للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كلمة
في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير
(تابع ما قبله)

بعد هذا التمهيد أقول: إن للمسلمين في هذين الكتابين (المغني والشرح
الكبير للمقنع) بضع فوائد:
(إحداها) : أنهم باطلاعهم على أدلة الأحكام يكونون على حظ من البصيرة
في دينهم، كما وصف الله تعالى رسوله وأتباعه بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: ١٠٨) .
(ثانيتها) : أن المتلقي لأحكام دينه من فقه أي مذهب من المذاهب المدونة
يخرج باطلاعه على أدلتها في الكتابين من ربقة الجمود على التقليد المحض المذموم
في القرآن، إلى الاتباع المقرون بالبصيرة الذي اشترطه الأئمة فيمن يتلقى العلم
عنهم كما تقدم.
(ثالثتها) : أن من اطلع على أقوال أئمة السلف وعلماء الأمصار أصحاب
المذاهب المختلفة وأدلتهم عليها، بالطريقة التي جرى عليها صاحب المغني وتلميذه
صاحب الشرح الكبير من احترام الجميع، وتقديم الأقدم في التاريخ على غيره في
الذكر غالبًا يكون جديرًا باحترام جميع العلماء وجميع المذاهب، وعدم جعل المسائل
الخلافية سببًا للتفرق أو التعادي بين المسلمين، ولا للتفاضل المفضي إلى ذلك،
فإن المقلد لأي واحد منهم ينبغي أن يقتدي به في سيرته وهديه.
(رابعتها) أن يعلم أن من أدلتهم ومداركهم ما هو مستند إلى نصوص
الكتاب والسنة القطعية أو الظنية، وما مستنده القياس أو الاستنباط من القواعد
العامة أو الخاصة بمذهب دون مذهب: كالمصالح عند المالكية وغيرهم،
والاستحسان عند الحنفية، وبهذا يعلم غلط من زعم أن المسلمين استمدوا أحكام
المعاملات من القوانين الرومانية، ومن زعم أن جميع ما يذكر في كتب الفقه هو
من شرع الله المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى رتب عليه بعضهم
أن من أنكر شيئًا منه أو اعترض عليه يكون مرتدًّا عن الإسلام، وفي بعض هذه
الكتب أن من عمل عملاً يعد في العرف إهانة لشيء من هذه الكتب أو لورقة فتوى
عالم يحكم بردته، ويقتل إذا لم يتب، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر
المسلمين ولا يرثه أولاده؛ لأنه أهان شرع الله، ويلزم منه كذا وكذا! ! بل قال:
إن إهانة العالم كفر؛ لأنها إهانة للشرع إلخ، فهذه تشديدات ردها المحققون.
والحق أن أكثر ما في كتب الفقه مسائل اجتهادية، وآراء ظنية مستنبط بعضها
من أقوال فقهائهم، أو من علل دقيقة من علل القياس ينكر مثلها أكثر علماء السلف
الصالح، فهي تحترم كما يحترم ما يخالفها في المذاهب الأخر على سواء، من باب
احترام العلم واستقلال الرأي، وعدم جعل الخلاف ذريعة للعداوة والبغضاء في
الأمة الواحدة المأمورة بالاتفاق والاعتصام. ولكن لا يتخذ شيء منها من قواعد
الإيمان، ولا يعد مخالفه كافرًا ولا عاصيًا لله تعالى، سواء كان مستدلاًّ أو مقلدًا
لغيره في مخالفتها، ولا يجعل ضعف شيء منها مطعنًا في أصل الشريعة، كما
يفعل ذلك بعض أعداء الإسلام، بل يستعان بمجموعها على التيسير على الناس.
