للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(البعث والحياة الأخرى)
((تأييد القرآن بالعلم))
كان الذين ألفوا كتب الكلام على طريق فلسفة اليونان النظرية، يرون أن
الدليل على البعث لا يكون إلا سمعيًّا؛ إذ لا يمكن عندهم أن يستدل عليه العقل بأدلة
علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: ٢٩)
وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: ١٠٤)
وغيرها من الآيات، وقد قرأنا في المقتطف الأخير تحت عنوان (يعيدكم مرة
أخرى) ما نصه:
ألف المستر كندي كتابًا عن الفيلسوف نتشه الألماني قال فيه: إن نتشه
ذهب إلى ما ذهب إليه غوستاف لوبون وهين وفلاسفة اليونان من قبلهم، وهو أن
القوى الطبيعية تتوالى وتعود إلى ما كانت عليه، فالعالم الذي يتم عمله تنحل
عناصره، ثم تعود تتركب وتتولد فيه مخلوقات مثل المخلوقات التي كانت فيه قبلاً؛
ولذلك لا يبعد أن يكون الإنسان قد وجد على هذه البسيطة قبل الآن وانقرض منها،
وأن النوع الموجود الآن سوف ينقرض ثم يعود مرة أخرى، وعناصر الشخص
الواحد تعود فتتجمع بعد قرون كثيرة، كما اجتمعت قبلاً ويتكرر ذلك إلى ما شاء الله
ا. هـ.
أما قوله: بوجود إنسان قبل هذا الدور، فقد قال به بعض المسلمين في تفسير
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: ٣٠) أي ناسًا يخلفون من قبلهم، وأما
كون النشأة الأخرى تفنى بعد إتمام دورها الطويل ثم تعود ويتكرر ذلك أبدًا، فيقول
به بعض الصوفية
* * *
(الحريق في الآستانة، والإدارة فيها)
ما أدهشني شيء في مدة إقامتي بدار السلطنة إلا كثرة الحريق، وتقصير
الحكومة في تنظيم مصلحة المطافئ، فلا تكاد تمضي ليلة لا يروع الناس فيها
بنعاب الصائحين: (يا نغين وار، يا نغين وار) أي يوجد حريق، ويذكرون مكانه
ليعلم من كان له فيه دار أو لأحد أقاربه، فيبادر إليها لإخراج من فيها بما يقدرون
على حمله من نفائسهم وكرائم أموالهم، فإنه قلما وقع الحريق في مكان وسلم، بل
تأكله النار وتأكل كثيرًا مما يجاوره قبل أن يأتي الهادمون لهدم ما حوله، فالطريقة
المثلى هنالك لمقاومة الحريق هي هدم البيوت المجاورة للمكان الذي شبت فيه
النار، وقد صار لهم ضرب من المهارة في الهدم لطول المزاولة والإدمان. وأما
إطفاء النيران فما لهم فيه يدان، وإنما ترى عند حدوث الحريق زعنفة من الأحداث،
يعدون سراعًا حاسرين عن سوقهم، يحملون على أكتافهم أدوات، فيغيرون
وينجدون، ولا يسعفون ولا ينجدون، ولا أدري كنه ما يعملون.
يدعي أهل الآستانة أن العرب وغيرهم من العناصر العثمانية لا يقدرون على
الإدارة، كما يقدرون عليه هم ومن يتعلم عندهم من أهل عنصرهم، وأنهم هم
القادرون على ذلك دون غيرهم من العثمانيين، ويا ليت هذا كان صحيحًا، إذًا
لعمرت ديارنا لأنهم هم الذين يديرون حكومتها ولم تخرب ديارهم، بل تكون أرقى
عمرانًا. ولكن ليس في المملكة عمران يمكن أن ينسب إلى حسن إدارتهم، وهم
يقولون اليوم: إن كل ما حل بالمملكة من الخراب أو التقصير في العمران فسببه
شكل الحكومة السابق وهو الاستبداد وقد استبدلنا به شكلاً آخر، وهو ما يعبر عنه
بالدستور.
آمنا بتغيير شكل الحكومة بأخذه من الفرد وإعطائة لجماعة، ولكننا ما غيرنا
الأشخاص بتربية ولا تعليم، ولذلك لم تظهر ثمرة تغيير الشكل بالعمل، ولا في
الضروريات التي لا تتوقف على تخريج نشء جديد في التربية الدستورية والتعليم
الدستوري كإطفاء الحريق.
