علم مما تقدم أن الأمور الغريبة التي تسمى خوارق عادات وعجائب منقولة عن جميع الأمم فهي واقعة حتمًا، ومنقولة بالتواتر اللفظي وبالتواتر المعنوي، وإن ادعاها كثيرون من الناس كذبًا وتعمَّلوا للاشتهار بها تعملاً. ثم إن هذه الأمور على ضربين: ضرب عرف عن أهله أنه صناعي يتوصل إليه بالعلم والعمل كالسحر والشعوذة، فهو من الخوارق بالنسبة إلى الذين لا يعرفون طريقه ولم يقفوا على عِلَله قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: ١٠٢) وقال عز وجل: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: ٦٦) أي: والحقيقة خلاف ذلك التخيل وقال: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: ١١٦) وقال - حكاية عن فرعون -: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (طه: ٧١) وضرْبٌ عُرِفَ عن أهله أنه ليس له طريق صناعي يوصل إليه العلم، وإنما هو وراء الأسباب والثابت القطعي من هذا القسم آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم الكلام عليها في المقالة الأولى وفي الأمالي الدينية ومنه ما يدعيه أو يُدَّعى لكبار رجال الدين من أهل الملل والكلام فيه، والمقصود منه بالذات ما عندنا معشر المسلمين وقد ذكرنا حجج مثبتي الكرامات وحجج منكريها وأوردنا ما رواه المثبتون من الكرامات المأثورة عن الصحابة والتابعين، وبينا ما صح منها وما لم يصح فليراجع كله في المجلد الثاني من المنار. وإننا نختم القول في مبحث الكرامات بمسائل أكثرها مستفاد من المقالات السابقة، وهذه المسائل هي خلاصة رأينا في الموضوع فمن أنكر علينا منها شيئًا فليكتب إلينا مدليًا بحجته، ونعده بأننا ننشر ما يكتب بمعناه أو بلفظه إذا كان صحيحًا ومختصرًا وغير خارج عن محل النزاع استطرادًا إلى مسائل أخرى. فإن كانت الحجة ناهضة سلمنا وإن كانت داحضة بيَّنَّا. ولا ينبغي لأحد أن يرد علينا في الموضوع إلا بعد الاطلاع على المقالات التسع؛ لئلا يبحث في شيء سبق بيانه فيُهمَل كلامه: (المسألة الأولى) إن الأصل في كل ما يحدث في الكون أن يكون له سبب وأن يجري على سنة من سنن الله تعالى في الخلق، وهذه الأسباب مطردة متى تمت شروطها (كما قال الغزالي) وتلك السنن ثابتة لا تبدل ولا تحول كما علم بالمشاهدة والاختبار وبنص القرآن، فهي مسألة اتفق فيها الحس والعقل مع نصوص الشرع، فهي قطعية. (المسألة الثانية) إن من قضايا العقول - التي نصها علماء الأصول - أن الظن الراجح لا يعارض العلم اليقين وأيد هذا القرآن أيضًا بمثل قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: ٢٨) وقوله عز وجل: {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: ٢٤) وغير ذلك من الآيات الواردة في إبطال عقائد أهل الزيغ والجحود. (المسألة الثالثة) أجمع العلماء من الأصوليين والمحدثين على أن روايات الآحاد العدول الثقات كالصحابة وأئمة التابعين المعروفين ومن عُرف بالصدق وحسن السيرة مثلهم لا يفيد أكثر من الظن، وأجمعوا على أنه إذا روي عنهم ما يخالف المعقول القطعي والمنقول القطعي كنص القرآن فإنه لا يعتد بالرواية ولا يعول عليها إلا أن يوفق بينها وبين القطعي منقولاً كان أو معقولاً فقط. (المسألة الرابعة) إن العجائب والخوارق قد نقلت عن جميع الأمم فليس من الصواب التفاضل بينها وادعاء أن بعضها على حق وبعضها على باطل بسبب ذلك وإنما يجب تمحيص النقول وتحريرها فإن الناس مولعون أشد الولع بالغرائب، وأكثر ما يتحدثون به منها كاذب. (المسألة الخامسة) كما يجب تمحيص النقل والرواية يجب تمحيص المرويّ المنقول من الغرائب؛ ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار أو خداعًا للأبصار أو الأفكار. (المسألة السادسة) قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تسمى خوارق وكرامات، فإذا علم بعد تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا محالة، فينبغي الرجوع لالتماس الأسباب من مظانها في العلم الطبيعي وعلم النفس فإن لم يظهر له سبب يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يؤوَّل إليه فهو الذي يصح أن يسمى خارقة أو أعجوبة والنظر فيه من وجهين: حال مَن ظهر على يده، وإمكان قياسه على غيره. (المسألة السابعة) لثبوت الخارقة - على ما ذُكر - طريقان: الحسّ السليم والتواتر الصحيح وكلاهما عسر جدًّا؛ لأن الحواس تُخدع حتى تكذب صاحبها فيما ترى وتسمع، وأمر التواتر أبعد في العسر وصعوبة التحقق فإن من شرطه أن ينتهي إلى حس محقق باليقين، وقد علمت أن الحس يخدع في هذا المقام. ومنها أن يكون الناقلون لذلك الخبر المحسوس جمعًا يستحيل في العقل السليم تواطؤهم على