كان كبار علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من مجتهدي السلف يتحامون أن
يسموا ظنونهم الاجتهادية حكم الله وشرع الله، بل كان أعظمهم قدرًا وأوسعهم علمًا
يقول: هذا مبلغ علمي واجتهادي، فإن كان صوابًا فمن الله وله الفضل، وإن كان
خطأً فمني ومن الشيطان، وكان مما يوصي به النبي - صلى الله عليه وسلم -
أمير الجيش أو السرية قوله: (وإذا حاصرت حصنًا فأرادوك أن تنزلهم على حكم
الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم
الله فيهم أم لا) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، وقال ابن القيم في أعلام
الموقعين: لا يجوز للمفتي والحاكم أن يقول: هذا حكم الله أو أحل الله أو حرم الله؛
لما يجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده , وذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية حضر
مجلسًا ذكرت فيه قضية، وقيل: حكم فيها بحكم الله، فقال: بل حكم فيها برأي
زفر بن الهذيل. هذا في عصور التقليد المحض، ولقد صرنا إلى عصر كثر فيه
استقلال الفهم والرأي مع قلة الإلمام بعلوم الدين، فصارت دعوى كون كل ما في
تلك الكتب الفقهية من دين الله وأحكامه التي خاطب بها عباده , منفرة عن دين الله
تعالى، وسببًا للارتداد والإلحاد، فينبغي أن يقال: إنها مستندة إلى الشرع؛
باشتمالها على نصوصه، وجعلها هي الأصل، وببناء الاجتهاد فيها على أصول ثبتت
فيه، ولكن كل اجتهاد يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب.
(خامستها) أن الذي يقرأ الكتابين أو يراجع المسائل فيهما يقف على
مسائل الإجماع، وهي الواجبة قطعًا على جميع المسلمين، فلا يسع أحدًا منهم ترك
شيء منها إلا بعذر شرعي، والواجب أن تراعى في فريضة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بين المسلمين كافة على الإطلاق، وأما المسائل الخلافية فإنما
يؤمر بالواجب أو المندوب، وينهى عن المحرم أو المكروه منها، من يعلم أن
المأمور أو المنهي موافق له في اعتقاده، سواء كانت الموافقة عن دليل أو عن اتباع
مذهب من المذاهب، أو كان يرجو قبول قوله فيه أو دليله عليه، وقد صرحوا بأنه
ليس للشافعي أن يأمر الحنفي بالوضوء من لمس المرأة، أو أن ينكر عليه الصلاة
إذا لم يتوضأ منه، وما أشبه ذلك , ومنها وهو المراد مما قبله أنها هي الجامعة بين
المسلمين، والمناط للاتفاق والوحدة التي تقتضيها أخوة الإيمان، وهو أهم ما نقصد
إليه من كتابتنا هذه.
(سادستها) أنه يعلم من أدلة المذاهب أن جل الأحاديث التي يحتج بها
أهل الحديث على أهل الرأي وعلى القياسيين من علماء الرواية هي من أحاديث
الآحاد، التي لم تكن مستفيضة في العصر الأول أو نقل عن الصحابة والتابعين
خلاف في موضوعها، فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام الذي جرى عليه
عمل النبي وأصحابه، وليست مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ
الشاهد فيه الغائب، بل كانت مما يرد كثيرًا في استفتاء مستفتٍ عرضت له المسألة
فسأل عنها فأجيب، ولعله لو لم يسأل لكان في سعة من العمل باجتهاده فيها، ولكان
خيرًا له وللناس، إذ لو كانت من مهمات الدين التي أراد الله تكليف عباده إياها
لبينها لهم من غير سؤال، فإنه تعالى أعلم بما هو خير لهم، وقد كان النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - يكره كثرة السؤال ونهى عنها؛ لئلا تكون سببًا لكثرة
التكاليف؛ فتعجز الأمة عن القيام بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوني
ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا
نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه الشيخان
من حديث أبي هريرة، ورواه الدارقطني من وجه آخر، وقال: فنزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: ١٠١)
الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تعتدوها، وحد
حدودًا فلا تقربوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من
غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا حسنه
الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه والنووي في الأربعين، وله شواهد في مسند
البزار ومستدرك الحاكم وصححه وغيرهما.
