في غرة جمادى الأولى من هذا العام رزئت مدينة بيروت، بل القطر السوري، بل الأمة العربية والملة الإسلامية بوفاة فرد من أفرادها، وبدل من أبدالها، وشهيد من شهداء الحق، وحجج الله تعالى على الخلق، صديقنا الوفي وأخونا في الله عز وجل، وأحد تلاميذ شيخنا الأستاذ الإمام ومريديه في ديار الشام، وبتربيته وإرشاده كان من أركان الإصلاح في العلم والعمل، والأخلاق والأدب، ومن الكُتاب المجيدين، والخطباء المؤثرين - الأستاذ السيد عبد الباسط فتح الله رحمه الله تعالى وأثابه، وأحسن مرجعه إليه ومآبه، ثم أحسن عزاءنا وعزاء أهله ووطنه عنه، وعظَّم أجرنا جميعًا بمصابنا فيه، توفاه الله تعالى عن ستين سنة هجرية كاملة، إثر مرض طويل أعيا الأطباء، وتعذر الشفاء. وقد كبر مصابه على عارفي فضله، فأبَّنوه عند دفنه، ثم أقاموا له حفلة تأبين في اليوم الأربعين من تاريخ فقده، تبارى فيه خطباء بيروت وشعراؤها في رثائه، وذكر مناقبه نظمًا ونثرًا. وإننا نقتبس ترجمته التاريخية مما ألقاه في تلك الحفلة صديقنا وصديقه الأستاذ الشيخ أحمد عمر المحمصاني الشهير، وهو مأخوذ من ترجمته لنفسه التي نشرتها مجلة المجمع العربي في دمشق ومما عرفه المترجم بنفسه منه وعنه بطول المعاشرة في القرب، وكثرة المكاتبة في البعد، كُنا قد كلفناه كتابة ذلك لأجل نشره في المنار، فكتبه وألقاه في حفلة التأبين ثم أرسله إلينا فلخَّصنا بعضه وتركنا أقله وأثبتنا أكثره بحروفه فمما ذكره المترجم أن كلاًّ من والديه رحمهما الله تعالى (من أسر بيروت القديمة ولنسبهما صلة بأهل البيت النبوي الكريم) ومما بلغنا من صفة والده أنه كان رجلاً صالحًا تقيًّا، وحدَّثنا الفقيد عنه أن الشيخ يوسف النبهاني (الخُرافي الحشوي المعروف) حمله عند سفره إلى الحج بعض كتبه لأجل توزيعها في المدينة المنورة فكان من أمره أنه قبل وصوله إلى المدينة بليلة واحدة - على ما أذكر - رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فأمره ألا يدخل مدينته بتلك الكتب، وفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنها، فألقاها أو دفنها في مكان قبل دخولها، ولما عاد من الحج جاء الشيخ النبهاني للسلام عليه في داره وكان عنده كثير من الزائرين، فلما دخل عليه ودنا منه ليعانقه لم يملك لسانه أن قال له: يا شيخ يوسف إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راض عنك، فبُهت النبهاني وأحجم لقوله، واستغرب الحاضرون ذلك ووجموا لسماعه، فذكر لهم رؤياه المذكورة، ثم قال المترجِم: (نشأته) ولد عام ١٢٨٨ هجرية، وتعلم القراءة والخط وأوليات الحساب في مدرسة المرحوم الشيخ حسن البنا، ثم في سنة ١٣٠٠ دخل المدرسة السلطانية التي فتحت في بيروت، فتعلم فيها العربية والتركية والإفرنسية وما إليها من الفنون، وكان من أساتذته فيها أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده، وعنه أخذ علوم البيان والمنطق والتوحيد والأحكام العدلية (مجلة الأحكام الشرعية) وكانت له به عناية خاصة، فقرأ له في بيته أثناء العطلة المدرسية وليالي