] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ [[*] . الدين كما قالوا: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل، فثمرته سعادة الدنيا والآخرة، ولا تحصل هذه الثمرة إلا بالعمل به والاهتداء بهديه، ولا يكون العمل إلا عن علم ولا الهُدى إلا بهَدي] فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [أي في الدنيا {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: ١٢٣-١٢٤) عن طريق النجاة، والدنيا مزرعة الآخرة ففقد الثمرة الأولى عنوان على فقد الثمرة الأخرى؛ لأنهما معلولان لعلة واحدة، أو مسببان عن سبب واحد، وهو الدين. الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تلقوا الدين من العليم الحكيم، وتصدَّوا لتعليمه للناس بما عهد الله إليهم، فأقاموا البرهان وحاجوا أهل الزيغ والطغيان، حتى أوذوا في الله فصبروا وسعد الناس بهديهم وإرشادهم في دنياهم، وسيسعدون به في أخراهم، وعلماء الدين ورثة الأنبياء ونوابهم الذين يقومون بوظيفتهم؛ لأن الله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب من بعدهم كما أخذه عليهم (لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه) فمنهم من وفَّى بالميثاق، ومنهم الذين نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً، ومنهم ما هو بين ذلك. قد كان علماء سلفنا الصالح خيرًا من سلف سائر الأنبياء، حيث كنا بهم خير أمة أخرجت للناس؛ لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرشدون إلى مصالح الدنيا والآخرة، ثم حصل الفتور في العلم الذي هو روح الدين، وهو ما يودع القلوب خشية الله تعالى، ويزع النفوس عن الشر، ويوجهها إلى الخير الذي فيه سعادة الأمة في أفرادها ومجموعها، حتى قام بعض الأئمة كالإمام الغزالي يرمي العلماء بالتقصير في علوم الدين، ويعذلهم على التوسع في علم الفقه الذي سمَّاه من علوم الدنيا، ولقَّب العلماء المنصرفين في ذلك بعلماء السوء، وذكر أنهم يزعمون بذلك إحياء فرض الكفاية ولو صدقوا لانصرف بعضهم لإحياء سائر العلوم التي تنفع الأمة في الدنيا ولا بد منها، وهي من فروض الكفايات كعلم الطب، وقد أطال في كتابه (إحياء علوم الدين) النعي عليهم والتنديد بهم حتى حملهم ذلك على الطعن فيه بأنه أدخل الفلسفة في الدين وأحرقوا كتابه الإحياء في أسواق القاهرة وغيرها، ثم كتبوه بماء الذهب وقالوا إنه أحسن كتاب أُلِّف في الإسلام وجرى على خطة الغزالي في الانتقاد آخرون. هذا ما كان في القرون المتوسطة إذ العلماء علماء، والمسلمون في عزهم وسؤددهم يفوقون جميع الناس في العلوم والأعمال والقوة والثروة، وعلماؤنا اليوم يعترفون بأن العلم والدين كانا في عصر الغزالي خيرًا مما صار إليه في القرن الذي بعده، وأن التدلي فيهما سار بالتدريج إلى عصرنا هذا، فكل قرن دون ما قبله؛ ولكنهم إذا رُموا بالتقصير في الإرشاد إلى الدين والقيام بحقوقه كما رمى الغزالي علماء عصره يكبر عليهم ذلك، وإن كانوا يفضلون أولئك العلماء على أنفسهم ويرون غاية العلم فهم كلامهم. ولا يطلق لقب علماء الدين على الذين عرفوا من دينهم ما يجب عليهم فقط؛ وإنما يُطلق على الذين عرفوا الفروض العينية والكفائية، وأحيوا سنة الرسل بالتعليم والإرشاد والتبشير والإنذار لجميع الناس، ولا يكفي في هذا أن ينقطعوا عن الناس في مكان واحد من البلد أو القطر يتدارسون فيه اصطلاحات بعض الفنون وقواعدها مع من يحضرهم، ويَدَعُون سائر الأمة وشؤونها. يُعرف الشيء بنتائجه وآثاره، كما يُعرف بمقدماته ومبادئه، وكما يُعرف بذاته