للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المراد بالطعن في الدين
وكون مخالفة القرآن كفرًا

(س ٢٣و٢٤) لصاحب الإمضاء في دمشق الشام , بنصه على غلطه في
عبارته.
لجناب الفاضل صاحب مجلة المنار الأستاذ رشيد رضا المحترم.
قد وصلني جزء المنار الخامس , فقرأت فيه قرار النيابة العامة عن كتاب
الدكتور طه حسين , وما علقه المنار عليه , وإذ لم أتيسر للحصول على نسخة من
الكتاب المذكور , حيث منعته الحكومة؛ لم أقرأ منه إلا ما طبعته جريدة الميزان في
دمشق , ولكني مع ذلك سأوجه لكم الكلمات التالية فيها سؤالان , أرجو إجابتكم
إياهما في المنار.
ولربما تتعجبون من ذلك كما تعجبتم مرة من قبل عند ما سألتكم بعض الأسئلة ,
فجاوبتم عليها في المنار، ولا بد أن سبب تعجبكم هو الفكر الغارس فيكم أنه من
واجبات المبشر المسيحي أن يطعن في الإسلام، ولكني أتأمل أن المستقبل سيزيل
هذا الفكر عنكم وعن بقية المسلمين , فيدرك الجميع أن المسيحي لا يبشر بالمسيح
بين المسلمين إلا لاعتقاده بوجود بشارة في ديانته المسيحية ليس لها وجود في
الإسلام , ولا يمكن وجودها فيه , مع كل ما يحتويه القرآن من الأوامر والنواهي
المفيدة , حيث يرفض الاعتقاد بموت المسيح على الصليب , وقيامته من بين
الأموات.
وذلك ليس فقط اعتقاد بولس كما يقال , ولكنه يظهر بكل وضوح من سفر
أعمال الرسل، ومن رسائل بطرس ويوحنا أن موت المسيح وقيامته هما محور
تعليم الرسل، فأساس الديانة المسيحية منذ الأول، ولكن ليس قصدي هنا أن أطيل
الكلام في هذا الموضوع؛ بل أتقدم إلى السؤالين الناتجين عن قراءتي جزء المنار
الخامس.
وأولهما: ما هو معني الطعن في الدين؟ إنه ليس من أمري , ولا من
مقدرتي أن أحكم فيما إذا كانت استنتاجات الدكتور طه حسين ثابتة أم لا علميًّا،
ولكنه - بحسب ما يفهم من كتابه - وصل إليها عن مبادئه العلمية , دون غاية
أخرى , فهل يجوز تسميتها طعنًا في الدين؟ أليس معنى الطعن نوعًا من الاستهزاء
والاحتقار؟ أما إذا كان طعنًا كل ما يقال عن ديانة خلاف عقائدها؛ فكيف نتجنب
عنه في بلاد يسكنها المسلم بجانب المسيحي واليهودي , وكل منهم لا يعتقد بعقائد
الآخر , بل يرفضها؟ أفيكون كل ما يقولونه عن دين بعضهم لبعض طعنًا , وهم
يتكلمون به عن ضمير صالح وإن كانت أدلتهم غير مقبولة وغير مسلم بها عند
الخصم؟ أما الطعن إذا كان بمعنى الاستهزاء والاحتقار؛ فيمكن التجنب عنه؛ بل
هو واجب.
وسؤالي الثاني هو هذا: إذا وصل مسلم في أبحاثه العلمية إلى نتيجة تخالف
شيئًا من تعاليم القرآن أو من العقائد الإسلامية , فهل يحسب لذلك كافرًا أو طاعنًا في
الدين , ولو كان لم يزل يعتبر نفسه مسلمًا في الأمور الدينية والأدبية؟ وهذا السؤال
يهمني جدًّا جوابه؛ لأنني بصفتي مبشرًا مسيحيًا , لا أريد أن أقول عن مبادئ
الإسلام , ولا أن أفتكر عنها غير ما هو مُسَلَّم به من أهله، ولا يبعد عني الفكر أن
المسلمين المتنورين بعد مدة وجيزة سيغيرون اعتقادهم في القرآن , فيميزون فيه
بين الأمور الدينية والأدبية من جهة , وبين الأمور التاريخية والعلمية من جهة
أخرى، كما صار أيضًا بين المسيحيين؛ لأن كثيرين من المسيحيين اليوم يختلفون
عن مسيحيي القرن الثامن عشر في أفكارهم عن عصمة الكتاب المقدس , مع أنهم لم
يزالوا يشاركونهم بالإيمان بالمسيح كمخلص العالم , والوسيط الوحيد بين الله
والناس.
