سافر ابن رفادة ومن معه من مصر إلى الحجاز من طريق سينا بجوازات مصرية إلى العقبة، ولقوا في كل مكان غاية المساعدة فدخلوا أرض الحجاز وتبعهم أعوانهم الذين سافروا من شرق الأردن إلى العقبة يحملون بعض الدراهم والأسلحة على مسمع ومرأى ممن ثم من رجال الإنكليز في هذه الأمكنة كلها، مع إغضاء وتصامم بحيث لا تقوم عليهم حجة بأنهم أغروا أو ساعدوا أو وافقوا على شيء، بل كانت الدولة الإنكليزية هي التي بلَّغت الحكومة السعودية أنباءهم، وحملت الأمير عبد الله على عزل محمد أفندي الأسد قائمقام العقبة لإذنه لهم، بل مساعدته لهم على الدخول في أرض الحجاز، ثم طفق رجال الهيئة العسكرية من الإنكليز يحصنون العقبة ويجمعون فيها الأسلحة والذخائر الحربية والمؤنة بحجة مساعدة الحكومة السعودية على الثائرين عليها بمنع وصول المدد والذخيرة إلى فئة ابن رفادة من البر والبحر، ومنع فارتهم من الالتجاء إلى العقبة وشرق الأردن إذا طاردهم الجيش السعودي، وما كان هذا المنع ليحتاج إلى كل هذا التحصين والاستعداد الحربي، على أنه ظل مستمرًّا بعد استئصال هؤلاء الثائرين إلى أن انجلت الجنود السعودية التي رابطت أمام العقبة حامدة شاكرة للقائد الإنكليزي المرابط أمامها في حدودها المقتطعة من الحجاز! ! ! وأما الحكومة السعودية فقد استدرجت ابن رفادة الأعور محضاء الثورة بإرسال رجال من قبائل الحجاز إليه يعدونه بالقيام معه وتعميم الثورة في الحجاز إذا كان لديه المال الكافي لذلك، فأخبرهم بأن المال سيأتي من شرق الأردن، حتى إذا ما اطمأن أحاطت به وبفئته الجنود النجدية فقضت عليهم في معركة واحدة طاحت فيها رءوس ابن رفادة وأولاده ورأس أبي دقيقة أكبر أعوانه، وأُلقيت رأس ابن رفادة إلى الأولاد والرجال يدحرجونها ويدحونها ككرة الصبيان. طيَّر البرق نبأ القضاء على ابن رفادة إلى مصر وأوربة وسائر الأقطار من الطريق الرسمية وطريق الشركات العامة، فكذَّبته جمعية الثورة في عمان وزورت بإمضاء ابن رفادة بلاغًا أرسلته إلى صحف فلسطين ومصر والشام ينبئ بانتصاره وفوزه وامتداد الثورة في البدو والحضر، وأرسلت إليها مقالات أخرى ورسلاً يبثون الدعاية، فكذَّب ذلك كله الأكثرون، وارتاب فيه الأقلون، حتى ظهر الحق واستيقنه الناس أجمعون. استفاد الناس من هذه الفتنة أربع فوائد عظيمة الشأن: الفائدة الأولى: أن سلطان الحكومة السعودية ثابت البواني، راسخ الأركان في بدو الحجاز ونجد معًا كحضرهما؛ فإن شيوخ قبائل الحجاز ورؤساءها استأذنوا جلالة ملكهم في قتال ابن رفادة وهو منهم، ولم يكن أحد يظن هذا لا من الإنكليز ولا من غيرهم، وأما أهل نجد فقد ثارت ثائرتهم كلهم، فأسرع من استنفرهم الملك إلى الحجاز وحدود شرق الأردن والعقبة، وطفق سائر أهل البلاد يستأذنونه في النفير العام والهجوم على شرق الأردن للقضاء على حكومتها وكتب إليه في ذلك علماؤهم وأميرهم سعود ولي عهد الإمام فيهم. الفائدة الثانية: تنبه الأمة العربية في سورية وفلسطين وشرق الأدرن لوجوب الانتصار للدولة العربية المستقلة المعترف باستقلالها المطلق من جميع الدول الكبرى وما يتهددها من الخطر بوجود الإنكليز في خليج العقبة الحجازي