وفوق كل هذا قول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) ، ومن الجهل الفاضح والجناية على
الدين أن نهدم هذه القواعد والأصول القطعية بأقيسة من ظنون الرأي والقياس، وقد
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب كل مستفت بما يناسب حاله،
وأن بعض فتاواه كانت رخصًا خاصة أو عامة، ومن ذلك أنه رخص لعقبة بن
عامر ولأبي بردة بن نيار بأن يضحي بالجذع (أو العتود) من المعز، وهو ما
رعى وقوي وأتى عليه حول، وقال الجوهري: وخيره ما بلغ سنة. والحديث
متفق عليه والجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، يمنعون التضحية بالجذع من المعز،
ومنه على قول حديث طلق بن علي: إنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -
الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: (إنما هو بضعة
منك) رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، والدارقطني، وصححه بعضهم،
واختلفوا في التصحيح والترجيح بينه وبين حديث بسرة عند الخمسة أيضًا (من
مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ) ، والمحققون من أهل الحديث على ترجيح
حديث بسرة، وأما العمل فقد روي الخلاف فيه عن بعض كبار الصحابة والتابعين
وأهل البيت وعلماء الأمصار.
وحمل الشيخ عبد الوهاب الشعراني الحديثين في ميزانه على مرتبتي التخفيف
والتشديد: أي العزيمة والرخصة كما فعل في جميع مسائل الخلاف، وعلل ذلك
بعلل بعضها معقول، وبعضها لا يعرف مثله إلا عن جماعته الصوفية: ككون سؤر
الكلب يقسي قلب من شربه، أو شرب من الإناء الذي ولغ فيه قبل غسله سبع
مرات إحداهن بالتراب، وقد وافقه علماء عصره في مصر على قاعدته في إرجاع
جميع مسائل الخلاف إلى المرتبتين، وكون أصلها كلها مستمدة من عين الشريعة
على ما في توجيه الكثير منها من البعد، ولعله لرضاهم عن بناء ذلك على
الاعتراف بأن جميع الأئمة المجتهدين على هدى من ربهم؛ وهذا حق من حيث إن
المجتهد إذا أصاب كان له أجران، وإذا أخطأ كان له أجر واحد كما ورد في
الحديث الصحيح، ولكن لا يمكن أن يكون كل اجتهاد صوابًا وهدى، وكل قول قاله
مجتهد حقًّا، وأما العزائم والرخص في الشريعة فحق لا ريب فيه، وفي الحديث
المرفوع (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد
وابن حبان والبيهقي وصححوه، وهو عام، وليست العزائم للخواص والرخص
للعوام، إلا من حيث الخلق والطبع، لا الشرع، وأظهر المسائل في قاعدة
الشعراني ما يدخل في أبواب الطهارة، فإن القطعي منها في القرآن أن الماء مطهر
وطهور، وأن الله يحب المتطهرين، وأن طهارتي الوضوء والغسل فرضان
وشرطان للصلاة، وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: ٤) ، وقوله في
القرآن {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: ٧٩) ، وأن التيمم واجب عند تعذر
استعمال الماء لفقده أو للمرض.
وأما السنة فلم يرد فيها تفصيل قطعي لأعيان النجاسات وأنواع المطهرات،
وكان الأعرابي يجيء من البادية؛ فيسلم، فيعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -
بنفسه أو يأمر أصحابه بتعليمه ما أوجب الله عليه من الوضوء والغسل والتيمم
وأركان الإسلام، وحديث الأعرابي الذي هو عمدة الفقهاء في تحديد أركان الإسلام
مشهور.