رمضان فصولاً من متن التهذيب في علم الكلام والسيرة النبوية. (ولما اضطرب نظام المدرسة بتدخل السلطة العسكرية في إدارتها برحها الأستاذ الإمام، فتبعه المترجَم ولزم مجلسه حتى أشار عليه بدخول الكلية البطركية لإتمام ما كان حصَّله في المدرسة السلطانية من اللغة الإفرنسية والفنون، فدخلها عام ١٨٨٨ وحضر فيها دروس أستاذ اللغة العربية الشيخ إبراهيم اليازجي، ودروس غبطة الحبر العلامة البطريرك ديمتريوس القاضي في الآداب الإفرنسية والتاريخ القديم والحكمة الطبيعية، واكتسب من ميل هذا الحبر ورعايته، ما لا يقل عن اهتمام الأستاذ وعنايته، ثم خرج من هذه الكلية وقد نال شهادتها العلمية، مع جائزة الشرف في العلوم العربية) . (وكان يختلف أثناء العطلات المدرسية، وفي أوقات الفراغ بعدها إلى مجالس الأستاذ المحدث الشهير الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت السابق رحمه الله، فسمع منه مع فريق من طلبة العلم جملة صالحة من صحيح البخاري) . وهنا ذكر المترجِم شيئًا من سيرته في حياته العلمية ثم قال: (خدمته للعلم) بيد أن مشاغله الإدارية والتجارية لم تكن تمنعه مما يهوي إليه فؤاده من خدمة العلم ونشره، فقد دعاه الأستاذ الناهض المقدام الشيخ أحمد عباس إلى معاونته على تأسيس مدرسته الشهيرة (بالمدرسة العثمانية) فلبَّى الدعوة، ونشط للخدمة، إذ وجد فيها متسعًا لتحقيق أمانية في الإصلاح، وظل يتبرع بمشاطرة الأستاذ - المشار إليه - تدبير مدرسته وتنظيمها، ويلقي فيها المحاضرات الأدبية، ويعطي الدروس في الجغرافية والطبيعيات والتعريب، إلى أن قضت السياسة التورانية بإقفالها أوائل أيام الحرب. (على أن سعيه نحو غايته من بث العلم لم يكن لينحصر في سبيل تعليم البنين وتربيتهم، بل كان تثقيف البنات والوفاء لهن بحقهن من العلم والتهذيب مناط همه الأكبر، فبالرغم من المصاعب الجمة التي كانت تعترض الساعين في تنوير الأمة (خصوصًا العربية) أيام عبد الحميد قد وُفِّق مع طائفة من المفكرين الناهضين لتأسيس (جمعية ثمرة الإحسان) بُغية تحسين حالة الأنثى المسلمة، وأنشأوا لها مدرسة حَوَت العدد الجم من البنات، ومن تلميذاتها اليوم من تدير إحدى مدارس الحكومة، واشترك كذلك مع فريق من أصحاب الشأن في تأسيس (جمعية مآثر التربية) التي غايتها معاونة الطلبة المعوزين على تحصيل العلم العالي أو الإخصاء في أحد فروعه في كليات بيروت أو جامعات أوربا، ومن أبنائها من هم اليوم في عداد الأطباء، والمحامين وأهل القضاء. وانتُخب لعضوية (جمعية المقاصد الخيرية) وما زال يدأب في خدمة مدارسها وأنظمتها على نحو خدمته للمدرسة العثمانية، ومدرسة ثمرة الإحسان من قبل، كما أنه قام بتدريس الديانة والتهذيب للصفوف المؤلفة من البنات المسلمات في المدرسة السورية الأهلية) . (أثر قلمه) تراه وهو في غضون تلك الأعمال السابقة يغتنم الفرصة، ويفترص المناسبة لبث الأفكار الصحيحة والمبادئ السليمة، ويلفت الأنظار إلى حقائق الأمور وتعرُّف المصلحة العامة والاعتدال في الأخذ بالجديد والمحافظة على