ويوجد بعض الدلائل لحدوث تغيير كهذا في العالم الإسلامي , كالذي يعمله
الأتراك اليوم , أو كالذي نجده في بعض المجلات الإسلامية العصرية كمجلة
Revue Islamic حيث يقال في العدد الأخير إن قصة آدم لربما مجازية , ولا
واقعة تاريخية.
قد باحثت في هذه الأمور بعض المسلمين الأتقياء المتفكرين من الذين لا
يرفضون البحث مع مبشر مسيحي , ولكني للتخلص من المشاكل العلمية في القرآن
لم أجد عندهم غير فكر التأويل؛ لأنهم لا يريدون أن يسلموا بوجود غلطة واحدة في
القرآن من أي نوع كان، وإلى الآن لم أجد أحدًا يعرف بإمكان بقاء المسلم مسلمًا
تقيًّا إذا أوصلته دروسه العلمية إلى نتيجة تخالف نص القرآن , كمسألة وجود
إبراهيم أو عدم وجوده التاريخي.
قد يكون للمنار أسباب أخرى لتسمية الدكتور طه حسين بكافر , ولكن سؤالي
هو هذا فقط: إذا قال عالم مسلم بعد دروس علمية بعدم وجود إبراهيم التاريخي ,
فهل بطل إسلامه؟ أم بصورة أخرى: هل يجب على المسلم أن يعتبر كل ما يقال
في القرآن من الأمور التاريخية والطبيعية أساسًا متينًا , لا يجوز له أن يخالفه
بشيء؟ ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... القسيس ألفريد نيلسن الدانيمركي
(المنار)
ما ذكرتم في مقدمة السؤال من توقع تعجبي من سؤالكم؛ فخطأ، وما قلتم في
الدفاع عن المبشرين , وتبرئتهم من الطعن في الإسلام , فقد طعن فيه بعضهم
بالمعنى الذي به فسرتم الطعن، وكذلك قولكم: إن المسيحي لا يبشر بالمسيح
بين المسلمين إلا لاعتقاده.... فقد عرفنا من بعض المبشرين أنهم كانوا مستأجرين
للتبشير , فلما وجدوا رزقًا من طريق آخر؛ تركوه البتة، وقولكم فيها: إن كتاب
أعمال الرسل ورسائل بطرس ويوحنا تثبت موت المسيح وقيامته , لا يقوم حجة على
المسلمين؛ لعدم ثبوت هذه الرسائل عندهم , وأنتم لا يمكنكم إثباتها بالتواتر إلى
مؤلفيها , كما علم مما كتبه علماء أوربة المحققون في تاريخها.
أما الجواب عن السؤال الأول وهو: ما معنى الطعن في الدين؟ فهو أن
الطعن في أصل اللغة قد وضع لمعناه الحسي المعروف وهو الطعن بالرمح أو
الحربة ثم أطلق على الذم والهجو والتكذيب والتحقير القولي الذي يؤذي المطعون
فيه إيذاء نفسيًّا , كما يؤذيه الطعن بالرمح أو الحربة إيذاء بدنيًّا، وما كتبه طه
حسين في كتابه المذكور قد آذى المسلمين وآلمهم , فصدق عليه أنه طعن في دينهم.
فالمسألة من المسائل التي تعرف بالبداهة، وأما إذا نقل أحد من النصارى أو
المسلمين أو اليهود نصوصًا من كتب الآخرين مع الأدب في العبارة , وبحث في
أدلتها، وقال: إنها لم تصح عنده أو عند أهل ملته , وإن ما يعارضها عنده هو
الذي يعتقدون صحته , فإن هذا لا يعده أحد طعنًا، ومنه ما كتبه السائل في مقدمة
سؤاله هذا , وما رددناه به , فهو ليس طاعنًا في الإسلام بتلك العبارة , ولا نحن
طاعنون في النصرانية بردها.
