كتب إلينا غير واحد يسألنا عما جاء في مقالة: (القول الفصل) المدرجة في العدد الثاني من جريدتنا، من تخطئة الذين يستعينون بالأموات من العلماء والصلحاء على قضاء المصالح واجتناء المنافع، وقولنا في هذا البحث: (ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ، وتقديم هدايا الفواتح) هل يتضمن هذا القول إنكار كرامات الأولياء أو يلحق بهم شيئًا من الغضاضة، هل فيه إنكار لقراءة الفاتحة أو غيرها من القرآن للأموات؟ والجواب: معاذ الله أن نرمي بكلامنا إلى غمط حقوق أولياء الله تعالى أو ننكر ما أكرمهم الله تعالى به من فضله. وليس كلامنا ذلك في هذا الموضوع، وإنما هو بحث في الأسباب التي بها أناط الله تعالى أمور الكون، ولا شك أن الاستعانة بالأموات على قضاء الحوائج ليس من الأسباب التي سنها الله تعالى لذلك، ولم يقل أحد من أئمة الدين ولا من العقلاء بسببيته، أما نبذ العقل له فظاهر، وأما رفض الشرع له فيدل عليه الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وأكتفي الآن من الكتاب العزيز بقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) ، فهو نص صريح في أنه لا يستعان إلا بالله تعالى، ومن السنة بخبر (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) ، وأما سيرة السلف الصالح فلم يُنْقَل عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يأتون قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويقبلون عتبة الحجرة ويقولون: يا رسول الله أهلك فلانًا عدوي، وانتقم من فلان ظالمي، وأهلك الدود من زرعي، واشف داء قريبي، وقرب وصال حبيبي، كما نراه ونسمعه من جهة العوام عند قبر السيد البدوي وقبر الإمام الحسين (رضي الله تعالى عنهما) ، بل إن المطالب التي تصدر من هؤلاء تتجاوز هذا الحد، فإنهم يطلبون من الأولياء المستحيلات العقلية، والمنكرات الشرعية التي لا يجوز أن تطلب من الله تعالى. وقد أدى بهم الإهمال وعدم اشتداد العلماء بالإنكار إلى مروق بعضهم من الدين، كما يمرق السهم من الرمية. وكل ذلك معلوم عند السائلين. وأما قولنا: (ويستنهضون هممهم ... إلخ) فهو تمثيل لحالتهم التي يحاكون بها معاملتهم للحكام الظلمة بتقديم الهدايا والرّشى أمام أعراضهم، وقد فاتنا أن نقول: ويرشونهم بالشموع والدراهم ونحوها. وأما مسألة قراءة الفاتحة ونحوها للأموات، فليست مما نحن فيه، وخلاف العلماء في انتفاع الأموات بالقراءة مشهور، وأكثرهم يقول بعدمه؛ لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) ، وبعضهم يقول بإثباته؛ لأدلة قامت لهم، ولا مجال هنا للجولان في هذه المسألة، ثم لا شك أن الأولياء والصلحاء لا يرضون بهذه المنكرات التي يأتيها المعتقدون بهم من غير علم ولا بصيرة، سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، ومن انتصر للشريعة فعرف المعروف وأنكر المنكر فهو المحبوب المرضي عندهم، وسكوت الكثير من المتسمين بسمة العلم والصلاح عن الإنكار لزعمهم أنه أدب مع الأولياء، لا ينهض حجة على أن المنكر صار معروفًا، فإن إمامنا السنة والقرآن، لا صاحب الأردان الواسعة والطيلسان، وإن لنا لعودة إلى هذه المباحث نفصل فيها ما أجملنا، ونسهب بما أوجزنا، ولعل الموعد يكون قريبًا. اهـ ما اخترناه من العدد الرابع.