للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاحتفال بالعقد الأول من عمر المنار

أنشئ المنار في سنة ١٣١٥ وصدر العدد الأول منه في مساء اليوم الثاني
والعشرين من شهر شوال من تلك السنة، ثم زحزحنا أول سنته إلى غرة ذي القعدة
ثم إلى أول المحرم فصارت السنة الهجرية هي سنة المنار الحسابية منذ سنته الخامسة
أي سنة ١٣٢٠.
وفي أوائل هذه السنة - وهي العاشرة - خطر لإسماعيل بك عاصم
الخطيب والمحامي الشهير أن يقيم في داره احتفالا ينوه فيه ببلوغ المنار هذه السن من
عمره، ولكن عرض له سفر قضى بإرجاء ذلك، وعاد إلى مصر قبيل شهر رمضان
وذاكرني في ذلك فأخبرته بتاريخ إنشاء المنار فسر بذلك وعزم على أن يجعل الدعوة
إلى الاحتفال في مثل اليوم الذي صدر فيه أول عدد منه وهو ٢٢ شوال، فوزع
رقاع الدعوة على أصحاب المجلات الشهيرة في مصر ومحرريها ليجتمعوا مساء
ذلك اليوم في داره بالعباسية ويكون الاحتفال في ليلة ٢٣ وهي أول ليلة ظهر في مثلها
المنار.
وكذلك كان للمنار في مصر محبون كثيرون من علية القوم، ومنهم من يقدر
على ما لا يقدر عليه إسماعيل بك عاصم من خدمة الإصلاح بالتنويه به والعون على
زيادة انتشاره، ولكن إسماعيل بك عاصم ابتكر هذا النوع من الإصلاح لا بسانحة
عرضت أو فكرة سنحت كما ظن بعض من لا يعرف كنه الرجل، بل أرشدته إلى
ذلك فطرته وهدته إليه ملكة راسخة فيه هي حب الاجتماعات العلمية والأدبية
ونشر الآراء والحكم النافعة. فكم سبق له من تأليف الجمعيات ومن مساعدة
المؤلفين لها بالمال والقال على قدر الحال كما أخبرني الثقة وشاهدت في
جمعية مكارم الأخلاق. ويدخل في هذا الباب مساعدته لفن التشخيص أو التمثيل
بتأليف القصص وإيداعها ما يراه مناسبا لأهل البلاد من انتقاد العادات الضارة
والترغيب في الآداب النافعة وبالعون على تمثيلها بالمال، فقد سمعت الشيخ
سلامة مدير دار التمثيل العربي وأشهر الممثلين يقول: إنه كان يؤلف الرواية
ويعطي (الجوق) ستين جنيهًا إعانة له على تمثيلها بمصر. على أن غيره لا يبيع
القصة بأقل من هذا الثمن.
ذكرت هذا قبل الكلام عن كيفية الاحتفال لبيان بعض مزايا المحتفِل لمن لا
يعرفها من قراء المنار في الشرق والغرب وفي مصر أيضًا؛ فإنني سمعت كثيرين
يقولون بلهجة الإعجاب والتعجب: كيف خطرت لفلان هذه الفكرة؟! يظنون أنها
سانحة عرضت، لم تأت عن ملكة رسخت.
إسماعيل بك عاصم يطالع المنار بدقة متتبعًا سير الإصلاح فيه، وكثيرًا ما
يذاكرني في مسائل منه يعجب بها فضل إعجاب، ومسائل ينتقدها أو يري فيها
غموضًا أو إيهامًا. فعلمه بخدمة المنار علم تفصيلي وله عنده منزلة خاصة عبر
عنها بهذا الاحتفال الذي يحب أن يجعله سُنَّة دائمة، فجزاه الله عن عمله وعن نيته
خير الجزاء.
أجاب الدعوة إلى الاحتفال عشرون مدعوًّا تجمعهم رابطة العلم والأدب
اجتماعًا لا يفرقه الاختلافات في الجنس فإن منهم العربي (وهم الأكثر بالطبع)
والفارسي كالدكتور محمد مهدي خان صاحب مجلة (حكمت) والتركي كالدكتور
جودت بك صاحب مجلة (اجتهاد) ولا الاختلاف في الوطن فإن منهم المصري
والسوري وغير ذلك ولا الاختلاف في الدين فإن منهم المسلم والنصراني القبطي
وغير القبطي واليهودي وهو فرج أفندي مراد المحامي محرر مجلة التهذيب الدينية
الأدبية لطائفة القرابين.