وأما الجواب عن الثاني , فهو أن من يعتقد اعتقادًا مخالفًا لنص القرآن القطعي
الدلالة عالمًا غير متأول , بحيث يعتقد أن خبر القرآن غير حق؛ فلا شك أنه لا يعد
من جماعة المسلمين.
فمن أنكر وجود آدم أو إبراهيم وإسماعيل؛ فهو كافر لأنه مكذب لكلام الله
تعالى، لا من تأول قصة آدم في معصيته وتوبته وسجود الملائكة له إلا إبليس ,
وما ورد في شأن إبليس من التخاطب مع الرب عز وجل , فقال: إن كل خطاب
فيها تكويني لا تكليفي , وإنها تمثيل لسنن الله تعالى في النشأة الآدمية البشرية، فمن
يقول بهذا (وقد قال به بعض علماء المسلمين كما تراه في تفسيرنا) ؛ لا يعد مكذبًا
للقرآن كمنكر وجود آدم وإبراهيم وإسماعيل بشبهة عدم ثبوت وجودهم بدليل علمي ,
فإنه ليس من شأن قواعد العلم العقلي أو الطبيعي إثبات وجود زيد وعمرو , أو
نفيه كما سيأتي.
وهذا الذي صدر عن مصطفى كمال باشا ورجال حزبه من الترك كفر محض ,
وارتداد عن الإسلام , لا شبهة فيه , وهم يقصدون به هذا الارتداد بغضًا في
الإسلام وعداوة له، وأما السواد الأعظم من الشعب التركي , فلا يزالون على دين
الإسلام وتقاليده كما عرفوها , وهم يتربصون الدوائر بهؤلاء الذين يجبرونهم على
الكفر بقوة الشعب ومال الشعب وجند الشعب.
وأما ما ارتأيته أن المسلمين المتنورين سيغيرون اعتقادهم في القرآن بعد مدة
وجيزة , فيميزون بين الأمور الدينية والأدبية من جهة، وبين الأمور التاريخية
والعلمية من جهة أخرى، فيجعلونه معصومًا في الأولى دون الثانية , كما فعل
النصارى؛ فهو بعيد , وإنما قربه إلى ذهنك قياس الإسلام على النصرانية , وقياس
القرآن على العهدين القديم والجديد، والفرق بين الأمرين مثل الصبح ظاهر،
وفرضك إمكان قيام أدلة علمية تنفي وجود إبراهيم عليه السلام غير معقول؛ لأن
هذا النفي ليس مما يثبت بالعلم.
فإن وجود إبراهيم وإسماعيل متواتر عند الإسرائيليين وعند العرب , وإن
نازعنا منازع في التواتر التاريخي المتصل , وفي الأنساب المتسلسلة به المثبتة له
علميًّا , فلا يمكن الإتيان بدليل ينفي وجوده علميًّا؛ لأن نفي وجود شيء في القرون
الخالية لا يمكن إلا إذا كان وجوده محالاً عقلاً، ووجود رجل اسمه إبراهيم غير
محال عقلاً، وقد جاء خبر الوحي مؤيدًا لخبر البشر المشهور أو المتواتر , وهو
أقوى منه متى ثبتت صحة الوحي , وهي ثابتة عند أهلها , فإذًا لا يمكنهم الجمع
بين التصديق بالوحي , وإنكار وجود إبراهيم.
نعم قد يوجد شبهات تاريخية قوية تعارض إثبات وجود رجل مشهور خبره
غير متواتر , أو تُعارِض دعوى تواتره , كقول بعض من أنكر وجود المسيح عليه
السلام: إن يوسيفوس مؤرخ اليهود الشهير لم يذكره في تاريخه , مع أنه كان في
العصر الذي قالوا إنه وجد فيه , وقد ذكر من تاريخ اليهود ما هو دون مسألة وجود
المسيح , فليس من المعقول أن يحفل بتلك الأخبار الصغيرة , ويسكت عن هذا النبأ
العظيم الذي هو أهم ما عزي إلى تاريخ قومه عندهم , إذ كانوا كلهم ينتظرون قيام
المسيح , ولا يزالون كذلك إلى اليوم.
