للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد أبو زيد


خطبة للشيخ محمد أبو زيد

خطبها في الاحتفال برأس السنة الهجرية سنة ١٣٣٩ ... ... ... ...
وفيها اتفاقية الصلح بين الرسول وخصومه
أحمد الله تعالى ثم أقول: في هذا الأسبوع توالت الأعياد الثلاثة: العيد
المصري (عيد النيروز) والعيد العبري، والعيد الهجري، وتوالي هذه الأعياد
يبشرنا بأن الخير سيتوالى على مصر وأبنائها.
***
الحوادث مرجع التاريخ
جرت عادة الأمم على أن تؤرخ بالحوادث، فإذا كانت لها حادثة مهمة جعلتها
مبدأ لتاريخها، انظر العرب قبل الإسلام كانوا يرجعون إلى الحوادث في التاريخ،
فيقولون: عام الفيل، ويوم الحرب الفلانية، وانظر المسيحيين جعلوا تاريخهم حادثة
الشهداء الذين اضطهدهم الرومان وأبوا إلا أن يموتوا ضحية دينهم ومبدئهم.
***
فوائد الاحتفال بالأعياد
وفي الاحتفال بالأعياد فوائد ينبغي لنا أن نراعيها، منها إحياء ذكرى العاملين
وتخليد آثارهم لنقتدي بهم في خلقهم وعملهم، ومنها ارتباط الحاضر بالماضي
ارتباطًا يجدد للأمة قوتها، ويحفظ لها شخصيتها، ومنها تربية الشعور والعواطف
على الاتحاد والتعاون؛ فيشعر كل فرد في الاجتماع بأنه قوي بقوة المجتمعين،
مؤيد بروحهم، وروح الاجتماع معروف تأثيرها في النفوس والأعمال.
ثم من الفوائد كذلك أن تحاسب الأمة نفسها على ما عملته في الماضي وما
تعده للمستقبل، فتنظر كما ينظر التاجر في آخر كل سنة مقدار الربح أو الخسارة،
فإن كان عندها ضعف في الداخلية أو الخارجية، ورأت نفسها قد قصرت فيما مضى
فإنها تتوب إلى الله تعالى وتعمل على تقوية هذا الضعف، وتحترس من أن تقع
في مثله في المستقبل، وإن رأت أنها لم تقصر وأنها قوية متقدمة، فإنها تشكر الله
الذي وفقها، ثم تستزيد من الأعمال الرابحة المقدمة.
***
هجرة النبي حادثة عظيمة
هذا وإن هجرة النبي حادثة عظيمة، إذ كانت سببًا في إحداث إصلاح عظيم
وفتحًا لباب استقلال جديد، وقبل أن أبين هجرته أذكر حكمة إرساله وإرسال من
سبقه من الرسل - صلوات الله عليهم - أجمعين.
***
حكمة إرسال الرسل
خلق الله الناس أحرارًا مستقلين، فاقتضت حكمته - وهو وليهم وإليه يرجع
أمرهم - أن يربيهم تربية عملية تثبت في نفوسهم ما فطرهم عليه من الحرية
والاستقلال، فاختار منهم رسلا ًمربين لا تذل نفوسهم لشهوة أو هوى، ولا تضعف
إرادتهم أمام سلطة أو استبداد، وأرسلهم بالتعاليم الهادية إلى سعادة الدنيا والآخرة.
ولو رجعنا إلى ما كان يدعو إليه كل رسول لوجدناهم متحدين في الدعوة،
وكلهم يدعو إلى التوحيد {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:
٥٩) وفي هذا منتهى العزة للنفوس؛ إذ إنها لا تستعبد إلا لربها الذي يربيها على
نعمه، ويواليها بفضله وإحسانه، والله سبحانه لم يجعل جنسًا عبدًا لجنس، ولم
يفاضل بين عباده إلا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:
١٣) ، فالأكرم عند الله من يتخلق بأخلاق الله، فلا يستبد بالناس ولا ينقص من
حريتهم، والله تعالى قد أرسل الرسل تأييدًا لهذا المبدأ، مبدأ السير بالناس إلى
الحرية لإخراجهم من الاستبداد.
***
موسى الرسول في مصر وصاحب الهجرة
تعلمون حادثة موسى لما أرسله الله لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد فرعون،
قال الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: ٥) .
وما كانت الظلمات إلا السلطات الاستبدادية التي أماتت إرادة القوم، وقضت
على حريتهم وإيمانهم، وما النور إلا الاستقلال الذي فيه يحيا الشعور وينمو الإيمان
وتقوى الإرادة.
كذلك قال الله لرسوله محمد: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: ١) .
***
إيذاء المشركين إياه
إذا علمنا أن الله بعث الرسل لهدم قواعد الاستبداد والظلم، ونشر مبادئ
المساواة والعدل، فإننا نعلم السبب في الإيذاء الذي كان يفعل بهم، والعقبات التي
كانت توضع في طريقهم، وذلك أن المستبدين بالشعب المتحكمين في رقبته يخشون
من كل مبدأ يزلزل استبدادهم، ويخافون من كل عمل يوجد المساواة بينهم وبين
المغلوبين لهم، المقهورين بسلطتهم، فلذا تراهم عندما يشعرون بمصلح يأخذون في
محاربته ويسعون في صده عن سبيله بكل ما يستطيعون.
