وكتاب الدعوة الإسلامية أرسل محمد سعيد بك مكاتب جريدة أقدام التركية في لندن مقالة إلى جريدته في الآستانة اقتبسها عن فصل لمجلة الشرق الأدنى الإنكليزية نشرته بمناسبة صدور كتاب الأستاذ أرنولد الذي سماه الدعوة الإسلامية Islam of Preachrng The ونحن نترجم هذه المقالة عن جريدة أقدام وهذا نصها: كان للكتاب الجديد الذي أصدره الأستاذ أرنولد وقع عظيم عند الراغبين في درس أحوال العالم الإسلامي؛ لأنه بينما كانت الكتب التي سبق انتشارها بشأن الشريعة الإسلامية وصاحبها مملوءة بالأكاذيب والأغلاط إذا بكتاب الأستاذ أرنولد قد كشف النقاب عما فيها من البهتان بما امتاز به كتابه من التحقيق. وقد أبان هذا الكتاب أحوال الإسلام منذ ظهر في أم القرى إلى أن عم أقطار الدنيا فكان دينًا عامًّا للناس أجمعين، وإن فيه من الفصول النافعة عن كيفية انتشار الإسلام بين العرب فالأتراك ما يصح أن يكون تأريخًا لهذا الدين. وإن الأستاذ أرنولد قد دحض بمتانته وبلاغته وحكمته تلك الفرية التي اخترعها بعض المسيحيين المتعصبين عن انتشار الإسلام بالسيف في بدء ظهوره حتى قال في رد ذلك: إن الإسلام لم يستعن بالسيف بقدر ما استعانت النصرانية بالنار والمال. ثم قال: وإن خرافة السيف هذه التي يذكرها المتعصبون من النصارى بحدة وتحمس ليس لها أصل في الحقيقة؛ لأن التقاليد التي جرى عليها الإسلام والحكمة العامة التي جاء بها القرآن دائرتان حول تعويد البشر السلام والصلاح، والإسلام دين من السهل نشره، وقد أرشد محمد صلى الله عليه وسلم كل المسلمين إلى ضرورة السعي لهذه الغاية بتعليمه إياهم أن يعلموا غيرهم ما يعلمونه. وهذه الهداية النبوية قد عملت في نشر الإسلام ما لا تعمله قوة السياسة والجيش، ونحن نرى الآن كيف أن الحكومات الإسلامية قد أشرفت على الهلاك ومع ذلك كان الإقبال على الإسلام أعظم من الإقبال على أي دين آخر، والداخلون فيه يزداد عددهم يوما بعد يوم، وهذا يظهر للباحث من النظر في أبسط الإحصائيات، وفي هذه الأمور ما يدلنا على أمر قطعي وهو أن الإسلام قام على أساس قوة حكمية معنوية لا يحتاج معها إلى قوة مادية لنشر دعوته. ومما يدعو إلى الحيرة والعجب أن كل انتصار كان للعرب في حروبهم وكل استيلاء كان لهم في فتوحهم لم يكن شيء منه في شكل حرب دينية إلا أن هذا العمل العظيم الذي قام به العرب لم يكن مما يسر أولئك المسيحيين فصوروه بالصورة التي شاءوها له وتوجهت أنظار كل مؤرخيهم إلى أن الإسلام انتشر بقوة السيف، أما الوسائل الأخرى التي كانت للإسلام في انتشاره فكانت مجهولة عند أولئك المؤرخين. الحقيقة أن الجيش العربي لم يطرق ديار فارس وبيزانس ليغير دين سكانها، بل إن مسألة الدين كانت آخر شيء يخطر على بال الجيش العربي. الباعث الحقيقي على تلك النهضة العربية العامة هو أن هذه الأمة الشجاعة النشيطة قد أحست وهي في البادية بحاجتها إلى التبسط في الثروة والعمران فدفعتها هذه الحاجة إلى ممالك جيرانها وكان اندفاعها عامًّا ومنتظمًا وكانت حركته مسيرة بالتأثير الطبيعي الذي لتلك الحكومات الملهمة في المدينة المنورة، وهذه الحكومة أسست بحكمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخذوا الهداية عنه فعاش بها الإسلام إلى اليوم وسيبقى بها دينًا رسميًّا عامًّا عائشًا إلى الأبد، ونحن إذا نظرنا في الأمر نظرة إنصاف يتبين أن انتشار الدين الإسلامي لم تساعد عليه نهضة ذلك الجيش العربي الفاتح. وإن نصارى الشرق بعد الفتح العربي كانوا متمتعين بحرية الدين الحقيقية الزاهرة إلى حد أن النصارى الشرقيين كانوا يرجحون العيشة في الإدارة الإسلامية لما رأوا من أن الحرية المذهبية عند بني دينهم في الغرب كانت لفظًا مجردًا عن معناها الصحيح. الدين الإسلامي دين منطقي فطري منزه كل التنزه عن الأساطير والخرافات، وهو قائم على الأحكام الصادرة من أرباب العقول السليمة بدون غرض، ولهذا صار الإسلام مقبولا في كل الأقطار. ومن الناس من يزعم أن الإسلام ليس دينًا اجتماعيًّا ولكن الأستاذ أرنولد يدحض هذا الزعم بقوله: الإسلام دين عملي جاء بالهداية الحكيمة لكثير من الفلاسفة والشعراء والعلماء الإلهيين والحكماء وقد مر على هذه الأرض زمان كادت تختنق فيه بظلمة الجهل فأدركها الإسلام بمدارسه الجامعة، ومن ذا الذي ينكر الفوائد العظمى التي نالتها أوربة من هذه المدارس الإسلامية ومما بعثته إلينا من العلوم النافعة والفلسفة؟ وإذا شاء القارئ دليلاً أعظم من هذا نقول له: حسب الإسلام أن يكون منزهًا عن نقيصة الرهبانية وعن مهنة التبشير والرئاسة الدينية، أما الدعوة إلى الإسلام فهي واجبة على كل مسلم لا في مقابل أجرة من متاع الدنيا كما هي الحال في النصرانية بل في سبيل الله ولله، والفرق بين الدعوتين ظاهر. وإن الدعوتين تظهران بما لهما من الأثر في أفريقية، فالدعوة إلى الإسلام يقوم بها هناك التجار المسلمون وإن لهؤلاء التجار فضلاً حقيقيًّا في القضاء على تجارة الرقيق كما أن لهم الهمة العالية في نشر الإسلام، وإنما يقاومون عادة الرق؛ لأنه يؤلمهم أن يباع إخوانهم المسلمون كما تباع السلع........ ويرون هذا منافيًا لرابطة الإخاء، ولذلك كان النجاح الحقيقي في منع الرق من إفريقية من نصيب الإسلام. وكذلك إذا أردنا أن نقول الحقيقة بشرف وإنصاف فلا بد من القول بأن الذي علم الزنوج مزية النظافة والقناعة والأخلاق الإنسانية هو الإسلام أيضًا، ولهذا كان الإسلام جديرًا بما كان له في الأقطار الأفريقية، من الحب في القلوب والإقبال عليه من الجميع والنظر إليه بأنه معجزة خارقة. ومن الناس من قال: إن الإسلام دين لا تدخل فيه إلا الأمم التي في الشرق المتوسط لما جاء في هذا الدين من الأحكام القاسية التي تنافي مبادئ المدنية، فكان جواب الأستاذ أرنولد عن هذه التهمة بما يأتي: إن في هذا القول مغالطة وهو مخالف للواقع؛ لأن الإسلام قد انتشر في الصين وبلاد المغول والتتر وفي الأمم الكثيرة في شرق آسيا وفي وسطها، وهؤلاء يعدون بالملايين، وفي كل يوم تنضم إليهم ألوف جديدة من الناس اهـ. ذلك هو كتاب المستر أرنولد الذي نشره حديثًا فأبان به أسباب ارتقاء الإسلام وتقدمه ذاكرًا ذلك بلسان نزيه وإنصاف عال. ويقول الكاتب الفاضل المستر وليم مكسويل الذي صدق على هذه المسائل: إن الحالة السيئة التي وصل إليها العالم الإسلامي لا عار فيها على الإسلام مطلقًا، والسبب الحقيقي لتدني المسلمين