وكنهه، وقد تقدم أن نتيجة الدين وثمرته سعادة الدنيا والآخرة، فلو أن علماءه قائمون بوظائفهم حق القيام بحسب ما تعطيهم وراثة النبوة لما سُلبت سعادة المسلمين من أيديهم، ولما صاروا أعداء متخاذلين بعد أن كانوا إخوانًا في الدين، ولما تجرأ المبتدعة والكفار على الطعن بدينهم ولم يجدوا منهم مدافعًا ولا معارضًا، ولا يحسن أن نذكر أخبار بعض المرتدين مع بعض علماء الأزهر فما كل ما يُعْلَم يُقال، ولما أصبح الجهل بالدين عامًّا في جميع طبقات الأمة من الحكام والأمراء إلى الصعاليك والفقراء. أصبحت شكوى المسلمين من سوء حالهم عامة؛ لأن سلطان الأجنبي أصبح فيهم عامًّا، ولا خلاف بين عقلاء الباحثين في أن سبب ذلك هو الانحراف عن صراط الدين ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: ١٤١) وقوله عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) وغير ذلك من الآيات فهل نكابر الحس ونقول إننا منصورون، وأنه ليس للكافرين علينا سبيل ما بوجه من الوجوه كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي؟ أم نقول إن الله تعالى يخلف وعده ولا يصدق كتابه؟ معاذ الله وحاش لله، أم نقول إننا لسنا بمؤمنين؟ أم ماذا نقول؟ أهون هذه الأقوال صعب شديد، وليس لنا مندوحة عن القول الأخير مع التأويل بأن نقول: إننا لسنا بمؤمنين الإيمان الكامل الذي يستولي على الأرواح والنفوس، ويُثقف الأذهان والعقول، ويحمل على الأعمال النافعة التي تُثمر السعادة والسيادة، ولكن لماذا تركنا الإيمان على هذا الوجه النافع المرضي لله تعالى. هل تلقَّى أحد الإيمان على هذا الوجه ثم تركه؟ كلا إنما فُقِد منا هذا الإيمان بفقد العلماء الذين يثبتونه في النفوس، ويودعونه في القلوب، فقد ورد في الحديث (إن الله لا ينزع العلم من القلوب انتزاعًا؛ وإنما يذهب العلم بموت العلماء) . يعتقد المسلمون كافة أن هذا البلاء الذي هم فيه لا ينكشف عنهم إلا بالرجوع إلى دينهم على الوجه الذي يهدي إلى سعادة الدارين بالقيام بمصالح الروح والجسد، والباحثون منهم في حيرة لا يدرون كيف يكون هذا الرجوع؟ وبماذا يكون؟ ولذلك توجهت أنظارهم إلى العلماء؛ لأن هذا الذي يطلبونه لا يكون إلا بالهدي النبوي الذي هو وظيفتهم ولكنهم أهملوها، ومطالبتهم بها تعظيم لشأنهم ورفع لمقامهم وثقة كبرى بفضلهم، تحدث بهذا المحاورون والسامرون، وكتب في موضوعه الكاتبون ؛ ولكن أكثر العلماء عنه غافلون؛ لأنهم لا يبحثون في شؤون المسلمين الاجتماعية ولا ينظرون في مصالحهم الملية، ولما ملأت الشكوى كل مكان، وكادت تصخ منهم الآذان اعترف بحقيقتها منهم العقلاء المنصفون، وأنكرها المكابرون المغرورون، فطفق علماء البلاد الهندية يؤلفون الجمعيات العلمية الدينية: للبحث في هذه الشكوى، وتلافي هذه البلوى، ولم يتنبه في سائر البلاد إلا بعض أفراد لم يظهر لهم عمل، يتعلق به الأمل. أما هذه البلاد المصرية فقد اشتهر فيها مفتيها الأستاذ الشيخ محمد عبده بالغيرة على الإسلام، والسعي في الإصلاح العلمي الديني في الأزهر الشريف وغيره والدنيوي الملي في الحكومة والجمعية الخيرية الإسلامية التي هو رئيسها، وأكثر العلماء لا يزالوا وادعين ساكنين، غارّين آمنين، محافظين على طريقتهم العتيقة في مزاولة بعض الفنون العربية والشرعية؛ وإنما قلت بعضها لأن بعض المقاصد مفقودة من الأزهر كالإنشاء والخطابة وعلم الأخلاق الدينية والتاريخ الإسلامي بفروعه الكثيرة، ولهذا الجامع الشريف الفضل في حفظ ما حفظه من تلك الفنون بالجملة، وإن لم يكن بالطريقة العلمية المقصودة إذ لولاه لتلاشى