القديم، عاملاً بسنة أستاذه الإمام في الدعوة إلى ترك الجمود على التقليد الضار، وخلط الدين في كل شأن من شؤون الدنيا. (تلك المقاصد والموضوعات تراها منبثة في مقالاته وخطبه جارية من بيانه مجرى الدم من جثمانه، فمن غرر مقالاته المشهورة: النهضة الاقتصادية، الألفة، التمدن، الصدق، التعصب، العلم روح المدنية، والمدنية معنى الإنسانية، الميسر وأضراره، ذكرى من سفر في وصف قلعة بعلبك، المداواة الحديثة، تأثير السجايا في الأعمال، لبوس الصيف والنسيج الوطني، الرقيقة إمبراطورة (كتبها عن هنري إمبراطورة الصين) العافية نور على هام الأصحاء لا يدركه إلا الضعفاء، غريبة في عالم الصناعات، العبادة عادة والدين المعاملة، بحث في الصحافة، اللجان الخيرية، في الكستنا أو الشاه بلوط، الإسلام (مقالة رد فيها على مقال للمسيو كولرات نُشرت في جريدة الدبيش كولونيال بعنوان ضد الإسلام) تصويت النساء، في شأن المرأة، في المدافعة الملية، الهرم، وصية منتحر، احتفال الجمعية الكيماوية، الحكم على الكلاب بالإعدام (يداعب فيها البلدية) المحاميات، عبد الله باشا فكري والهيئة الجديدة (قرَّظ بها رسالة عبد الله باشا فكري وزير معارف مصر في المقارنة بين الهيئة الجديدة وتطبيقها على النصوص القرآنية) ذكرى العاقل وتنبيه الغافل (قرَّظ بها رسالة بهذا العنوان للأمير الكبير السيد عبد القادر الجزائري) مجالس الوعظ في رمضان، الظاهر المألوف من المفروش والملبوس، كلمة في بلدية بيروت، وهذه نشرت في جريدة ثمرات الفنون مع كثير من المقالات. وله مقالة عنوانها (التجارة محور السياسة) نُشرت في الثمرات عدد ١٢٨٤ أتى فيها بالعجب العُجاب في بيان سر الاقتصاد عند الأمم الراقية، وأن التجارة هي حفظ السعادة وقوام العمارة، إلى أن ختمها بقوله: ولو بحثت من الأمور السياسية في أدقها وما قد لا يُشتم منه ريح التجارة لتحققت أن التجارة سره ولبابه، مهما اختلفت مظاهره وتلونت أثوابه، ولأدركت أن التجارة هي غاية السلم، غاية الحرب، محور السياسة، فضلاً عن أنها قطب رحى الحياة المدنية. وله مقالة عنوانها (الإصلاح من طريق العلم والتهذيب) نشرت في العدد الأول من مجلة الكشَّاف، ومما يناسب أن يخص بالذكر في هذا المقام دلالة على شعوره الأدبي ما كتبه بُعيد خروجه من المدرسة في بيان حاجة العربية إلى تأسيس مجمع علمي ينقسم إلى شعب تتفرغ كل منها للعمل في سد جانب من عوز اللغة (الأمر الذي لم يتم لنا إلا بعد ثلاثين سنة) . وإذا تأملت في مقالاته فإنك تجد رجلاً اجتماعيًّا يخوض في مواضيع شتى، وهو هو بقلمه المتين، وعبارته الجيدة، وحجته الناصعة، فبينا تراه يكتب في موضوع أخلاقي يشبعه درسًا، فإذا به في مقال آخر يصف شيئًا فيقربه إليك كأنك تراه ماثلاً أمامك، وتارة تجده في موضوع أدبي أو علمي أو اجتماعي أو زراعي أو تاريخي يوضح لك المحجة، ويقرع الحجة بالحجة. وأما خطبه الممتعة فحدِّث عن البحر ولا حرج، ومن الذي لا يذكر مواقفه في المدرسة العثمانية (الكلية الإسلامية الآن) وأقواله التي تملك الآذان بلا استئذان، مع ثبات