***
الحيلولة بينه وبين الشعب
ولعلمهم بأن الشعب يتأثر بهذه المبادئ تجدهم يحرصون على أن يحولوا بين
هذا المصلح والشعب، فالشعب المحكوم بالاستبداد مهما جَبُن ومهما ضَعُفت إرادته
فإنه باستماعه مبادئ الحرية وتكريرها على نفسه تنبعث فيه روح العمل لها فيخشى
المستبدون ذلك، ولا يمكنون المصلح منه، وانظر قول الله في أعداء الرسول لما
كانوا يرونه متصلاً بالشعب يتلو آيات القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا
القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: ٢٦) .
***
صبر النبي وقوة إرادته
وأخيرًا تضايقوا منه [١] فرجعوا إلى عمه أبي طالب، وكانت صلته به تحميه
من القتل، فقالوا: قل لابن أخيك يرجع عما هو فيه، وإلا نكون في حل مما نوقعه
به. فلما عرض عليه عمه ذلك تحمس وقال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في
يميني والقمر في يساري ما رجعت عن دعوة ربي حتى أبلغها أو أموت دونها.
فنعمت هذه الروح العالية، وبُعِثَت هذه المبادئ الغالية.
***
سبب هجرته
لما مات عمه تآمر الخصوم على قتله، فأوحى الله إليه بأن يهاجر إلى يثرب
حيث يجد الأنصار والمساعدين فيعمل على تقوية نفسه ونشر مبادئه طوعًا لربه.
في الله والأوطان سعي مهاجر ... لله لم يجبن ولم يتأثم
لم يرض يثرب بعد مكة موطنًا ... إلا خضوعًا للمليك الأعظم
ما زال فيها غاديًا أو رائحًا ... أبدًا يحن إلى الحطيم وزمزم
علم النبوة والمفاخر كلها ... وخلاصة الشرف الذي لم يثلم
علمتنا حب البلاد عقيدة ... لا يعلم الإيمان ما لم تعلم
ولقد هديت من الضلالة أمة ... لولاك لم تنهض ولم تتقدم
وألنت جانبها وصعب شكيمها ... بروائع الآيات لا بالمخذم
وأخذت من ميسورها ما يتقى ... بقليله غيظ الفقير المعدم
وعقدت في عنق القوي ضمانة ... تغني الضعيف عن الظبى والأسهم
كانت هجرته سببًا في أنه قابل ناسًا تمكن من نشر دعوته فيهم وتقوَّى
بنصرتهم، وكان على الدوام يحن إلى دياره التي احتلها الخصوم وأخرجوه منها.
***
مفاوضة في الصلح بين الرسول وخصومه
ذهب الرسول في أربع مائة وألف من أصحابه إلى مكة في السنة السادسة من
الهجرة، كي يزورها ويعتمر فيها، فيشرح صدره بها ويخفف من حنينه إليها،
ولما قرب منها أرسل العيون والجواسيس لتستطلع له حال الخصوم، وتبلغه ما هم
فيه من الاستعداد، ولما شاور الرسول أصحابه قالوا: ما جئنا مقاتلين، فإن منعونا
قاتلناهم. وبايعوه على ألا يفر منهم أحد، فمنعهم الخصوم وحاصروهم، وبعد
مناوشات ومضاربات وقعت بينهم، رأى الرسول أن جيشه لا يقوى على الجيش الذي
أمامهم [٢] ، وأن الصلح خير لهم، فدارت المفاوضات بين الطرفين على إبطال
الحرب عشر سنين، ويباح للرسول أن يأتي مكة في كل عام آمنًا حرًّا.
***
الخصم يملي الشروط ويضع القيود
وقد وضع الخصم شروطًا وقيودًا أملاها بنفسه في اتفاقية الصلح.
***
اتفاقية الصلح وشروطها
قالوا: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فإنا لا نعرف الرحمن من هو،
واكتب: باسمك اللهم. فكتب، قالوا: لا تكتب: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله،
فإنا لا نقر بأنك رسول الله، ولو أقررنا لما منعناك فاكتب محمد بن عبد الله. فكتب،
قالوا: من يأتي منا مسلمًا إليك ترده إلينا، وأما من يأتي منكم إلينا فلا نرده.
فرضي وكتب، قالوا: لا تدخل مكة هذا العام، ولا بد أن ترجع إلى عام آخر لئلا
يتحدث العرب بأن قد ضُغِطَ علينا. فكتب، قالوا: إذا دخلت بعد هذا العام، فتدخل
بسلاح الراكب وتكون السيوف في القرب. فقبل الرسول كل هذه الشروط بعد
تحققه من تشبث الخصوم وتمسكهم بها، وكان الصحابة ينتقدونها ويعترضون على
كل شرط منها، فيقنعهم الرسول بالقبول للحاجة.
