رأي الأستاذ العلامة الفقيه - مدرس الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بالجامعة المصرية - فيه وفي مجلة المنار
إلى الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا تعلم أيها الصديق الحميم إعجابي بك وشغفي بما تخطه يمينك من مقالات الإصلاح؛ لا لأنك صديقي (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) بل لأنك تكتب وتقول عن علم صحيح، وتفكير صائب، وقلب فاهم، ونفس تريد الخير للمسلمين في كل ما يصدر عنها، فلا عجب إذا كنت أدعو كل من آنسُ فيه الاستعداد للخير أن يقرأ المنار فينتفع منه على قدر استعداده، فقد تناولتَ فيه من وجوه الإصلاح الإسلامية - بفضل الله ونعمته - ما لم يتيسر في جملته لغيرك، وقد زدته حسنا على حسن بما ضمنته من جواهر الكلام، لشيخنا الأستاذ الإمام، عليه من الله الرحمة والرضوان، فنظمت فيه من اللآلئ ما كان ينثره رضي الله عنه في دروس التفسير التي يلقيها على الجماهير في الأزهر المعمور، وضممتَ إليها ما شاء الله أن يفتح به عليه من نفيس الفرائد، ثم انفردت به بعد أن استأثرتْ بالشيخ رحمة ربه فكنته فيما استقللت به، ولا غَرْو (فإن العصا من العصية) . ثم جردتَ تفسير المنار وطبعته على حدة جزءًا جزءًا مبتدئًا بالجزء الثاني، وأخيرًا طعبت الجزء الأول كذلك بعد أن أنشأته خلقًا جديدًا، وقد أسعدني الحظ بتصفحه وقراءة أدق مباحثه بعد قراءة مقدمتيه - فاتحتكم والمقدمة المقتبسة من دروس الأستاذ الإمام - فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله إلى آخره، وقد استوقفني في فاتحتكم عدة مواضع كان يتوارد على خاطري في كل موضع منها بحكم تداعي المعاني الشيء الكثير. من ذلك ما جاء من جعل مقلدة المذاهب - أصولاً وفروعًا - مذاهبهم أصلاً، والقرآن فرعًا لها فعكسوا القضية، حتى لقد غلا بعضهم غلوًّا فاحشًا نعوذ بالله منه إذ يقول: إذا خالف النص من كتاب أو سنة قول أصحابنا فإن النص يحال على النسخ أو التأويل. وأذكر أني تناولت مرة بعض التفاسير المطولة [١] لأراجع فيه تفسير آية من آيات الأحكام، فكنت في أثناء قراءتي أجدني قد قرأت مثل هذا الكلام في بعض الكتب الفقهية فما انتهيت إلى آخره، حتى وجدته يقول كذا في فتح القدير، فأطبقت الكتاب وعقدت النية على أن لا أعود إلى قراءة شيء فيه بعد ذلك؛ لأني إنما تناولته لأقرأ في كتاب تفسير لا في كتاب الفتاوى الهندية. ومن ذلك ما أوردتموه من الملاحظات الجيدة على التفسير بالمأثور، وأنه لا يؤخذ بكل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من ذلك لما ثبت أن بعضهم روى عن أهل الكتاب كأبي هريرة وابن عباس، فالحق هو ما قلتم أن كل ما لا يعلم إلا بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل فيّ إثباته إلا الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه قاعدة الإمام ابن جرير التي يصرح بها كثيرًا، فبهذا الطريق نسلم مما لا يحصى كثرة من الأكاذيب والخرافات المخجلة، وتطهر منها كتب تفسير كلام الله. ومن ذلك ما حكيتموه عن الأستاذ الإمام من قوله: (إن بعض الناس يوجد فيهم خاصية أنهم يقدرون على الكلام في أي موضوع أمام أي إنسان؛ سواء أكان يدرك الكلام ويقبله أم لا، وهذه خاصية كانت موجودة عند السيد جمال الدين يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها. وأنا كنت أحسده على هذا؛ لأنني تؤثر في حالة المجالس والوقت، فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاً وهكذا الكتابة، فإنني أتصور أن أكتب في موضوع، وعندما أوجه قواي لجمع ما تحسن كتابته، تتوارد على فكري معان كثيرة ووجوه للكلام جمة ثم يأتيني خاطر: لمن ألقي هذا الكلام ومن ينتفع به؟ فأتوقف عن الكتابة وأرى تلك المعاني التي اجتمعت عندي قد امتص بعضها بعضًا، حتى تلاشت ولا أكتب شيئًا) فأذكرني هذا ما صنعه أبو حيان التوحيدي بكتبه إذ أحرقها ضنًا بها على الناس بعد أن بذل ما في وسعه في تحريرها، وكتب في ذلك خطابه المؤثر لبعض أصدقائه، فهذه ثلاث مراتب مرتبة من يلقى الحكمة على أيٍّ كان غير ناظرِ إلى من تُلقى عليه، فلعلها إن أخطأت مرة أصابت مرة، وهذه هي مرتبة السيد رحمه الله، وهي مرتبة حب الخير المطلق والإخلاص والغيرة على الإصلاح والطمع في هداية الناس أجمعين، فكان لا جرم أن غبط الأستاذ الإمام السيد عليها قدس الله سرهما. ومرتبة الحكيم الحذر الذي يتحين الفرص، فلا يلقي الحكمة إلا على من هو مستعد لقبولها والانتفاع بها، وهذه هي مرتبة الأستاذ الإمام كما حدّث عن نفسه، لكنه بعد ذلك ما كان يضن بدرره الغوالي كما شاهدنا ذلك منه في دروس التفسير وفي غيرها، بل كان يصرح كثيرًا بمخالفة ما ألِفه العامة بمنتهى الشجاعة والإقدام مؤيدًا ما يقوله بالبراهين الناصعة، والحجج الدامغة، والجمهور يستمع لما يقول. ومرتبة الضنين على الناس بما يراه صالحًا لهم، فكأنهم وتروه فثأر لنفسه منهم، وهذه مرتبة أبي حيان. فصاحب المرتبة الأولى ينظر إلى الناس نظر الرحمة والشفقة، وصاحب المرتبة الثانية ينظر إليهم بعين الحذر والحكمة مع محبته الخير لهم، وصاحب المرتبة الثالثة ينظر إليهم نظر المقت والانتقام. هذا بعض ما استوقف نظري مما مر به. لكن أشد ما استوقفني تلك الكلمة الجامعة الحكيمة التي كأن روح القدس نطق بها على لسانك: (إذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) فوقفتني وقفة غارقة في بحار التأمل، تارةً أستعيد ماضي الإسلام المجيد وما طرأ على المسلمين بعد عصر النور من ظلم الفساد، وأخرى أنظر إلى حاضر المسلمين وما هم عليه من سوء الأحوال الاجتماعية، وتفرقة الكلمة والانحراف عن كتاب الله تعالى، ثم أفكر في مستقبلهم إذا استمروا على هذا الحال، فأرتد كئيبًا حزينًا يقتلني الأسى ويمزقني الغيظ. وكان مما خطر ببالي في وسط تلك الدهشة؛ ما يظنه بعض المساكين من متعلمي المسلمين ذلك التعليم الحديث الذي ظنوه كاملاً، وما هو إلا في أحط دركات النقص، ظنوا - هداهم الله - أن السيادة والاستقلال يكفي لاستحقاقهما ذلك القدر من العلم الذي حصلوه، وتلك الشهادات الدراسية العليا التي نالوها من أرقى المعاهد العملية الأوربية بجدارة وتفوق؛ حتى على كثيرين من أبناء تلك الأمم التي نالوا تلك الشهادات من معاهدها، حتى قال مسكين منهم معتزًا بما حمله من تلك الشهادات، وما حصل عليه من قشور القشور التي ظنها علمًا قيمًا: ما بالنا لا نُعطى الاستقلال وقد أعطيه العربُ الجهال رعاة الإبل، ونحن (أولاً) على درجة من العلم والمدنية الغربية تجعلنا خير أهل لذلك. (وثانيًا) نحن من نسل أولئك الفراعنة ذوي الحضارة القديمة التي بهرت أنظار الغربيين؟ وفات هذا الشيخ الطفل أن الاستقلال ليس منحة تُعطى، بل هو نتيجة طبيعية لازمة لحالة الأمة الاجتماعية سنة الله في خلقه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) . فهؤلاء العرب الجهال رعاة الإبل الذين لم يتشرف واحد منهم بنيل شهادة الدكتوراه ولا ما دونها، إنما نالوا الاستقلال بنفوسهم الصالحة تربية ووراثة، فلم يمسسهم ولا أسلافهم ذلك الاستعباد، ولم يتطرق إلى أخلاقهم الرفيعة الفساد الوضيع، وأما أعلى الشهادات وأرقى أنواع تلك العلوم فمحال أن تكون من مهيئات الاستقلال والسيادة مع فساد النفوس وضِعتها، وانحطاط الأخلاق وانحلالها، والانغماس في الشهوات البدنية والتفاني فيها، فليس للاستقلال والسيادة إلا طريق واحد هو النفس الصالحة فهي حسبهما وكفى، وأما التبجح بالانتساب إلى الفراعنة فهو عجيب ممن ينتمون إلى الإسلام، بل الأولى بهؤلاء المنتسبين أن ينسبوا أنفسهم إلى الأمة التي استعبدتها الفراعنة، وساموها الخسف والهوان وسخروها لخدمتهم لا غير، فهذا هو الواقع. والانصاف يقضي عليهم بأن ينتسبوا إلى أصولهم الحقيقيين. على أن العلم المادي في أقوى معداته ومجهزاته المهلكة المدمرة، لم يستطع أن يقف بأصحابه أمام الأخلاق المتينة. ولدينا أقرب شاهد على ذلك من الحرب العظمى التي انهزم بها ذلك العلم المادي بجبروته وعظمته أمام الأخلاق الثابتة والنفوس المطمئنة الهادئة، وولت الأدبار القوى المادية أمام القوة المعنوية، وما انتصر المسلمون في عصور الهداية والنور إلا بنفوسهم الصالحة، فانتصروا على دولتي الفرس والروم وكل من حاربوهم من الأمم مع كثرتها الساحقة في العدد والعدد قديم حضارتها. ولكن ما قيمة كل ذلك أمام النفوس الصالحة؟ ولما استقرت قدم المسلمين في البلاد التي فتحوها ونشروا فيها نور الإيمان الصحيح بالله تعالى، أحلوا فيها العدل محل الظلم، والأمن محل الخوف، والسكينة محل الاضطراب، والوفاء محل الغدر، والحرية الصحيحة محل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، فأصلحوا بنفوسهم الصالحة كل شيء اتصلوا به. نعم.. (إذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) هذه حقيقة لا ريب فيها، ففي صلاح النفس عزها وفلاحها وإعدادها لإصلاح كل ما اتصل بها ولا طريق لصلاح النفس صلاحًا حقيقيًا إلا الأخذ بما جاء به الكتاب العزيز والاهتداء بهديه، ففي ذلك الخير كله، بذا جف القلم وقُضي الأمر. إن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية وإرشار لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مُداجٍ ولا ممالئ، بل أترجم لك عما تتحدث به إليّ نفسي غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك بما أقترح عليك أن تقتبس من هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا، يحتوي زبدته لينتفع به العامة، ومن لا يتسع وقته لقراءة التفسير المطول. أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام هذا التفسير ومختصره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... أخوك المخلص ... ... ... ... ... ... أحمد إبراهيم إبراهيم ... ... ... أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بالجامعة المصرية