احترق قصر (جراغان) في العام الماضي، وهو أجمل قصور السلاطين
وأبدعها شكلاً ونقشًا وزخرفًا، بلغت نفقاته على السلطان عبد العزيز ملايين من
الليرات، احترق بعد أن سعى أحمد رضا بك ففاز بجعل مجلس الأمة فيه،
وخصصت الحكومة عشرات الألوف من الليرات؛ لأثاثه ورياشه وجعله صالحًا
لاجتماع المبعوثين والأعيان فيه، ومع هذا كله لم يستعدوا لإطفاء الحريق إذا وقع
فيه، فلما وقع التهمته النار كله، ولم يهتد أحد من خدمه ولا من عسكر الإطفاء
لإطفائها.
كان العقلاء يظنون أن حريق هذا القصر (السراي) البديع الذي أحرق
القلوب، سيكون هو المربي الأكبر لحكومة العاصمة في هذا الأمر، وسيحملها على
العناية بمصلحة الإطفاء عناية تقي جميع بيوت المدينة من تدمير الحريق، وامتداده
عند وقوعه لا معاهد الحكومة فقط، وقد رأينا الحكومة عقب هذه الحادثة تشتري
آلات الإطفاء الحديثة وأدواتها وتجربها، وحضرت تجربة منها في الرحبة الشمالية
من الباب العالي بمشهد الوزراء وغيرهم، بنوا هنالك بيتًا صغيرًا من الخشب،
وأعدوا المطافئ وأوقدوا فيه النار، وأمطروا عليه الماء فلم تغن التجربة، بل أكلت
النار البيت كله.
ثم صرنا أينما جلنا في الباب العالي وغيره من معاهد الحكومة، نرى مطافئ
موضوعة؛ لتستعمل في أي موضع وقع فيه الحريق قبل أن تمتد إلى غيره،
ولكنهم لم يعلموا أحدًا كيفية استعمالها فيما يظهر، فإن العام لم يكد يمر على حريق
قصر جراغان حتى وقع الحريق في قلب الباب العالي حيث مجلس الشورى ونظارة
الداخلية، وظلت النار تأكل فيه أيامًا لم يبق من الباب العالي إلا قليل من طرفيه،
وفي أحدهما مكان الصدر الأعظم وفي الآخر نظارة الخارجية، فكانت العبرة في
ظهور عجز الحكومة عن الإصلاح، وضعفها في الإدارة أقوى في هذا الحريق منها
في الحريق الذي سبقه، وكنا نظن أن اتقاء أسباب الحريق سيمنع وقوعه في معاهد
الحكومة بعد هذه العبرة ولكننا قرأنا في الجرائد قبل صدور هذا الجزء؛ أن الحريق
قد وقع في نظارة النافعة وأكلت النار بعض الغرف فيها.
أول ما يخطر في بال كل معتبر بهذه الحوادث؛ أن هؤلاء الحكام لا يرجى
منهم إحسان الإدارة في شيء، ما داموا عاجزين عن منع الحريق أن يدمر كل يوم
في عاصمتهم؛ لأن من عجز عن منع استمرار الخراب في داره كان عن تعمير
الدور البعيدة أعجز.
وأما أهل العبرة والبصيرة من علماء الأخلاق وطبائع العمران، فإن أفكارهم
تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كاستبانة سبب العجز عن أمر سهل كهذا، يقول
بعض الناس: إن الشعب التركي شعب حربي، ليس له ملكة في الإدارة والعمران،
وإنما ملكته الموروثة هي الحرب فقط، وقد يقال: إن إطفاء الحريق قد صار في
هذا العصر من فنون العسكرية، فما بال القوم لا يتقنون هذا الفن منها! !
ومما تذهب إليه أفكار هؤلاء المستبصرين؛ أن رجال حكومتنا ليسوا مستقلين
أو مجتهدين فيما يأخذونه عن أوربا من نظام الإدارة والقضاء وغير ذلك، وإنما هم
مقلدون للأوربيين تقليدًا، وإنما يأتي الإصلاح من المستقل دون المقلد الذي يخطئ
في الفهم أكثر مما يصيب، ويخطئ في التطبيق أكثر مما يخطئ في الفهم، وقد
أشرنا إلى هذا المعنى في مقدمة مقال (المسلمون والقبط) في هذا الجزء، فليرجع
إليه من أحب التوسع في هذه العبرة، وهي الغرض الذي نرمي إليه في هذه النبذة.