وقد اشتد اعتراضهم لما وصلوا إلى أن من جاء إليهم مسلمًا يردونه ومن ذهب
منهم لا يرد إليهم، فقالوا: كيف نرد من يأتي مسلمًا ونحن ندعو إلى الإسلام؟
وكيف لا يرد إلينا من يذهب منا؟ حتى المساواة في ذلك لا نحصل عليها؟ فقال
الرسول: (من ذهب منا فقد أبعده الله، ومن جاءنا ورددناه فالله يجعل له فرجًا
ومخرجًا) يعني هذا تحكم القوي في الضعيف وللضرورة أحكام.
هكذا أملى المشركون شروط الاتفاقية حسب إرادتهم وقبلها الرسول كلها على
ما فيها من الإجحاف ليكون حرًّا في دخول مكة كل عام فيتمكن من الاختلاط
بالشعب، ويبث فيه ما يشاء من المبادئ والتعاليم، ويتمكن من إعداد القوة التي
يحفظ بها الحق، وكان قبل هذا لا يمكن أحدًا من المسلمين أن يجهر بعقيدته خوفًا من
المشركين وفتنتهم وعذابهم وشدتهم [٣] .
***
حكم القرآن في الاتفاقية
وقد أنزل الله في هذه الاتفاقية الآيات المبينة أنها فتح ونصر ومغانم،
قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: ١- ٣) وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (الفتح: ١٨- ٢٠) فتأمل قوله: فعجل لكم هذه، يعني سيكون لهم مغانم كثيرة
من وراء هذه المغانم التي كسبوها بالاتفاقية، وما الاتفاقية إلا باب لتلك المغانم
الكثيرة ووسيلة للوصول إليها، ولقد كان ما وعد الله تعالى، وتحقق نظر الرسول
وأصحابه في صلاحية الاتفاقية؛ إذ تم لهم فتح مكة والاستيلاء علي بلادهم من
جميع جوانبها والتحكم فيها بكل حرية واستقلال بعد سنتين اثنتين من إمضاء المعاهدة
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً
قَرِيباً} (الفتح: ٢٧) ، وقد أفاض بعد ذلك على العالم من مبادئه العالية ما ترون
في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، وبالإجمال كانت هجرة النبي - صلى
الله عليه وسلم - جديرة بأن تكون مبدأ التاريخ الإسلامي، وإنها لحادثة اهتز
العالم لها ونتج عنها الانقلاب الكبير في عالم المدينة وسنة الحرية والاستقلال.
***
اقتداؤنا بالرسول
وإنا نحمد الله إذ قد اقتدينا بالرسول واقتفينا أثره في الهجرة التي هاجرها وفدنا
المصري فاستحق بها فخرًا، ونال من أجلها كرمًا وأجرًا، فالله تعالى يوفقه للأصلح
فيما يتفق عليه لتقدم المصريين وتحرير مصر.
يا مصر إن قلوبنا ونفوسنا ... رهن لديك فلا تخافي واسلمي
مهما استطال عليك جد عاثر ... فالله جارك من عثار مؤلم
فثقي بأن الله بالغ أمره ... والله خير حافظًا من مغرم
انتهت الخطبة
(المنار)
إن هذه الخطبة قد روعيت فيها المناسبة بين معنى العام الهجري وبين حال
مصر السياسية في هذا الوقت، فكانت المناسبة قوية، والمراعاة حسنة وأكثر
الخطبة حقائق، وأقلها معاني خطابية وشعرية قصد بها التأثير الذي يقتضيه الوقت،
كالتفاؤل بتوالي أهل الملل المختلفة. وبعض ما ذكر من فوائد الاحتفال بالأعياد،
ومثل هذا مما يتسامح به في أمثال هذه المواقف، ولكن فيها من مبالغات شعرية لا
يتسامح في مثلها، كالذي ذكره في حكمة إرسال الرسل، ولا سيما تفسيره الظلمات
بالسلطات الاستبدادية، والنور بالاستقلال على سبيل الحصر، وإنما الاستبداد أحد
تلك الظلمات، والاستقلال بعض لوازم ذلك النور، وما كل الأمم التي بعث فيها
الرسل كانت خاضعة لسلطة استبدادية كقوم موسى -عليه السلام - نعم إن الخطيب
قد تلقى عنا في مدرسة الدعوة والإرشاد أن التوحيد يعلي الأنفس ويرفعها حتى لا تذل
ولا ترضى بمهانة، ولا تخضع لسلطة استبدادية، ولكنه بالغ في تصوير ذلك بما ذكر
في الخطبة، وغفل عما قررناه في الدرس في المنار، ولا سيما مقالات ذكرى المولد
النبوي من اتصاف الأمة العربية قبل البعثة المحمدية بالحرية الشخصية واستقلال
الفكر وقوة الإرادة ٠
وجملة القول أن هذه الخطبة كانت فريدة في بابها بمناسبتها لمقتضى الحال،
ولكن من بعض الوجوه، فالمقارنة المقصودة بها غير تامة، ومما أنكرناه من الخطبة
خلوها من الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم -عند ذكره فيها على
كثرته، والموضوع جله ديني، وهذا من تأثير السياسة والأحوال الاجتماعية في
الدين.