الكذب وانخداعهم بما أدركوه بحسهم وأن ينقل عنهم مثلهم في كل طبقة من الطبقات وإنك ترى أكثر الناس يسمون الأمور المشهورة بينهم متواترة، لا سيما إذا كثر تحدث الناس بها فإذا استقريت حلقات سلاسل الروايات وجدتها كلها معلقة في آخرها بحلقة واحدة أو حلقتين أو ثلاث مثلاً. وما انتهى إلى واحد أو آحاد فهو خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، وربما رجحتَ الكذب في أكثر الغرائب المشهورة التي يسمونها متواترة. الحق أن الإنسان متهم طبعًا بإذاعة كل غريب لا سيما إذا صادف هوى في النفس أو طابق التقاليد والاعتقادات المسلّمة. فالحمد لله الذي جعل آية نبينا بينة قائمة على وجه الدهر محفوظة من المعارضة والنقض مادامت السموات والأرض. (المسألة الثامنة) إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم طلاب مال، وطلاب جاه وأنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق ومفاتح الخير، أو الجمع بين الأمرين حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم! كما قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم وهي: (إن لله عبادْ، إذا أرادوا أرادْ) ! (هكذا يقولونها بالوقف على العباد على لغة ربيعة) . وينقلون عنهم من مثل هذه الجرأة على الله تعالى كلمات كبيرة وأشعارًا وأغانٍ تختلب قلوب العامة. وفي كتب العقائد التي تُقرأ في الأزهر وغيره من المدارس الدينية (كحواشي الباجوري على الجوهرة والسنوسية) أن خوارق العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار والفساق، وتسمى إذا صدرت من هؤلاء على نحو ما يحبون (استدراجًا) ؛ لأنها تغرهم بما هم فيه من الباطل فيسترسلون فيه حتى لا مطمع في هدايتهم، وإذا ظهرت على يد مستور الحال تسمى (معونة) . ويخصون اسم الكرامة بالخارقة التي تكون للمتمسك بالشريعة اعتقادًا وتخلقًا وعملاً في الظاهر والباطن. وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء العلماء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه، وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل من الفضائل والمنافع العامة والخاصة بقدر الاستطاعة. ونحن نرى العامة يبيحون لمن يجري على يديه شيء من الغرائب جميع المنكرات، فهم يحكّمون خوارقه في حاله من الاعتقاد والعمل، والعلماء يحكّمون حاله في خوارقه، فقد تناقض اعتقاد العامة مع اعتقاد العلماء ولا نرى أحدًا منهم ينكر على الآخر ولا يجذبه إليه؛ لأن حرية الإسلام قد انقلبت إلى فوضى بعد ذهاب منصب الخلافة وتولية الجاهلين بالدين أمور المسلمين! (المسألة التاسعة) مَن رأى بعينه خارقة للعادة أو نُقلت إليه بطريقة التواتر الصحيح وعرف أنها لم تكن خداعًا ولا تخييلاً وعلم أن من ظهرت على يديه ليس من أهل التلبيس والشعوذة، ولا من طلاب المال والجاه واستمالة القلوب إلى الاعتقاد به، وصعب عليه أن يحملها على وجه من وجوه التأويل الآتية - فإن له أن يقيسها على ما عرف تأويله بأن يقول: إن كثيرًا من الغرائب وخوارق العادات المألوفة قد كان يظن أنها خارجة عن نظام الخليقة وسنن الكون ومنتثرة من سمط الأسباب التي تنتظم بها المسببات ثم ظهر أنها لم تكن شاذة عن تلك السنن الإلهية، ولا نادَّة من دائرة الأسباب الكونية، وهذا الذي أراه الآن هو مثل تلك في ذاك الزمان، فيجوز أن يظهر له مثل ما ظهر لها من السبب، وتزول الغرابة ويبطل العجب، وهذا الرأي هو الذي عليه جميع العقلاء والحكماء في هذا العصر وإنهم ليتوقعون ظهور علل جميع الغرائب التي حدثت في العالم حتى معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (المسألة العاشرة) إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يُؤثَر من المعجزات عللاً روحانية وأسبابًا خفية فلا يَهِمَنَّ واهِمٌ أن ذلك قدح في النبوة، أو ظهور لبطلانها. كلا، إنه إن تحقق فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية النبوة؛ كأن يتبين أن الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي يسمى الملائكة قوة العلم والهداية وقوة الأعمال الغريبة كإحياء الموتى وقلب العصا حية. فإن لم يتبين به صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يدَّعون أن الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه الظاهرة والخفية، وما كانوا يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه بمشيئتهم وإرادتهم متى شاءوا وكيفما شاءوا وإنما كانوا يتبرؤون من حولهم وقوتهم ويسندون ما يؤيدهم الله سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان اعتمادهم في دعوتهم إلى الله على البرهان وكانوا