هو أن الأتراك المهيمنين على الإسلام في هذه الإيام بينما كان يجب عليهم أن يأخذوا بروح الهداية الإسلامية والمعاني القرآنية تركوا كل هذا وانصرفوا إلى الألفاظ والأشكال وصاروا يهربون من الارتقاء والتجدد والحياة في صغير أمورهم وكبيرها. وإن الذي يقرأ كتاب الأستاذ أرنولد باهتمام خاص يجد فيه الأسباب التي تنعش الإسلام وتبعث فيه روح الحياة. انتهى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المؤيد ... ... (المنار) إن أرنولد من فضلاء الإنجليز المستقلين في رأيهم المنصفين في حكمهم الذين قلنا: إن عددهم في الأوربيين لا يحصى، وهو قد عاشر المسلمين في الهند واطلع على كثير من كتبهم، فلم يأخذ علمه بالإسلام عن دعاة النصرانية ولا عن رجال السياسة الذين قلنا فيهم: إنهم يغشون أهل الإنصاف من أقوامهم بما يشوهون به الإسلام. وكتابه هذا ليس جديدًا بل ألفه منذ أعوام، وربما نشر بالطبع نشرًا جديدًا. كتب الرجل كتابه على بصيرة وعلم يزينهما الإنصاف فقل غلطه في أخباره وفي آرائه أيضًا، فمما يخطئه به كل مسلم قوله - بحسن النية وقصد المدح - إن أحكام الإسلام صادرة من أرباب العقول السليمة بدون غرض، على أنها عبارة يمكن تفسيرها تفسيرًا صحيحًا بأن الأحكام الإسلامية المستنبطة من الكتاب والسنة إنما استنبطها علماء عقلاء اتبعوا فيها الحق والمصلحة لا الأغراض والأهواء. وإنما نخطئ ما يتبادر إلى الأفهام من أن مراده بما ذكر أصل الإسلام من كتابه وسنة الداعي إليه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كان نتاج عدة عقول سليمة. ومن لم يؤمن بالوحي لا مندوحة له عن مثل هذا الرأي. وكذلك قوله: إن مسألة الدين كانت آخر ما يخطر في بال أولئك الفاتحين، والصواب عندنا أن هداية الناس إلى الإسلام كانت أول ما يخطر في بال أولئك الفاتحين، ولكن بدون إكراه ولا إجبار، فكانوا يعتقدون أن فتحهم للبلاد وحماية حرية الأديان فيها مع العدل والمساواة هو الذي يظهر لأهلها المستعدين للتمييز بطلان ما قلدوا فيه سلفهم، وحقيقة ما عليه الفاتحون لبلادهم، فكان لدخول الناس في الإسلام أفواجا سببان: أحدهما ما كانت عليه الشعوب التي فتح العرب بلادها من الخرافات والتقاليد الباطلة، وثانيهما ما رأوه من فضائل العرب وعدلهم وحريتهم وحقيقة دينهم، فكانت حالهم النفسية أعظم داع إلى دينهم الحق، واقتصر هو على السبب الأول. نعم إنه أصاب في قوله: إن فتوحاتهم ما كانت دينية بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون، وهو التنكيل بالمخالف أو يرجع عن دينه، فهذا المعنى ما خطر في بال أحد من فاتحي العرب في وقت ما ولا يبيحه الإسلام، وأما قوله: إن الإسلام لا يحتاج إلى دعاة ومبشرين فهو إنما يصح إذا أقامه أهله، أما وقد صار جمهور أهله منحرفين عن هدايته العليا بالفعل، ودعاة النصرانية يهاجمونه بالتضليل والإفك، فقد وجب أن يتربى ويتعلم طائفة من المسلمين كيف يدعون إليه ببيان حقيقته، وكيف يدافعون عنه بإظهار أباطيل خصومه. وأما قول وليم مكسويل: إن سبب ضعف المسلمين هو ترك الترك لروح هداية القرآن، فهو وإن أقره مُكاتب أقدام وإدارة تحريرها من الترك يحتاج إلى شرح طويل.