تم اجتماع القوم بعد العشاء الآخرة في الساعة السابعة مساء، وكانوا قد أقبلوا
فرادى ومثنى وثبات. وطفقوا يتسامرون بألطف الكلام والبشر يتدفق من وجوههم
سرورا بهذا الاحتفال الذي ألف بين الآلاف والأشكال، وصاحب الدعوة كان يقابل
كل واحد بالحفاوة والبشر حتى كأن سروره به يرجح بسرور مجموعهم. وفي أثناء
الساعة الثامنة دُعوا إلى حجرة المائدة فانتظموا حولها كعقد اللؤلؤ المنظوم، أو
كمنطقة مؤلفة من النجوم، ولا بدع فهم نجوم الهداية إلى الآداب والعلوم، وقد
أعجبوا بذوق صاحب الدعوة ورب الدار، فيما على المائدة من تنسيق الرياحين
والأزهار، واختيار أنواع الفاكهة والثمار، مع حسن نظام الدار، وما يزينها من
تألق الأنوار، فإنه جلب إليها صنوف الفاكهة السورية كالعنب الزيني والزعرور
اللبناني وغير ذلك، علما منه بأن المحتفل لأجله ونحو نصف المدعوين وهم سوريون
يحنون بذلك إلى ما ألفوا في سن الصبا، وأن سائر المدعوين يسرون منه بجدة
الطريف، وما زال الإنسان يحن إلى غير المبذول المعروف.
مكثوا نحو ساعة ونصف يمزجون أطايب الطعام بأطايب الكلام، ويجمعون
بين أحاسن الفاكهة وأحاسن المفاكهة، ثم طافت القناني على الأكواب تترعها بالماء الغازي (الغزوزة) الممزوج بأحلى الشراب، فأكلوا هنيئا مريئا، وشربوا
حلالا طيبا، وبعد الطعام قام صاحب الدعوة خطيبًا مُرحبا بالقوم ترحيبا، فألقى
الخطبة التي نشرناها في هذا الجزء من المنار، وزاد عليها نحوها من عقائل
الكلام ورقائق الأشعار.
وههنا أقول: إن إسماعيل بك عاصم قد اعتاد ارتجال الخطب ولم يتعود
تأليفها وحفظها ثم تلاوتها - كما يفعل كثير ممن يدعون الخطابة - فضلا عن
كتابتها وتلاوتها في الورق. ولكنه في هذه المرة خالف عادته وكتب الخطبة التي
نشرناها وطبعها ليوزعها على من يحضر الاحتفال ولكنه غلب عليه ما تعود
فألقاها بالمعنى غالبا وزاد فيها ما فتح عليه ارتجالا، وكان مما زاده الثناء على
هذا العاجز بأكثر مما في الخطبة فأخجلني ذلك جدًّا.
قمت بعد إتمامه ما جاد به لأشكر له ولإخواني الحاضرين فضلهم وأقول شيئًا
يناسب المقام فأوحى إليّ سلطان الخجل الذي كان يحكم فى وجداني حكمًّا استبداديًا لا
طاقة لي بدفعه أن كل ما يمكن أن أقوله من الشكر أو الكلام في الإصلاح والعلم فهو
يتضمن الثناء على نفسي. وارتج علي - أو كاد - حتى لم أجد من القول إلا الاعتذار
عن الشكر بالعجز عنه إذ لم أوت جراءة الخطيب وطلاقته، وعن الكلام في
المسائل العلمية والأدبية بأنني أفتح عيني فلا أرى أمامي إلا العالم النحرير، أو
الكاتب البارع في التحرير، أو الفيلسوف المدقق، أو المؤرخ المحقق، فماذا
عساني أفيد هؤلاء الفحول، وهم أعلم مني بكل ما يمكن أن أقول؟ قلت: ولو
أنهم في مجتمع عظيم من سائر طبقات الناس لكان يتيسر لي أن أصرف بصري
عنهم، وأخاطب بما يفتح على غيرهم. فقبلوا بكرمهم العذر وأعجبهم الاعتراف
بالعجز، ولكنهم لتواضعهم عدوه من التواضع.
