله وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله متضمن إقسام بعضهم على
بعض بالله وتعاهدهم بالله، وأما على قراءة الخفض فقد قالت طائفة من السلف:
هو قولك: أسال بالله وبالرحم، فمعنى قولك: أسألك بالرحم - ليس إقسامًا عليك
بالرحم؛ فإن القسم بها لا يشرع، لكن بسبب الرحم، أي أن الرحم توجب
لأصحابها - بعضهم على بعض - حقوقًا كسؤال (أصحاب الغار) الثلاثة لله عز
وجل بأعمالهم الصالحة.
ومن هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة: (اللهم إني أسالك
بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً
ولا سمعةً، ولكن خرجت اتقاءَ سخطك، وابتغاءَ مرضاتك - أن تنقذني من النار،
وأن تدخلني الجنة) ، فهذا الحديث (عن) عطية العوفي، وفيه ضعف [١٤] ؛ فإن
كان هذا كلام النبي الله عليه سلم فهو من هذا الباب لوجهين: أحدهما أن فيه السؤال
لله بحق السائلين عليه، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم،
وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أحقه على نفسه سبحانه، وتفضل به، وليس
للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئًا، ومنه قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ} (الأنعام: ٥٤) ، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) ،
{وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} (التوبة: ١١١) ، وفي
الصحيح - من حديث معاذ -: (حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به
شيئًا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبَهم) ، فحق السائلين، والعابدين له هو
الإثابة والإجابة، فذلك سؤال له في أفعاله كالاستعاذة، وقوله: (أعوذ برضاك من
سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك) ، فالاستعاذة بالمعافاة - التي هي فعله-
كالسؤال بإثابته التي هي فعله، وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: (يا عبادي، إنما هي أربع: واحدة لي،
وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي هي لي:
تعبدني، لا تشرك بي شيئًا، والتي هي لك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي
بيني وبينك - منك الدعاء، وعليَّ الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فأتِ إلى الناس
ما تحب أن يأتوه إليك) .
وتقسيمه في الحديث إلى قوله: (واحدة لي، وواحدة لك) - هو مثل تقسيمه
في حديث الفاتحة، بحيث يقول الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل) ، والعبد يعود عليه
نفع النصفين، والله تعالى يحب النصفين، لكن هو سبحانه يحب أن يُعبد، وما
يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك؛ فإنما يحبه لكونه طريقًا إلى
عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولاً، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة،
والهداية إلى الصراط المستقيم؛ وبذلك يصل إلى العبادة، إلى غير ذلك مما يطول
الكلام فيما يتعلق بذلك، وليس هذا موضعه، وإن كنا خرجنا عن المراد.
(للفتوى بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))