العلم الإسلامي من هذه البلاد بالمرة؛ ولكنه لم يحفظها على كمالها كما كانت في القرون المتوسطة؛ وإنما حفظ رسومها وأنقاضها وله الفضل على كل حال، ونرجو له الرجوع إلى أحسن مما كان. نعلم مما تقدم أن عقلاء المسلمين يرون أن سعادته بعلمائهم إذا أصلحوا؛ لأنهم كالقلب الذي يصلح بصلاحه الجسد كله كما ورد في الحديث، فلا يسرُّون بشيء كسرورهم من توجه كبار العلماء إلى شؤون المسلمين العامة، ولهذا وقع الحديث الذي دار بين صاحبي السماحة والفضيلة الشيخ جمال الدين أفندي شيخ الإسلام، والشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية في دار السعادة أحسن موقع عند جميع العقلاء والفضلاء؛ لأن اتفاق هذين الشيخين وهما أكبر علماء المسلمين على أن صلاح حال المسلمين إنما يكون بسعي العلماء الموافق لحال الزمان، وبتطبيق العلم على العمل ينهض من همتهم، ويُعَرِّفهم قيمة وظيفتهم العالية، ويحثهم على القيام بها. حديث شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية في العلم والعلماء قال (المفتي بمناسبة كلام مع الشيخ) : إن كان للمسلمين شكوى مما يرونه ماسًّا بشريعتهم، فأجدر بهم أن يشتكوا من أنفسهم لا ممن يعتدي عليهم. الشيخ: لا ريب في ذلك فإن حياة كل أمة تقوم باستعدادها لكل زمان بما يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمان؛ ولكنا نؤمل أن تتغير الحال ويتنبه المسلمون لما فاتهم فيحصلوه، وذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم وحملة شريعتهم. المفتي: نعم ذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم؛ ولكن العلماء في انصراف تام عن شؤون العامة، وقد تركوا هم تلك الشؤون إلى الحكام، ووكلوا بعضها إلى العامة أنفسهم، وجعلوا نصح العامة والخاصة أو الاشتغال بما يهيئ لذلك من العمل مما لا يعني ولم تبق لأحد منهم علاقات مع العامة اللهم إلا أولئك القصاص الذين يسمونهم وعاظًا أو مدرسي مساجد، وما هم من علم الدين وشؤون العامة على شيء وهم يفسدون أكثر مما يصلحون. الشيخ: لا شك أن أغلب المشتغلين بعلوم الدين تنقصهم الخبرة بأحوال الناس ويفوتهم العلم بما عليه أهل العصر، ولو خبروا الزمان وأهله لأمكنهم أن يحموا شرعهم ويعلوا شأن أهل ملتهم، مع أن العالم لا يكون عالمًا حتى يكون مع علمه عارفًا، والعارف هو الذي يمكنه أن يوفق بين الشرع وبين ما ينفع الناس في كل زمان بحسبه، ومن كان بارعًا في العلوم الدينية ولكن لا يعرف حال أهل عصره، ولا يراقب أحكام زمانه فلا يسمى عالمًا؛ ولكنه يسمى متفننًا أعني أنه يعرف فن النحو أو فن الفقه أو ما أشبه ذلك، ولا يسمى عالمًا على الحقيقة حتى يظهر أثر علمه في قومه، ولا يظهر ذلك الأثر إلا بعد علمه بأحوالهم وإدراكه لحاجاتهم. المفتي: ما تقوله سماحتكم هو المعروف عند الأولين من علمائنا، وقد جاء في كثير من كتب السادة المالكية تعريف العالم بأنه العاكف على شأنه البصير بأهل زمانه، وهو تعريف للعالم بالغاية من علمه، والعكوف على الشأن أن لا يضيع العالم زمنه إلا فيما يفيده ويفيد العالم؛ لأن هذا هو شأن العالم الذي ينبغي أن يعكف عليه؛ ولذلك اتبعه بالوصف الآخر، وهو البصر بأهل الزمان؛ لأن البصر بأهل الزمان إنما يدخل في الغاية من العلم؛ لأنه وسيلة للتمكن من العمل به في أهل ذلك الزمان، وكأن صاحب هذا التعريف يقول مَن فرَّط في شيء من زمنه، ولم يستعمله فيما من شأنه أن يستعمله فيه، أو أساء استعماله بسبب جهله بأحوال هذا الزمان، فهو ينثر المقال نثرًا لا يبالي كيف يقع، ولا يعرف هل يصفع عليه أو يخضع