وجملة القول: إننا لا نبشر أنفسنا بصلاح حال حكومتنا بالفعل إلا بعد أن
تتقن هذه المصلحة اليسيرة المضطرة هي إليها في عاصمتها؛ وهي مصلحة
المطافئ، فتكون في الآستانة متقنة كما نراها في مصر، وعسى أن يكون ذلك
قريبًا.
* * *
(الفتنة في اليمن)
اشتدت الفتنة في اليمن وطال عليها العهد، وقد أرسلت الدولة إلى اليمن
بالخميس العرمرم، وجعلت عزت باشا رئيس أركان الحرب في نظارة الحربية هو
القائد العام للجيش هنالك؛ لأنه قد سبق له الحرب في اليمن، وكان الإمام قد أسره
ثم أنقذه فيضي باشا، وقد اجتمع هذا القائد في جدة بأمير مكة المكرمة الشريف
حسين بأمر من الآستانة، واشتهر أنه اتفق معه على طريقة التعاون على إخضاع
اليمانيين للدولة، وذلك بأن يزحف الأمير بجيش من العرب وكذا العسكر المنظم
الذي في الحجاز كما قيل على عسير؛ لمحاربة الإدريسي وإخضاعه ليتمكن القائد
من توجيه جيشه الزاحف كله إلى محاربة الإمام يحيى، عسى أن ينتهي أمر الفتنة
في وقت قريب، وهذا هو الرأي بعد أن صارت الحرب ضربة لازب في نظر
الدولة.
كان قد أشيع أن بين الأمير والإدريسي عداء، وأن الأمير سيحاربه بعد
عودته من نجد في العام الماضي، ويظن بعض الناس أن هذا هو السبب في
استعانة الدولة بالشريف على الإدريسي؛ لأنها ترى أنه لا يدخر وسعًا في التنكيل
به متى قدر، كما يظنون أن سبب إرسالها عزت باشا إلى محاربة الإمام هو أنه أشد
من غيره كراهة له. ويرد عن هؤلاء الظانين ظن السوء بأن سبب اختيار عزت
باشا هو معرفته بأرض اليمن واختباره البلاد بالفعل، وسبب الاستعانة بالشريف هو
أن يكفيها إرسال العسكر الكثير وإنفاق المال الكثير، وهي تعلم كما علم كل الناس
الذين علموا ما كان منه في نجد أنه يفضل السلم على الحرب، والحلم والعفو على
الانتقام، والخير للدولة إنما هو في حل هذه العقدة حلاً مرضيًا لا دخن فيه، ولا
تحذر عقباه ومغبته، ونحن نرى أن هذا الأمر ممكن لمن أراده بصدق وإخلاص،
كما أنه كان ممكنًا بغير دماء تسفك، ولا قناطير من المال تبذل. ولكن هكذا كان،
والواقع ينسخ الإمكان، ويتمنى كل مسلم لو تنتهي هذه المسألة عاجلاً بسلام،
ويكفي الله المؤمنين القتال، والرجاء في حكمة الأمير كبير، والله أكبر، وله الأمر
من قبل ومن بعد.
* * *
(اليهود في المملكة العثمانية)
خبرنا الآستانة بإقامتنا فيها سنة كاملة، فرأينا أن نفوذ اليهود في جمعية
الاتحاد والترقي عظيم، وأن ناظر المالية إسرائيلي النسب، وأنه جعل كاتب سره
وكثيرًا من موظفي نظارته من اليهود، فعلمنا أن سيكون لليهود شأن أي شأن في هذه
المملكة، وآمالهم في القدس وفلسطين معروفة، ومطامعهم المالية في المكان يعظم
نفوذهم فيه غير مجهولة، وقد أشرنا إلى ما يخشى من مغبة ذلك في أجزاء من
السنة الماضية، ثم جاءت أنباء مجلس الأمة العثمانية في هذه الأيام مصدقة لما قلناه
ومثبتة ما توقعناه، فقد خطب بعض النواب المستقلين والمعارضين للحكومة خطبًا،
بينوا فيها خطر جمعية اليهود الصهيونية على المملكة العثمانية، وخطبًا أنكروا فيها
على ناظر المالية بيعه أحسن موقع عسكري في الآستانة لشركة أجنبية بثمن دون
ثمن المثل بسمسرة بعض اليهود، وهم يرون أنه يمكن بيع ذلك المكان بأضعاف
ذلك الثمن، وقد دافع الصدر الأعظم في المسألة الأولى عن الحكومة وعن اليهود،
ودافع جاويد بك عن نفسه في الثانية، ونحن لا نتعرض للمحاكمة والترجيح بين
المجلس والحكومة وحزبها، وإنما ننبه الناس للتأمل والاعتبار.