ثم قام يعقوب أفندي صروف الدكتور في العلم والفلسفة ومحرر مجلة المقتطف
المفيدة فألقى خطابا مفيدا افتتحه بقوله: إنه عند ما قدم السيد رشيد رضا إلى هذه
الديار كتب إلى بعض أهل العلم (وذكر اسمه) كتابًا يقول فيه أنه قد ظعن إلى
مصر عالم واسع الاطلاع قادر على البيان والإفصاح عن علمه، حر لا يخاف في
إبداء ما يعتقد شيئا. فلما اطلعت على العدد الأول والثاني من المنار جزمت برأي
قلته وكتبته بعد ذلك غير مرة وهو أن إخواننا المسلمين سينظرون في المستقبل إلى
صاحب المنار وكذا إلى المرحوم المفتي (يعني الأستاذ الإمام) كنظر النصارى في
أوروبا إلى لوثير وكلفن.
ذلك أيها السادة؛ لأن الدين له أعظم تأثير في الأحوال الاجتماعية، فما من
مدنية قامت في العالم إلا وكان أساسها الدين. إننا لا نبحث في أصول الأديان لأننا
كلنا نعتقد أنها من الله فهي فوق البحث ولكن فهم الناس للدين هو الذي يصدهم عن
المدنية أو يسوقهم إليها، فقد كان أهل أوربا يفهمون الدين المسيحي فهمًا حال بينهم
وبين العلم والمدنية عدة قرون. وبعد أن قام فيهم لوثير وأنصاره بالإصلاح الديني
تغير فهم الناس للدين تغيرًا كان مبدأً لمدنيتهم الحاضرة. وقد كان العرب من قبل
يفهمون الإسلام فهمًا دفعهم إلى المدنية والعلوم، ثم انقلبت الحال وصار المسلمون
محتاجين إلى إصلاح يجمع بين الدين والمدنية. إن فلانا هو الذي أخذ على نفسه
القيام بهذا الإصلاح في مجلته (المنار) التي اجتمعنا للاحتفال بها في هذه الليلة إجابة
لدعوة صديقنا الخطيب الفاضل والمحامي الشهير إسماعيل بك عاصم. إن صاحب
المنار يقاوم البدع والخرافات ويشرح الدين شرحا يسهل سبيل المدنية ويهدم العقبات
التي تعترض سالكيها ويبين كيفية سلوكها، فهو يهدم ويبني في وقت واحد.
ثم ذكر أن هذا العمل يسر المسيحيين وغيرهم من سكان الشرق ويعدونه خدمة
عامة لا خاصة بالمسلمين لأنهم يعلمون أن الشرق الأدنى لا يرتقي إلا إذا ارتقى
المسلمون؛ إذ هم العنصر الأكبر فيه. وأثنى على هذا العاجز المحتفل لأجله وأشار
إلى ما لقيه من المصاعب وصبره عليها، وعلى إسماعيل بك عاصم بما يليق بغيرته
على العلم وحبه له وإكرامه لآله.
هذه فحوى ما فاه به الدكتور الحكيم مُلخصًا، وقد كان موضع الإعجاب
والاستحسان كما يليق بما فيه من الإبداع والإحسان، نطق بذلك كل لسان بعد ما
نطقت بالتصفيق اليدان.
ثم قام سيد أفندي محمد صاحب المجلة المدرسية (وناظر المدرسة التحضيرية
الكبرى) وارتجل خطبة ضافية الذيول متدفقة السيول، مدح فيها العلم وأهله وحمد
فيها المحتفِل وأطرى المحتفَل لأجله، ومما قاله أنه عرف صاحب المنار
أول مقدمه لهذه الديار، وعلم أنه سينشئ صحيفة إصلاحية فيها، لذلك كان من
المواظبين على قراءة المنار والاستفادة منه منذ ظهر إلى الآن. وأنه لم يكن قبل
المنار يسمع صوتا ولا يرى كتابة تنشر في مقاومة البدع والخرافات. ثم ذكر ما لقي
المنار من المقاومة والمعاداة وصبر صاحبه على ذلك حتى تم نوره وعم ظهوره
وانتشر تعليمه وانتفع الناس به. وصرح بأن المقاومين له من العلماء وغيرهم قد
انتفعوا هم أنفسهم به وصاروا يفكرون في حالهم ومآلهم وما ينبغي أن يكونوا عليه
في هذا العصر، وقد بالغ في إطراء هذا العاجز وتحليته بالألقاب التي لا يستحقها إذ
لم يكن يشير إليه إلا بكلمة (أستاذنا) وما يصله بها من النعوت العالية فجزاه الله
عن حسن ظنه بأخيه خيرًا. وقد أثنى على المحتفل الكريم في فاتحة القول وختامه
بل في كثير من أجزائه وأقسامه، وصفق له السامعون مرارا.