لا يُعطون الآيات إلا بعد معاندة ومجاحدة من قومهم وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم السببية، وكان الله تعالى يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها، ولم تكن هي العمدة في إثبات الدعوة إلى الله وبيان وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: ٩ - ١١) . فهذه هي سنة الله في الأنبياء والأمم، يدعو النبي قومه إلى الله بالبينة وهي كل ما يتبين به الحق من برهان عقلي ودليل إقناعي فيطلبون منه آية كونية فيتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته فيعطيه آية يخوفهم بها فيخضع له المستعد لقبول ذلك ويعاند الآخرون فتحق عليهم كلمة العذاب قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: ٥٩) فإذا فرضنا أن العلم أظهر سببًا معقولاً لآيات موسى عليه السلام فهل ينافي ذلك أنها كانت تخويفًا لفرعون وقومه، وجاذبة لبني إسرائيل إلى طاعة موسى بالإرهاب اللائق بأمثالهم في بلادتهم وجفوتهم؟ نعم، إن ما يتوقع كشفه بالعلم سيكون القاضي على بقايا دين لا يُحْتَج على صحته إلا بالعجائب وليس لأصحابه برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر في صحة كتابهم، أولئك الذين ينعقون في كل بلاد إسلامية: إن القرآن لم يُثبت لمحمد (عليه أفضل الصلاة والسلام) العجائب والخوارق فهو ليس بنبي ودعوته ليست صحيحة، فالعلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية والحربية والسياسية وتكوين الأمم وتربيتها من رجل أمي تربى يتيمًا في جاهلية جهلاء وأمة أمية لا يرونه تأييدًا إلهيًا، وبرهانًا على صدقه قطعيًا، وإنما البرهان عندهم تلك الحكايات التي ينقلونها في عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها. (المسألة الحادية عشرة) يؤيد ما ذكرناه في معني آيات الأنبياء، وكونها لم تكن براهين لإثبات الدين ما جاء في الباب الثالث عشر من تثنية الاشتراع آخر أسفار التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهو: (١) إذا قام في وسطك نبي أو حالم حُلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة. (٢) ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها. (٣) فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم. وما جاء في الباب السابع من إنجيل متى وهو: (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة (٢٣) فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) . وفي الباب (٢٤) منه: (لأنه سيقوم مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا) . فعلم من هذا أن اليهود والنصارى يجب أن يوافقوا علماء الكلام من المسلمين على أن الخوارق الكونية ليست دلائل برهانية قطعية على أصول الدين وعقائده وصدق دعاته كما أوضحنا ذلك في الدرسين ٢٩ و٣٠ من الأمالي الدينية (راجع ص٣٧١ و٦٨٨، م٤) وقد اختلف المتكلمون في دلالة المعجزة على النبوة هل هي عادية أو عقلية أو وضعية؟ وقد رجح الأخير بناءً على أنها بمعنى تصديق الله لهم بالقول. (المسألة الثانية عشرة) سبق في المقالات الأولى أن أصحابنا فرقوا بين معجزة النبي وكرامة الولي بأن الأولى لا بد أن تكون مقرونة بدعوى النبوة، وطلب المعارضة الذي يسمونه التحدي. والثانية لا تكون كذلك وبأن الأولى يجب إظهارها لإقامة الحجة، والثانية يجب إخفاؤها خوف الفتنة، وزاد بعضهم كالقشيري من أئمة الصوفية والسبكي في الطبقات الكبرى أن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة كإحياء الموتى، وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مرض ومكاشفة خلافًا للقول المشهور (ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي) ! ، ولقائل أن يقول جمعًا بين القولين: إذا جاز ذلك في تصور العقل فإنه ما وقع ولا يقع بالفعل. (المسألة الثالثة عشرة) قال الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية إن خارق العادة لا يتكرر فإن كل ما يتكرر يكون معتادًا سواء عرف سببه أو لم يعرف. وهذا القول معقول وهو يقضي القضاء المبرم على تلك الزحوف والفيالق من حكايات الكرامات التي يحارب بها العامة عقلاء الناس الذين لا يستخذون ويخنعون لأولئك الجهال الذين يدعون الولاية بحجة أنهم في كل يوم يخبرون الناس بالمغيبات ويبرؤون المرضى من الأسقام ببركاتهم ونحو ذلك. ويسمون هذا على تكراره كل يوم كرامة وما هو بكرامة وإنما بعضه كذب واختلاق وبعضه واقع بالأسباب التي سننبه عليها؛ ولكنه أسند إلى غيرها أو ادَّعى فيه الكرامة. ... ... ... ... (للمسائل بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))