انتقدت جريدة (الاتحاد المصري) الغراء على جريدتنا (المنار) وعلى جريدتي (المؤيد ووكيل الغراوين) بمواصلة الكلام على مشروع سكة الحديد بين البصرة وبورسعيد، بل زعمت أننا جعلنا أبحاثنا وقفًا على ترويج هذا (المشروع الإسلامي الخطير) وكررت أسفها لأن أبحاثنا ذاهبة سدى، وأننا لم نتمكن من إتمام ما نسميه (المشروع الإسلامي) وقد انحرفت زميلتنا عن الجادة في هذا الانتقاد في أربعة أمور: (١) قولها: إننا جعلنا أبحاثنا وقفًا على ترويج المشروع، ولا تصح هذه المبالغة فيمن ذكر شيئًا مرتين أو ثلاثًا، لا سيما إذا كان هناك أسباب عارضة دعت لإعادة القول ومرادَّة الكلام، كمراسلة محرر وكيل الفاضل للمؤيد الأغر، وكمدافعة المنار عن نفسه حيث خطئ في بعض قوله. ولا نعني بهذا الكلام التنصل من وقف أبحاثنا على المشروع لأن فيه غضاضة تقتضي ذلك، كلا إن المشروع جدير بأن توقف عليه الأبحاث وتفتل له الأنكاث، ولكننا توخينا بيان الحقيقة فقط. (٢) قولها: إننا لم نتمكن من إتمامه. وإنما نحن باحثون لا عاملون، وقد وفينا البحث حقه بحسب ما عنّ لنا حتى نسبتنا للإفراط. (٣) قولها: إننا سمينا المشروع: (بالمشروع الإسلامي) وتسميته (بالمشروع التجاري العظيم) كانت أتم وأوفق لاتصاله بكثير من البلدان، ومروره في وسط بلاد تدين بكثير من الأديان، ولأن مشروعًا عظيمًا كهذا لا يمكن أن يقوم به أفراد معدودون، ولا بد فيه من الاكتتاب، وهذا لا يمكن أن يحصر في يد فئة معلومة، ومن الضروري أن تساعده البانكات وهي لغير المسلمين، وهذا من عجيب القول، ونرده بأننا لم نسمِّ المشروع بما قال (المشروع الإسلامي) بل سميناه جميعًا: (مشروع سكة حديد ... إلخ) ، وإن أرادت بالتسمية الجعل، أي أننا جعلناه إسلاميًّا، نقول: إن مقترحه اشترط أن تكون الشركة المؤسسة له من المسلمين، وتكلمنا عليه بناء على ما اشترط، وذكرنا منافعه الإسلامية باعتبار كون أصحابه من المسلمين، كالنفع العائد إلى بلاد الحجاز، وكزيادة نفوذ خليفة المسلمين الديني في الممالك التي تشترك في العمل به، كالممالك الهندية، كما هو شأن نفوذ حضرة البابا عظيم النصرانية في بلاد الدولة العلية وغيرها من الممالك التي يسكنها النصارى، وذكرنا منافعه لأهل الشرق عمومًا والعثمانيين خصوصًا؛ لأنه يقع منهم وفي بلادهم، بل ذكرنا منافعه لأهل الغرب أيضًا لسبقهم في ميادين التجارة، وأي مانع يمنع أن يكون للمسلمين شركة مالية، وإن للنصارى شركات مثلها كثيرة. إن كان هذا يعد إجحافًا بحقوقهم فهم السابقون إلى الإجحاف، وما ذكره من العلل للعدول عن جعله إسلاميًّا محضًا، ضعيف لا يفيد المطلوب؛ لأن (مروره في وسط بلاد تدين بكثير من الأديان) لا يضر بأهل تلك الأديان، ولا يمس حرمة معتقداتهم، كما أن السكة الحديدية وسائر المعاملات التجارية التي للإفرنج في بلادنا لا تمس حرمة ديننا، ولم نعارضها بناء على أن أصحابها مخالفين لنا في الاعتقاد. على أن البلاد بالنسبة لمثل هذه الأعمال العامة لا تنسب لساكنيها وإنما تنسب لحكامها، وحكام البلاد التي يمر فيها المشروع مسلمون، ومع هذا كله فإن مشرب جريدتنا (المنار) حث العثمانيين من جميع الملل على الاشتراك في الأعمال النافعة؛ لأنه أدعى إلى التآلف وأسرع في عمارة البلاد، وهذا المشروع من الأعمال النافعة التي نود اشتراكهم في مثلها، وما منعنا عن اقتراح اشتراكهم فيه بخصوصه (مخالفة لمحرر وكيل) إلا أننا اقترحنا امتداد الخطوط