ولو كان هنالك نجاسات حكمية تطهيرها تعبدي تتوقف معرفتها على نصوص
تفصيلية خاصة؛ لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تلقينها للأعرابي
وأمثاله، كسائر قواعد العبادة التي كان يتعلمها كل من أسلم، ويبلغه الشاهد الغائب،
كما كانوا يعلمونهم الوضوء والغسل والصلاة مثلاً، ولم تترك النصوص المجملة
الواردة في الطهارة وطلب النظافة بغير بيان تفصيلي، والذي يفهمه أهل لغة
الشرع من ذلك الإطلاق هو طلب التنزه عن جميع الأقذار، والتطهر مما يصيب
البدن أو الثوب أو المكان منها؛ ليكون المؤمن نظيف الظاهر بقدر ما يتيسر له
حسب حاله واجتهاده، كما يجعله الإيمان نظيف الباطن - فالنجس في اللغة هو
المستقذر الذي تنفر منه الطباع، ولفظ النجس لم يرد في القرآن إلا في قوله
تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} (التوبة: ٢٨) ،
الآية والمراد به: النجاسة المعنوية لا الحسية، إلا في قول للشيعة، وورد لفظ
الرجس في تسع آيات أكثرها قطعي في الرجس المعنوي، واحتمال الحسي في
موضعين: أحدهما قوي وهو قوله تعالى: {قُلْ لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام: ١٤٥) : أي الخنزير أو كل ما ذكر. وثانيهما ضعيف جدًّا وهو قوله
تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: ٩٠) ، أما قوة الأول في الخنزير؛ فلأنه كثير التتبع لأكل الأقذار
دائمًا، فهو تعليل لتحريم أكله دائمًا كتحريم الجلالة ما دامت تأكل القذر لا دائمًا،
وأما ضعف الثاني فلأن لفظ رجس خبر عن الخمر وما عطف عليها، وهو لا
يوصف بالنجاسة قطعًا، ولتفسيره في الآية بأنه من عمل الشيطان يوقع به العداوة
والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الخمر غير مستقذرة عند
العرب ولا غيرهم.
وأما أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد فيها هذان اللفظان في
الاستعاذة، وفي لحم الحمر الأهلية، وفي وصف الروث بأنه رجس، وفي رواية
ركس وهو تعليل لكونه لا يصلح للاستنجاء به، وورد أن المسلم لا ينجس حيًّا ولا
ميتًا، وأن الماء طهور لا ينجسه شيء. صححه أحمد، وقيده الجمهور بعدم التغير
بالنجاسة، وبعضهم بحديث (إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث) وسئل صلى الله عليه
وسلم عن دم الحيض فأمر بحته وقرصه ونضحه أو رشه بالماء، وهذا حديث متفق
عليه، وفي حديث آخر غسل الثوب منه بماء وسدر، وورد أن طهور النعلين من
الخبث دلكهما بالأرض، وأن طهور كل أديم (جلد) دباغه، وقال صلى الله عليه
وسلم في الميتة: (إنما حرم أكلها) رواه الجماعة عن ابن عباس مرفوعًا إلا ابن
ماجه، واستدل به من لا يقول بنجاستها، وورد غسل الثوب من المني الرطب،
وتنحيته بإذخرة أو غيرها، وفركه إذا جف، واستدل بهما من قال بطهارته. وفي
حديث أم سلمة: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر، فقال لها صلى
الله عليه وسلم: (يطهره ما بعده) رواه الأربعة، وصح الاستنجاء من البول
والغائط بالحجارة وما في معناها، وهي لا تزيل العين كلها ولا الأثر، والأمر
بغسل العضو من المذي لمن سأل عنه، وينضح الثوب بالماء من بول الغلام الذي
لم يأكل الطعام.
ولما لم يجد العلماء نصوصًا قطعية في أعيان النجاسات والمطهرات غير
أمثال هذه الأخبار الآحادية، اختلف اجتهادهم في فهمها بما نلخص أهمه بالإجمال.
***
المذاهب في النجاسات والمطهرات
قال الإمام ابن رشد الحفيد الأندلسي في (بداية المجتهد) ما نصه:
وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان
ذي الدم (السائل) الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب
حياته , وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت،
إذا كان مسفوحًا أعني: كثيرًا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه وأكثرهم على نجاسة
الخمر، وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين [١] ، واختلفوا في غير ذلك اهـ؛
وقد حصر الإمام الشوكاني النجاسات في الروضة الندية بقوله:
(والنجاسات هي غائط الإنسان مطلقًا وبوله - إلا الذكر الرضيع - ولعاب
كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل
الطهارة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) اهـ؛
وقد علم منه الخلاف في الميتة والدم المسفوح وفي بعض ما ذكره هو خلاف
أيضًا: كلعاب الكلب، وممن قال بطهارته عكرمة ومالك.