* * *
(المؤتمران المصريان القبطي والإسلامي)
يرى القراء مقالة في هذا الجزء عنوانها (المسلمون والقبط) ، سيتلوها
مقالات أخرى في موضوعها، وقد كان تأثير المؤتمر القبطي الذي اجتمع في
أسيوط أن أيقظ مسلمي مصر من نومهم الاجتماعي، ونبههم إلى ما كانوا غافلين
عنه، وفتح لهم بابًا لحفظ مصالحهم ودرء الضرر عنهم كان مغلقًا في وجوههم من
قبل؛ لأن القبط كانوا أوسع حرية منهم، وأكثر انتفاعًا بالحرية مطلقًا بإجماعهم
على تأييد الاحتلال، وكونهم نصارى وقليلي العدد لا يخشى المحتلون جانبهم،
ولذلك لم تمنعهم الحكومة من مؤتمرهم، ولم يكن يخطر لها ولا لهم ببال أن يقوم
المسلمون بعقد مؤتمر آخر على أنه نتيجة طبيعية لذلك المؤتمر، فلما أرادوا ذلك لم
يكن من الممكن أن تمنعهم الحكومة، وقد اختاروا رياض باشا رئيسًا له، وهو الثقة
الأمين المعروف عند الوطنيين والإفرنج بالاعتدال والإخلاص.
من العقل والحكمة أن يغتنم القائمون بأمر هذا المؤتمر الفرصة؛ لخدمة
المسلمين فيما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالشؤون الاقتصادية والأدبية، وأن
يكون كالمجلس الملي للقبط في البلاد مع المسلمين، بإحصاء المستخدمين منهم في
الحكومة وفي مصالح المسلمين ومزارعهم وسائر أعمالهم، ويظهر للمصريين
والأوربيين أن القبط رابحون على المسلمين، وأنهم إذا نالوا ما يطلبون لا يبقى
للمسلمين حظ في حكومة مصر، وأن ذلك يكون سيئ العاقبة، ولا سيما بعد جهرهم
بإيذاء المسلمين، وبعد هذا البيان يدعون القبط إلى الوفاق المعقول المبني على سنن
الاجتماع، فإن رضوا فبها ونعمت وإلا أعرضوا عنهم، وقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ} (الشورى: ١٥) .
ينبغي أن لا يشتغل هذا المؤتمر بالسياسة لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا قولاً ولا
عملاً، ينبغي أن تكون اللجان التي تنتخب المندوبين له دائمة، وأن يكون أهم
أعمالها الدائمة إحصاء ديون المسلمين وأطيانهم المرهونة، وبيان تصرفاتهم المالية؛
لينظر المؤتمر آنًا بعد آن في طرق إنقاذهم من ضرر الربا وسوء التصرف
والإسراف الذي يكاد يذهب بثروتهم، ويجعلهم عالة على عدد قليل من الأغنياء
وأصحاب المصارف والشركات المالية، وفي ذلك من الخطر على البلاد ما فيه،
يجب أن يكون من عمله الدائم مساعدة الجمعيات الخيرية على عملها في التعليم
وإعانة المعوزين، وتعميم النقابات الزراعية في البلاد.
إن الأحزاب السياسية قد شغلت المسلمين عن الترقي الحقيقي بالعلم والتربية
الملية والمال، فاغتنمت القبط فرصة اشتغالهم بنطح صخرة الاحتلال ووجدوا في
التربية القبطية، وتوفير الثروة القبطية، إلى أن طمعوا بما أجمعوه في مؤتمرهم
هذا، فليشتغل هذا المؤتمر بهذين الأمرين ولا يعارضه أهل السياسة، فإن عمله
ينفعهم ولا يضرهم.