للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطبة مِنبرية

نموذج من خطب الشيخ عبد الحق البغدادي الأزهري
إمام وخطيب المسجد ذي المنارات في بمبي (الهند)
الحمد لله الذي أعزّ مَن أطاعه، وأذل مَن عصاه، الحكيم الذي أنزل على
النبي الكريم كتابًا، مَن تمسك به فاز بالسعادة في دنياه وأُخراه، ومَن أعرض عنه
أخزاه وأرداه، وبثوب الهوان كساه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه
وأستغفره، وأسأله التوفيق للسعي والعمل، والابتعاد عن الخمول والكسل، وأشهد
أن لا إله إلا الله، الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والصاحبة والولد، وأشهد أن
سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، قام بأمر ربه خير قيام، اللهم صلِّ عليه وعلى
آله وأصحابه، الذين أزالوا ظلمات الكفر بنور الإسلام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس:
اعلموا أن السبق في مضمار الحياة الدنيوية لا يُنال إلا بالمثابرة على العمل،
والسعي الحثيث، وتقوية الأمل، والاتحاد والاتفاق، والمحبة والوفاق، والتكافل
والتضامن، والتناصر والتعاون، كما لا يأتي التقصير والفشل إلا من الضجر
والكسل، وترك الأسباب والتمسك بشعرات الاتكال، وفتور العزائم في الأعمال،
والتباغض والتخاذل والتحاسد، والتفرق والاختلاف وعدم التعاضد.
ألا وإن الديانة الإسلامية والشريعة المحمدية أمرت بالاشتغال للمعاش والمعاد،
وحثَّت على ترقية النفوس وتقوية الأجساد، وبينت مطالب الحياتين الدنيوية
والأخروية، ووضعت قوانين للعمل لها واضحة جلية، وقد رتبت حصول الدنيا
على إقامة الدين، والتمسك بحبله المتين، كما جعلت أكثر أسباب الفوز بالسعادة
الأخروية موقوفًا على إصلاح الحالة الدنيوية، فلا ينال المسلمون في الدنيا فلاحًا
وعزة ونجاحًا إلا بالدين، ولا يحصدون في الآخرة خيرًا ورضوانًا إلا بإصلاح
مزرعتها ورب العالمين.
فقد دلت الآثار وأفادت الأخبار أن المسلمين لما كانوا متمسكين بالدين،
عاملين بالقرآن العظيم، وسُنة خاتم المرسلين - انقادت لهم الدنيا بأسرها،
وأطاعتهم أمم المعمورة من عربها وعجمها؛ فدوخوا الممالك، ووطأوا بسنابك
خيولهم معظم عواصم المعمور، وما استقروا في مكان إلا مصَّروا الأمصار،
وشيدوا للعلوم خير دار، وأقاموا للمجد والسيادة دعائم، وأحْيَوْا للسياسة معالم،
ورفعوا للدين المنار؛ فأضاءوا للإسلام طريق الانتشار، فانتشر شرقًا وغربًا،
وشمالاً وجنوبًا، ينصب أعمدة المدنية الإسلامية على أساس المحبة القومية،
والمساواة بين أفراد الأمم بلا استثناء، ويُفهمهم أن الأمة كجسم واحد لا تستقيم
أمورها إلا بانتظام سائر الأعضاء، على تلك الحال قضت تلك العصابة المؤمنة
حياتها النشيطة، وها هي آثارها نصب أعيننا منتشرة في أطراف البسيطة -
تخبرنا بأنها فازت من قداح العز والعظمة والجاه في الدنيا بالمعلى والرقيب،
وستنال في العُقبى من الرضاء والخير أوفر نصيب.
أما نحن الخلف الطالح لذلك السلف الصالح فقد هدمنا كل ما شادوه، وأتلفنا
جميع ما أوجدوه وضيعنا سائر ما تركوه، وطمسنا معالم ما أوضحوه، وشوهنا
وجه ما زينوه، وتسربلنا بثياب الرضوخ للمهانة والضَّعَة، وفقدنا أخلاق الشهامة
والشمم والشجاعة، فلم نفُز من الدنيا بغير الخسران، والعِوَز والهوان، ولَجزاءُ
الآخرة أشد وأخزى، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
٢٢٧) ، وما كان تغيُّر حال المسلمين من ذلك العز والرفعة إلى هذا الذل والضعة إلا
بعد أن أعرضوا عن الدين، ولم يأتمروا بأوامر ربهم، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) ?، أفليس من الفضيحة والعار أن
تصيروا - معاشر المسلمين - إلى هذا الصَّغار، والإسلام أمامكم، والقرآن مرشدكم،
وكذلك كان بين الأمم شأنكم، ألم يأنِ لكم أن تتركوا الأباطيل والأوهام، وتتجنبوا
الخرافات التي ألحقت بكم الأضرار الجِسام، وتقيموا الدين الصحيح غير مشوب
ببدعة؛ لتنالوا رضوان الله والغِنَى والرفعة، فاتقوا الله عباد الله، وعودوا إلى التمسك
بالدين يَعُدْ لكم عز آبائكم الأولين، وارجعوا إلى العمل بالقرآن العظيم يرجع لكم بين
الأمم مقامكم القديم، وحافظوا على إقامة السُّنّة يحفظْكم الله من كل محنة، وأنيبوا إلى
الله فإنه يقبل مَن أناب، وتضرّعوا إليه قائلين: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: ٨) .
(الحديث) : عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (مَن تعلَّم كتاب الله،
ثم اتبع ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب) ،
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنِ اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا، ولا
يشقى في الآخرة) ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد تركتكم على مثل
البيضاء، ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك) .
(التلاوة) {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي
هُدًى} (طه: ١٢٣) ٠ ٠ ٠الآيات.