جأش، وقوة عارضة، ومتانة في الجمل والكلمات، ورقة في الأسلوب والعبارات، والذين شهدوا خطبه في معنى المسلم وفي الأخوة الدينية، وعن المدرسة الإسلامية في أول نشأتها، وفي الروايات الأدبية وتأثيرها، ومحاضرته عن أبي العلاء المعري وعن التمثيل وفوائده يعرفون المواهب التي وهبه الله إياها، ويدركون عظيم الخطب بفقد الأمة له، وهي في أشد الحاجة إلى العاملين المخلصين المصلحين) . رحم الله منك نفس كريم ... وقليل من النفوس الكرام ثم ذكر مما ترجمه بالعربية عن الفرنسية (كتاب التدريس العلمي ليولبرت أحد نظار المعارف الإفرنسية، وكتاب فلسفة السياسة لغوستاف لوبون، وكتاب الرين ووستفاليا لجول هوره، وترجمة فصل من كتاب سر تقدم الألمان، وهذه الأربعة لم يتمكن من إتمامها، وقد أتم تعريب رسالة (مسألة النساء) لأرنست لوكوفي وجعل لها مقدمة جليلة جدًّا. ومن أهم مميزات الفقيد: الإنصاف في المناظرة والمحاورة، وهذا مما امتاز به وعرفه له مخالطوه ومعاشروه، كما أنه من أكبر الأدلة على المتانة والرسوخ في العلم، ومن أجل المواهب التي يؤتاها النابغون، ولا يوجد بعد العلم حلية لأهل العلم مثل الإنصاف فيه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: ٣٥) . ومن أعظم مميزاته اعتناؤه الكلي بالتنظيم في الأعمال التي أدارها وبالأخص فيما يتعلق بالعلم والتعليم، وما دخل في مصلحة إلا وكان له فيها الأثر الخالد. ... وقد ظهرت هذه الميزة في رئاسته لنادي رأس بيروت فقد وضع نظامه وأحكم أساسه، وتولى بنفسه إلقاء المحاضرات الممتعة والمواضيع النافعة مع بعض إخوانه، ولو قُدِّر لهذا النادي البقاء لكان من مفاخر بيروت الجميلة، ومن أهم الأندية في البلاد؛ ولكن مداهمة الحرب العامة ذهبت بكل ما كان يُنتظر من هذا النادي الجليل في الإصلاح المطلوب. إن الفقيد بسيرته هذه وعلمه الجم، وعلمه الخالص الأتم، كان حجة الله على كثير ممن عرف العلوم العصرية واللغات الأجنبية، ولم تكسب أمته من علمه ومعرفته شيئًا يرقيها ويفيدها بنقل أو تعريب، أو دفاع عن حوزتها وكيانها وعمّا يتهمها به الأعداء من الطعن في معتقداتها أو الحط من مفاخر أسلافها. وحجة الله أيضًا على كثير ممن تذوقوا العلم فوقفوا عند القشور، واشتغلوا بسفاسف الأمور، ولم ينفذوا إلى اللباب، فأضاعوا أنفسهم وأمتهم وضاعوا عن الصواب. حياة كلها علم وعمل، وجهاد وأمل، ودعوة إلى الحق، وثبات وصدق، وصبر واحتمال، وسير حثيث إلى الكمال، مع إنصاف في المناظرة، وأنس في المحاورة، ووقوف عند الحدود الشرعية، ودعاء إلى السنة السنية، ونفور من البدع، لا تأخذه في الحق لومة لائم. فهذه آثار ناطقة بسمو مداركه وعلو مكانته، في أي بحث طرقه، أو أي موضع تناوله، كان ابن بجدته، فقد جمع ما تفرق في غيره اهـ. هذا وإنني أختم هذه الترجمة بالتنويه بمقال كتبه لنا باقتراحنا عن سيرة الأستاذ الإمام في بيروت ليُنشر في الجزء الأول من تاريخنا له، فرحمهما الله تعالى وحشرنا وإياهما مع {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} (النساء: ٦٩) .