للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأبين الأستاذ الإمام

في يوم الجمعة (١٧ جمادى الثانية ١٨ أغسطس) اجتمع خواص الناس من
العلماء والأدباء والوجهاء من المسلمين وغيرهم عند قبر الأستاذ الإمام حكيم الشرق
وحجة الإسلام الشيخ محمد عبده لتأبينه ورثائه وكان عدد المجتمعين عظيمًا، كما
كان ينتظر أو أكثر مما كان ينتظر فقد غص بهم المكان المعروف بالحوش والبطحاء
التي أمامه ورجع خلائق أمّوا المكان فلم يجدوا مقعدًا ولا موقفًا.
قام حسن باشا عاصم الذي كان رئيس الديوان الخديوي من قبل بعد تلاوة أحد
القراء آيات من الكتاب العزيز فألقى على الحاضرين سيرة الإمام، بالاختصار
اللائق بالمقام، وتلاه الشيخ أحمد أبو خطوة القاضي في المحكمة الشرعية الكبرى،
وأحد أكابر المدرسين في الجامع الأزهر وطفق يسرد ما كان للفقيد - عليه الرضوان -
من خدمة العلم والدين والإصلاح الصوري والمعنوي في الأزهر والمحاكم الشرعية،
وما له من الأيادي البيضاء على العلم والعلماء، وقد ضعف صوته أن يصل إلى
آذان الحاضرين جليًّا فامتدت الأعناق، وكاد يضطرب الجمع فاستناب عنه محمد
أفندي سعودي أحد كتاب المحكمة بعد الاعتذار. ثم قام حسن باشا عبد الرازق أحد
أعضاء مجلس الشورى فذكر من فضائل الفقيد وفواضله، وآثاره ومآثره ما شاء الله
أن يذكر، وتوسع بعض التوسع في أثره -رحمه الله تعالى - في مجلس الشورى،
وكيف كان صاحب الرأي الأعلى حتى ارتقى به المجلس، وزال ما كان عنه وبين
الحكومة من سوء التفاهم. وتقفاه قاسم بك أمين القاضي في محكمة الاستئناف
الأهلية فذكر مكانة الفقيد في الأمة، وما امتاز به من المزايا الجمة، وكيف وقف
نفسه على إصلاح أمته، وكان قدوة صالحة في علمه وسيرته، وكيف ارتقى بجده
وعلمه وعقله وقوة إرادته إلى مقام مكنه من الأخذ بزمام أمة بأسرها، وسوقها إلى
المستقبل الذي هيأه لها، وهو مقام الأمة بأوسع معناها.
تلا هؤلاء الخطباء أشعر الشعراء في هذا العصر حفني بك ناصف القاضي
بمحكمة مصر الأهلية وحافظ أفندي إبراهيم فأنشد كل منهما مرثية أبكت السامعين
بعد ما كدنا نظن أن تلك الخطب المؤثرة قد استنزفت الشؤون من العيون. فأما
مرثية (حافظ) فقد نشرناها في جزء سابق وأمّا مرثية (حفني) فسننشرها
مع سائر المراثي والتأبين من تاريخ الأستاذ الإمام رحمه الله - تعالى - رحمة
واسعة.
ثم ختم الاحتفال كما بدئ بتلاوة آيات القرآن الحكيم، وانفض الجمع وهم
يستمطرون الرحمة لفقيد الشرق والإسلام، ويسألون الله أن ينفع بسيرته الأنام، وقد
رأوا أن هؤلاء المؤمنين الذين يمثلون الطبقات العليا في الأمة على ما لهم من الصفة
الرسمية قد سجلوا مناقب الفقيد على رؤوس الأشهاد وأقرهم الألوف على ذلك.
سبق للأدباء والوجهاء في مصر أن اجتمعوا لتأبين ثلاثة رجال: شفيق بك
منصور يكن الذي كان قاضيًا في محكمة الاستئناف ثم رئيسًا للنيابة فيها ووكيلاً
للنائب العمومي (المتوفى سنة ١٣٠٨) وعلي باشا مبارك ناظر المعارف الذي
خدمها في مصر بهمة واجتهاد وإخلاص بقدر ما سمحت له قدرته وحال البلاد
(المتوفى سنة١٣١١) ومحمود سامي باشا البارودي وما العهد به ببعيد.
كل أولئك في قومه انفرد بالسبق في بعض المزايا، حتى لم يكن في عصره
من يزاحمه في مزيته فيدعي مساواته فيها، وكأنك بهذه الأمة التي زادتها الحرية
الشخصية فوضى وتهجمًا من الوضيع على محاكاة الرفيع فيما تسهل المحاكاة فيه ممّا
كان عن الرفعة دون ما كانت به الرفعة قد صارت تجتمع لتأبين من ليس لهم فيها
أثر يذكر، ولا ذكر يرفع إجابة لدعوة أهليهم وأصدقائهم حتى لا يبقى لمثل هذا
الاجتماع مزية يحفظها التاريخ أو يحفل بها المؤرخ.
قد بلغ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى من المكانة العالية والشهرة الواسعة أن
صارت الأبصار تشخص، والقلوب من ورائها تتلفت إلى كل ما كان يكون منه أو
يصدر عنه أو يعمل أو يقال فيه وهذا ما أحسب أن يجعل تأبينه سببًا لإجلال التأبين
وحمل المقلدين على الرغبة فيه وهذا هو الذي يجعل التأبين بعد اليوم محاكاة لإجلال
الأمة لمن يؤبن لا حكاية عنه إذ يعز أن تنجذب قلوب جميع الطبقات في الأمة
لمجتمع يشاد فيه بذكر رجل يُعدّ خادمها الأمين، وإمامها في العلم والعمل والدين،
أو ينبغ فيها من يساهم الرجل في فضائله، ويكون له في الأمة ولو بعض فواضله،
فتأبين الأستاذ الإمام هو الذي جعل للتأبين شرفًا يرغب فيه ويحمل على محاكاته
وهو الذي يسلبه هذا الشرف إذا كان لغير مستحقه وإذا فهم المقلدون هذه الحقيقة
فإنهم يكرمون من يفقدون من ذوي القربى أو الصداقة بترك الدعوة إلى تأبينهم
ويتركون هذا الأمر إلى الأمة نفسها يقترحه فضلاؤها وكتابها لمن يرونه أهلاً له في
المستقبل فيكون كما ينبغي أن يكون، ولله في خلقه شؤون.