للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ملوك المسلمين والتاريخ
كان الملوك ولا يزالون في الشرق فتنة للأمم وبلاء على التاريخ، إذ هم
الذين يحملون الكاتب على ستر الحقائق، والتمويه على الناس بجعل الباطل حقًّا،
وإلباس القبيح ثوب الحسن، وكلما ترقت الأمم والدول الغربية وعلت تتدلى الشعوب
والحكومات الشرقية وتسفل، فلقد كان مؤرخو الشرق الغابرين - لا سيما المحدثين
منهم - أكثر حرية من مؤرخيه الحاضرين، لذلك كانوا ينتقدون أعمال الخلفاء
والملوك الذين كانوا أحسن حالاً من خلفهم، ويشرحون سيئاتهم من غير مبالاة،
ومؤرخو عصرنا هذا عامة وأصحاب الجرائد منهم خاصة يقدسون الملوك الأمراء
وينزهونهم، خداعًا لعامة الناس، وتغريرًا بهم، ولولا أنهم صبغوا ذلك بصبغة
دينية لما كنا نحفل بالبحث فيه، ونعنى بكشف الحجاب عنه، فإننا وقفنا جريدتنا على
خدمة الملة والأمة، لا على القدح والهجاء، أو المدح والإطراء، وسنبين الحق في
جميع ما يتعلق بشؤون الملوك والأمراء الدينية، حفظاً للدين وأحكامه أن تكون سياجًا
للظلم وآلة للغش، ونكتفي الآن بذكر مسألة نعرضها على أرباب الجرائد المتملقة
من المؤرخين الكاذبين، ونرغب إليهم بيان ما عندهم من الأعذار المنتحلة وهي:
الحج ركن من أركان الدين الإسلامي، وقد ورد في الأحاديث الشريفة ما معناه:
أن مَن مات ولم يحج وهو مستطيع فلا عليه أن يموت غير مسلم وقال الخليفة
الأعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عليه الرضوان: (لقد هممت أن أبعث
رجالاً إلى الأمصار، فينظروا كل من له جِدة ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية، فما
هم بمسلمين) .
قال العلامة ابن حجر: ومثل ذلك الحديث لا يقال من قِبل الرأي، فيكون في
حكم المرفوع، ومن ثم أفتيت بأنه حديث صحيح، ثم إن اجتماع الحج هو أعظم
اجتماع في العالم؛ لأنه مع كونه دينيًّا فيه من الفوائد المدنية والسياسية ما لا يخفى،
ولإمام المسلمين في الموقف الأكبر فيه وظيفة الخطابة التي تجمع القلوب وتوحد
وجهتها بوحدة التعليم والإرشاد، إذا جاءت على وجهها الصحيح.
وقد كان الخلفاء والملوك يؤدون فريضة الحج مع بُعد عواصمهم، وتنائي
ممالكهم، وعدم إمكان الوقوف على ما يجري فيها مدة سفرهم، فلماذا أهمل ملوك
المسلمين في هذه الأزمنة أمر هذه الفريضة ولم يبالوا بهذا الركن العظيم الذي هو
دعامة بقاء سلطتهم، لو اهتدوا إلى إقامته وحافظوا عليه، كما يجب مع أنه يتسنى
لأكثرهم الوقوف على أحوال مملكته تفصيلاً في كل زمان وفي كل مكان.
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إن ملوك أوروبا وقياصرتهم وعواهلهم
(إمبراطوريهم) لو وجدوا سبيلاً إلى شهود هذا الجمع الأكبر (الحج) لأقبلوا عليه،
فما بال أهله - وقد فُرض عليهم - لا يسعون إليه؟ ! نرجو الجواب (من الجرائد)
عن هذا السؤال، ولنا على كل جواب مقال.