واختلف المجتهدون في المطهرات أيضًا فمنهم من يحصر التطهير في الماء
المطلق كالشافعية والحنابلة إلا ما ورد من الاستنجاء بالحجارة ونحوها، وطهارة
جلود الميتة بالدباغ، وطهارة الخمر بتخللها بنفسها، والماء المقيد كماء الورد لا
يطهر عندهم، ويجب عندهم في التطهير إزالة عين النجاسة وصفاتها إلا ما عسر
من لون وريح، وشرطه أن يكون الماء واردًا على المتنجس لا مورودًا إذا كان
قليلاً: أي دون القلتين، وهم أشد الفقهاء توسعًا في النجاسات، ومن مذهبهم أن من
خرج من بين أسنانه دم ولم يطهره بالماء المطلق بقي فمه نجسًا، وكانت صلاته
وصومه باطلين، وإن طال الزمن، مع القطع بزوال النجاسة وأثرها، ولو كان
الصحابة يتطهرون من الدم لتواتر عنهم إذ كانوا في حروب متصلة ولم يكن
لأكثرهم إلا ثوب واحد، وقال الشافعية بالعفو عن النجاسة التي لا يدركها الطرف
كأثر رجل الذبابة، فقالت الحنابلة: بل لا بد من غسل ما تقع عليه وإن لم ير أثره.
وذهب الحنفية إلى أن كل ما يزيل النجاسة من المائعات مطهر، وكذا صقل
الجسم الصقيل: كالسيف والزجاج، وكذا الشمس والهواء والنار، وما يسمونه
انقلاب العين: كالصابون من الزيت النجس - على خلاف في بعض الفروع -
وهؤلاء نظروا إلى مراد الشارع من الطهارة وهو يحصل بذلك، قال في بداية
المجتهد: إن المسلمين اتفقوا على أن الماء الطهور يزيل النجاسة وعلى الاستنجاء
بالحجارة (واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها، فذهب قوم
إلى أن ما كان طاهرًا (فهو) يزيل عين النجاسة مائعًا كان أو جامدًا في أي موضع
كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه،) ، ثم ذكر ما وقع من الجدال بين الحنفية
والشافعية في المسألة، وكون إزالة النجاسة تعبديًّا أو معقول المعنى، واضطرار
الشافعية إلى القول: بأن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في
غيره وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين، وأن المقصود إنما هو إزالة
ذلك الحكم الذي اختص به الماء لا ذهاب عين النجاسة، بل قد تذهب العين ويبقى
الحكم، (قال) : (فباعدوا المقصد، وقد كانوا اتفقوا مع الحنفيين على أن طهارة
النجاسة ليست حكمية؛ أعني: شرعية؛ ولذلك لم تحتج إلى نية - إلى أن قال في
هذا المعنى - وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول: عبادة. إذا ضاق عليه المسلك مع
الخصم فتأمل ذلك، فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع. اهـ؛ أقول: ومن
الغريب أن الذين قالوا: بأن أحكام النجاسة وإزالتها تعبدية أدخلوا فيها القياس
كقياسهم بدن الكلب وشعره على لعابه، وقياس الخنزير على الكلب في كونه يغسل
مما أصابه سبع مرات إحداهن بالتراب.