وقد رددنا هذه الشبهة بأنها أمر سلبي , قد يكون له علة أقربها إلى التصور أن
هذا المؤرخ لم يصدق دعوى المسيح؛ فأحب أن لا يذكرها لئلا تكون فتنة لبعض
قارئي كتابه , فيكون كالداعية له.
ومثل ذلك إنكار بعضهم لوجود (هوميروس) شاعر اليونان , وزعمهم أنه
رجل خيالي , نسب إليه ذلك الشعر الكثير البليغ , ولا بدع في ذلك , فالقصص
الخيالية والأبطال الخياليون مما عهد وكثر في تاريخ الإغريق، ومثله (مجنون
ليلى) في تاريخ العرب , المشهور أنه رجل من بني عامر اسمه قيس كان يعشق
امرأة اسمها ليلى , وجن بحبها؛ فلقب بمجنون ليلى , وشبب بها بأشعار اشتهرت
في الأدب العربي شهرة واسعة , وقيل: إن هذه الأشعار لرجل من بني أمية نسبها
إلى قيس العامري؛ لأجل إخفاء اسمه.
بقي شيء لا ينكره علماء المسلمين , وهو يقرب مما عليه أهل الكتاب في
التفرقة بين ما جاء به الدين من أصول الإيمان بالله واليوم الآخر , وعالم الغيب،
وأصول الآداب الدينية والعبادات , وأحكام التشريع - وبين ما يذكر في الكتب
الإلهية من أمور الخلق والتكوين وأحوال المخلوقات العلوية والسلفية.
وذلك أن القسم الأول هو المقصود بذاته؛ لإصلاح أمور البشر , وتزكية
أنفسهم , وتهذيب أخلاقهم , وإعدادهم لحياة أعلى من الحياة الدنيا , فهو يؤخذ برمته
لذاته , كما أمر الله ورسله.
وأما القسم الثاني فإنما يذكر في الكتب الإلهية؛ لبيان آيات الله في خلقه الدالة
على وحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته , وسائر صفات الكمال الثابتة له، ولأجل
الموعظة والعبر , ولا يراد من ذكرها ما يريده أهل الفنون والصناعات , ولا
مدونو التواريخ من بيان حقائق أمور العالم العلوي والسفلي بقدر الطاقة التي
توصلهم إليها أبحاثهم , كعدد الكواكب وأبعادها ومساحتها وحركاتها وطبائع المواليد
الثلاثة , وسنن الله فيها ومنافعها ومضارها , وغير ذلك مما جعل الله في استطاعة
البشر الوصول إليه ببحثهم وحدهم , بدون توقف على الوحي الإلهي.
ويرى السائل هذا المعنى في الجزء الأول وغيره من تفسيرنا , فإذا وصل
بحث الباحثين في أمور الكون إلى حقيقة مخالفة لظاهر الوحي فيها , وصار ذلك
قطعيًّا؛ وجب تأويل عبارة الوحي فيها بحملها على التجوز أو الكناية أو مراعاة
العرف , كغروب الشمس في العين أو البحر مثلاً , وتخبط الشيطان للمصروع في
قول.
ونعتقد نحن معشر المسلمين أن من مزايا كتابنا أنه ليس فيه نص قطعي
الدلالة يمكن أن ينقضه دليل عقلي أو علمي قطعي , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
وغيره , ولا يستطيع أهل الكتاب مثل هذه الدعوى في كتبهم.
ولكن المسلمين على موافقة كتابهم وقطعيات دينهم للعقل , وعدم تعارضهما
مع العلم قد استحوذ على أكثرهم الجهل به من الجهتين الروحية والاجتماعية , فلا
يشعرون بالحاجة إلى الاعتصام به كما يشعر أكثر النصارى في الغرب بالحاجتين ,
ويبذلون الملايين في خدمة دينهم ونشره , على ما في نصوص كتبه من مخالفة
العقل والعلم التي لم يسعهم إنكارها، حتى قال أعظم رجل فيهم: إنه لا يضرنا
ثبوت اقتباس شريعة موسى من شريعة حمورابي , ولا يحملنا على ترك هداية
الكتاب المقدس؛ إذ لا يوجد لدينا كتاب غيره تعرف فيه الرب إلى خلقه بصفوة
أنبيائه ورسله - أو ما هذا معناه.