الحديدية للحجاز الشريف، ولا يجوز في ديننا أن يكون لغير المسلمين ملك في تلك البلاد؛ لأنها بمثابة الجوامع والمساجد (معابد دينية) . وأما قولها - الاتحاد الغراء - (إن مشروعًا عظيمًا كهذا لا يمكن أن يقوم به أفراد معدودون ... إلخ ما مر) ، فهو ناشئ عن ذهول لا يحتاج إلى الرد، وإلا فكيف يتسنى لصاحبها أن يقول: إن المسلمين أفراد معدودون، وإن الاكتتاب لا يمكن أن يحصر بين فئة معلومة (يعني المسلمين) . وقولها: (من الضروري مساعدة البانكات لها وهي لغير المسلمين) في غاية الغرابة؛ إذ كيف يتصور جناب كاتب تلك الجملة أن جمعية مؤلفة من مسلمي الأرض (كما هو المفروض) تحت رئاسة السلطان الأعظم يمنع عنها مثل البنك العثماني المال الذي قد تحتاجه منه؛ لأنها جميعه إسلامية، ومال البنك لغير المسلمين. يمكننا أن نستدرك على رصيفتنا فنقول: إن جمعية كهذه لو أرادت أن تبني جوامع ومساجد لم يمنع عنها أي بنك المال ما دام في مأمن عليه؛ لأن البنوكة لا دين لها، ولا قوانينها دينية. وإن قالت: إن الشركات المالية أيضًا لا دين لها، فلمَ خصص مشروعكم بالمسلمين، قلنا لها: إن ذلك لما ذكرناه آنفًا من الوجهة الدينية، وكما أن (جلالة السلطان الأعظم لا يفرق بين مذاهب رعيته، ولا يعرف إلا العثمانيين الصادقين) كما قالت، فكذلك نحن تبع لسلطاننا، لا نفرق بين المذاهب في الأعمال التي لا تمس الدين ولا تتعلق به، وأما الأمور التي لها علاقة بالدين فنتمسك فيها بديننا، ولا نعارض أحدًا في دينه، بل نقول كما قال كتابنا العزيز {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: ٦) . (٤) قولها في مباحثنا: (إنها ذاهبة سدى؛ لأن مشروع سكة حديدية تصل بين سواحل الأناضول والبصرة قد منح امتيازه إلى كوتار الفرنساوي) كما روينا ذلك مفصلاً في عدد سابق، ولو تنازل زملاؤنا المعتبرون إلى تلاوة ما كتبناه في هذا الشأن لما تحملوا مشقة البحث والتنقيب لإثبات أمر ونفي آخر. ونحن نقول: إن منا من قرأ ما كتبتْ في ذلك، بل نقلناه في العدد ١٨ من المنار عن الاتحاد، وذلك - إن سلم - لا يمنع من بيان فوائد مشروع عظيم، عرض للبحث والمناقشة والفائدة من البحث الحث على إنشاء ما بقي منه، والترغيب في الاشتراك بالامتيازات التي أعطيت لكوتار ولأنطون بك ما أمكن. أجل إن نيل كوتار امتياز خط من قونية إلى البصرة، والامتياز الذي ناله سعادة أنطون بك يوسف لطفي بخط من مصر إلى الشام عن طريق العريش لم يبقيا من مشروع الفاضل محرر (وكيل) إلا النزر القليل، كما قالت الاتحاد الغراء، فكيف بنا إذا ضممنا إلى هذا ما جاء في الأخبار الأخيرة من طلب الكونت ولدمير كانيتر ابن أخت سفير روسيا في فيينا امتيازًا بإنشاء سكة حديدية جديدة من ميناء طرابلس الشام إلى الكويت على خليج العجم، لا جرم أن هذا إذا تم يذهب بالمشروع المبحوث عنه، حتى لا يبقى له أثر، لكن يبقى بعض النواشط والفروع التي أومأنا إليها، فإذا لم نبادر إليها يغلبنا عليها الغالبون، ويمتلك الأجانب أعصاب بلادنا وعروقها، ويبقى بأيديهم موتها وحياتها، بل تحيا لهم ونحن الذين نموت، لكننا لا ننكر على زميلتنا الاتحاد أننا في شك مما جاءت به من خبر امتياز قونيه والبصرة، وامتياز العريش والشام، وأننا نعتقد أن مولانا السلطان لا يجيب طلب الكونت ولدمير الأخير، فأهمية المشروع الإسلامي باقية على حالها، ولا نفتأ نحث عليها، ولئن فات بعضها فإننا نحض على باقيها، وبالله التوفيق.