وكان الحامل لهم على هذا التشديد في أمر النجاسة القول بوجوب إزالتها،
وجعله شرطًا لصحة الصلاة، وهذا محل خلاف أيضًا. (قال) في بداية المجتهد:
وأما الطهارة من النجاسة فمن قال: إنها سنة مؤكدة فيبعد أن يقول: إنها فرض في
الصلاة، ويجوز أن لا يقول ذلك، وحكى عبد الوهاب عن المذهب (أي: مذهب
مالك) قولين: أحدهما: أن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة في حال القدرة
والذكر، والقول الآخر: أنها ليست شرطًا، والذي حكاه من أنها شرط لا يتخرج
على مشهور المذهب من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة إلخ.
وقد استقصى الشوكاني في نيل الأوطار كل ما استدلوا به على اشتراط
الطهارة من النجاسة في صحة الصلاة وبين أنه ليس فيه شيء يدل على الشرطية،
ولكن قد يدل بعضها على وجوب إزالتها، قال: وكون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده
مذهب ضعيف، وبين مطلق الوجوب والشرطية بون بعيد. اهـ.
وجملة القول: إن القطعي المجمع عليه هو أن الطهارة مطلوبة شرعًا، وأن
المفروض منها هو الوضوء، والغسل من الجنابة والحيض والنفاس بالماء والتيمم
عنهما عند فقد الماء أو التضرر باستعماله، وأن مراد الشارع منها النظافة مع
مراعاة اليسر، وعدم الحرج كما قال تعالى بعد آية المائدة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة: ٦) ، وإزالة النجاسة أولى
بهذا؛ ولذلك ترك تفصيل أمرها لاجتهاد الأمة، فاختلف اجتهاد علمائها بما ذكرنا
المهم منه مجملاً. فنظر بعضهم إلى أكمل ما يحصل به مراد الشارع: كالشافعية،
والحنابلة، وبالغوا فيه، ونظر بعضهم إلى أدنى ما كلفته الأمة، وأيسر ما يطلب
من بدوها وحضرها وغنيها وفقيرها؛ كالمالكية وتوسط بعضهم فشددوا في بعض
الفروع وتساهلوا في بعض: كالحنفية.
وقد تقدم أن الأئمة لم يكونوا يعدون اجتهادهم تشريعًا عامًا تكلفه الأمة كما تكلف
العمل بنصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة، ولا سببًا للتفرق في
الدين، وأن بعض مقلدتهم شددوا، وعسروا، وجعلوا اختلافهم نقمة لا رحمة؛ حتى
قال بعض متفقهة هذا العصر: بنجاسة كل ما دخلت فيه مادة الغول - (الكحول أو
السبرتو) - من أعطار، وطيوب، وأدهان، وأدوية، وهي كثيرة جدًّا عمت بها
البلوى في الصيدليات، والطب، والصناعات، وشبهتهم أن هذه المادة هي المؤثرة
في الخمور المحرمة، وفاتهم أنها هي المؤثرة في كل المختمرات المحللة بالإجماع
كخميرة العجين أيضًا، على أن هذه المادة أقوى من الماء في التطهير
وإزالة عين النجاسة وصفاتها كما شرحناه في مواضع من المنار.
وإنما غرضنا هنا أن نبين أن يسر الشريعة وحكمة التشريع وكون الاجتهاد
رحمة للأمة إنما يعرف من مجموع كلام المجتهدين، ويفوت من قصر نظره على
مذهب واحد من مذاهبهم، وأن طلاب الإصلاح للأمة الإسلامية ما زالوا يقترحون
تأليف جمعية من علماء المذاهب المتبعة كلها، تضع للأمة كتبًا في العبادات
والمعاملات، تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، ومن اجتهاد جميع المجتهدين،
يراعى فيها اليسر، ورفع الحرج، ودرء المفاسد، ومراعاة المصالح، ومراعاة
العرف، وغير ذلك من القواعد العامة، وهذان الكتابان من أعظم الوسائل لذلك فهو
الفائدة السابعة لما تقدم من فوائدهما، وما وضعناه عليهما من التعليقات فبهذه النية،
ونسأله تعالى أن يعيد لهذه الأمة وحدتها وهدايتها وعزتها، ولن يصلح آخرها إلا ما
صلح به أولها، والحمد لله أولاً وآخرًا.