وشرق الأردن، وقد أظهرت شعورها هذا في الجرائد وعلى ألسنة الأحزاب والزعماء حتى إن أهل شرق الأردن أظهروا المقت للجمعية المحرِّكة للفتنة عندهم ولأميرهم أيضًا. الفائدة الثالثة: تنبه الشعور الإسلامي العام في الشرق والغرب للخطر على الحجاز باستيلاء الإنكليز على خليج العقبة ومنطقته وسكة الحديد الحجازية، وقد ظهر هذا الشعور كالشمس فيما نشرته جرائد مصر وفلسطين وسورية وتونس والجزائر والهند في المسألة، وعجب الناس لسكوت مشيخة الأزهر عن إظهار صوتها في هذه النازلة الإسلامية التي تنذر المسلمين أكبر خطر على الحرمين الشريفين ولم نبين لهم ما نعلم من سبب هذا. الفائدة الرابعة: وهي نتيجة ما قبلها من الفوائد الثلاث: إحجام الدولة البريطانية عما كانت تريده من افتراص هذه الفتنة لإحداث احتلال عسكري بري بحري في خليج العقبة تسميه مؤقتًا وتعلله بمثل ما عللت به احتلال مصر، واحتلال إسكندر آباد في الهند، وقد رضيت بسبب ما تقدم وخشية تفاقم الخطر أن تبقى منطقة العقبة ومعان تابعة لشرق الأردن في إدارتها إلى أن يبت في أمرها بمفاوضة أخرى مع الحكومة السعودية. ولقد سُرَّ المسلمون كافة والعرب خاصة بتنكيل الحكومة السعودية بهذه الفئة الباغية وشمتوا بمثيريها وهنَّأوا صاحب الجلالة السعودية بهذا الفوز المبين، وما كان فوزه على هذه الفئة القليلة بكبير في نفسه؛ وإنما كانوا يخشون أن تكون سببًا لاشتعال نار الثورة في الحجاز كله، وأكبر ما كانوا يخشونه أن تكون عاقبتها استقرار أقدام الإنكليز في خليج العقبة ومنطقتها إلى معان، وأكبر ما كانوا يرجونه أن يتخذها الملك وسيلة لاستعادة هذه المنطقة إلى الحجاز ومنع الخطر الدائم على الحرمين الشريفين ببقائها تحت سيطرة الإنكليز. ولقد كانت الفرصة سانحة له بارحة للإنكليز والأسباب المرجحة لفوزه كثيرة؛ ولكن رجال حكومته لم يكونوا يعرفونها، وكانت الأراجيف التي أذاعتها المصادر الإنكليزية مما ترجف لها الأفئدة، ولا سيما أرجوفة مساعدة مصر لابن رفادة، فكان يخيل لقراء الجرائد في الحجاز أن حكومتهم مستهدفة لمحاربة بريطانية العظمى ومصر وشرق الأردن في وقت واحد، وكل هذه أوهام، وأضغاث أحلام. من المعلوم باليقين أنه لم يكن يجوز للدولة السعودية أن تبدأ حكومة شرق الأردن الضعيفة بالحرب، فضلاً عن الدولة البريطانية التي هي من أقوى دول الأرض؛ وإنما الذي كان يجب عليها هو أن تنبئ الدولة الإنكليزية بأن شعبها الحجازي والنجدي يطالبونها بما هو حق عليها من استعادة هذه المنطقة الحجازية التي ألحقت بشرق الأردن بغير حق شرعي ولا قانوني، وأنهم مضطربون ثائرون لما جاءهم بطريق العقبة من طلائع ثورة ابن رفادة، وأن العالم الإسلامي كله يطالبها بذلك، فهي لهذه الأسباب مضطرة لاحتلال هذه المنطقة الحجازية مع المحافظة على العلاقة السياسية الودية معها، وتأمين حكومات شرق الأردن وفلسطين ومصر من أدنى اعتداء على حدود بلادها، وتتبع القول الفعل، وقد كتبت مقالاً طويلاً أثبت فيه أن الدولة الإنكليزية ما كان يُعقل أن تحارب حكومة الحجاز؛ ولكنني علمت قبل نشره بجلاء الجيش السعودي عن الحدود وبقاء ما كان على ما كان فأمسكت عن نشرها.