ثم قام توفيق أفندي عزوز صاحب مجلة (المفتاح) خطيبًا وهو من كتاب
وخطباء القبط، أصهار الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر أن مجلته قريبة من مجلة
المنار في السن فهي في السنة التاسعة من عمرها، وأفاض في تفضيل المجلات
على الجرائد وأثنى على المحتفل وهنأ المحتفل لأجله.
وكان حسن بك حمادة صاحب مجلة (الأحكام الشرعية) قد أعد شيئا وكتبه
ليجعله أصلا لخطبة يلقيها فضاق الوقت بإطالة الخطيبين الآخرين فمنعه كغيره عن
الخطابة فأعطاني ما كان كتبه وهو بنصه:
(لو مضت سنة الأدب بأن لا يهنأ الشخص بسار، إلا بعبارة تحيط بوصفه
مسبوكة في قالب من البلاغة مساو لبلاغته، لوجب على حضرة الأخ الفاضل السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر أن يقوم بتهنئة نفسه ويؤدي هذا الفرض عن
هذا العاجز، ولكن الله سبحانه وتعالى يقبل شكر عباده على قصورهم عن أداء
واجبه، وصاحب المنار خير من تخلق بخلق مولاه فأطلب إليه أن يتقبل تهنئة هذا
الضعيف له على ثبات إرادته ومغالبته لما اعترضه من الصعاب في سبيل عمله
الجليل الذي يؤديه للعالم الإسلامي بل العالم الإنساني.
إذا قضى واجب الوطنية والتابعية علينا مرة بمشاطرة صاحب المنار الأغر
السرور بهذا العيد الأدبي، فإن واجب الدين الذي وقف صاحب المنار نفسه لخدمته،
وصرف مواهبه في الذب عن حوضه، يوجب علينا ذلك مرات كثيرة، وقد ضمنا
من ورائها أدب أقمناه مقام الوالد.
وإني أحس كما يحس كل صادق في خدمة العلم الصحيح ساع في خير
الإنسانية، وبعبارة أجلى كما يحس كل شخص ضمته حاشيتا هذا المحفل الزاهر بأن
نجاح صاحب المنار الأغر، وقطعه لهذا العقد من السنوات خطوة واسعة في ارتقاء
الآداب ودرة ثمينة في تاج المجلات التي تصدر في هذا القطر المبارك، بل فخر
لحياة المجلات التي تصدر في الشرق أجمع.
وإني عن مجلة الأحكام الشرعية أحيي مجلة المنار الإسلامي بدخولها في العقد
الثاني من حياتها المباركة وأسأل الله لصاحبها الفاضل النجاح والتوفيق فيما قصد.
هذا وليس بعجيب أن يقوم حضرة الأصولي المفضال إسماعيل عاصم بك
الخطيب الشهير بمظاهر هذا العيد، فطالما خدم العلم والأدب وكانت له اليد
الطولى على الجمعيات الأدبية في مواطن كثيرة، وله منا جميعًا أجمل الشكر ومن الله
تعالى جزيل الأجر والسلام) اهـ.
وقدم إلينا التلميذ النجيب محمود أفندي رمزي التاريخ الآتي فنشرناه شكرًا له
وتنشيطا
... مؤسس عيد المنار على المـ ... ـعارف والسنن الطاهرة
دعوت الجهابذة العالمين ... وأهل المعارف في القاهرة
ومن كل شهم إذا ما تحد ... ث ينطق بالدرر الساحرة
ليحيا المنار ورب المنار ... وعاصم والسادة الحاضرة
بعيد المنار فأرخ إلا ... بيمن لقد بلغ العاشرة
... ... ... ... ... ـ ... ــ ــ ــ ــ
... ... ... ... ... ٣٢ ١٠٢ ١٣٤ ١٠٣٢ ٦٠٧
وانصرف القوم منتصف الليل حامدين رب الدار، مهنئين داعين بإطالة عمر
المنار وصاحبه.