له ويخشع، من كان كذلك فهو خارج عن مفهوم العالم لا ينطبق عليه تعريفه، وغاية ما يمكن أن يصل إليه إن عرف شيئًا من العلم أن يسمى حافظًا. الشيخ: نعم إن مما يؤسف عليه الأسف العظيم أن من كان من علماء المسلمين على شيء من العلم؛ فإنما يُعَدُّ في الحقيقة متفننًا، ولا يصح أن يطلق عليه اسم العالم، وبذلك بقيت الشريعة مدفونة في الكتب، وحرمت أرواح أهليها من التمتع بآدابها، ثم تبسم قائلاً: ولعل الذي مال بحملة الشريعة إلى البعد عن شؤون العامة هو أنهم أرادوا أن يخدموا أنفسهم خاصة دون الناس عامةً. المفتي: وهل تُعِدُّ سماحتكم ذلك خدمة لأنفسهم مع ما تراهم فيه من الضعة والخمول وحرمان أعاليهم من الحقوق التي يتمتع بها أسافل غيرهم، وفرار الدنيا من وجوههم وهم أتعب الناس في طلبها، وبغضها لهم وهم أحرص الناس على حبها، وإذا قنع أحدهم بشيء منها فهي وقفة العاجز لا قناعة العزيز، أفما كانوا أعز وأكرم ومقامهم أسمى وأعلى لو كانوا علماء على النحو الذي عرفه أسلافنا. الشيخ: صدقت فإن من أراد أن يخدم نفسه وجب عليه أن يخدم العامة لاندراج المصلحة الخاصة في المصلحة العامة، فإذا ضاعت المصلحة العامة ضاعت الخاصة أيضًا، وإذا حُفظت الأولى حُفظت الثانية. المفتي: نعم يا مولاي هذه هي القاعدة الحقيقية؛ ولكن مدرسي كتب الفقه لا يعتنون بتقريرها لطلبتهم، فهؤلاء الذين سمتهم سماحتكم متفننين لم يروا هذه القضية فيما درسوا فلعل ذلك عذرهم فيما نسوا) اهـ بحروفه عن المؤيد. الفائدة في هذا الحديث هي الإرشاد إلى العمل بالعلم ونفع الناس به، فمن كان يصدق عليه من العلماء يُسرُّ به، ومن كان حجة عليه يستاء في نفسه؛ ولكنه لا يُظهر الاستياء لئلا يكون مسجلاً على نفسه ذلك اللهم إلا أن يُغلب على أمره باعتقاد أن الكلام ظاهر الانطباق عليه عند الناس لعلمهم بأنه لم يُحَصِّل من العلم إلا حفظ بعض الاصطلاحات التي لا أثر لها في علمه، ولا يمكن أن ينفع بها الناس، أو لحسد شديد لمن ظهر الحق على لسانه فهو يكابر الحق ويجادل فيه بعد ما تبين وعلم أنه الحق وأن ما بعده هو الضلال. نُشر الحديث في المؤيد، فذكر المقطم في العدد الذي صدر منه في اليوم التالي لنشره أن العلماء في مصر عمومًا وعلماء الأزهر خصوصًا قد استاءوا منه، ووقع عليهم كالصاعقة، فنشر المؤيد في اليوم الثالث مقالة لبعض العلماء يقيم الحجة فيها على المقطم بأنه ليس من المعقول أن يعلم باستياء العلماء كلهم في مصر صبيحة يوم واحد، فلم يجد المقطم جوابًا إلا أنه استنجد ببعض العلماء المتفننين الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فكتب له نبذة بعد يومين يزعم أنه بيَّن فيها استياء العلماء من حديث الشيخين كأنه حقيقة واقعة، أما السبب الذي كتبه فهو مما يضحك الناس على حماقته، وقد خدم المقطم الإسلام بإظهار سخافته، كأنه يقول هذه أفكار الذين يعارضون كلام الأئمة الراسخين، ولا ندري هل قصد المقطم هذا أم لا؟ زعم ذلك المتفنن أن السبب في استياء العلماء المزعوم أنه يوجد فئة ذات عُدَّة عظيمة يريدون إبطال مذهب أهل السنة، ورأوا أن يسقطوا العلماء من نظر العامة ليتمكنوا من ذلك؛ لأن العلماء هم حراس السُّنة فهم دائمًا يذمون العلماء، وجاء كلام الشيخين في ذم العلماء مؤيدًا لكلامهم! ! ! لعمري لا يقول هذا القول من بلغ أن يكون متفننًا أو حافظًا؛ وإنما هو كلام غبي لم يفهم معنى الكلام، وإن كان لم يعزب عن أفهام العوام، الشيخان يحثان العلماء على العمل بعلمهم، وأن لا يقتصروا على حفظ الاصطلاحات الفنية وهل يمكن أن يحرسوا السنة إلا بهذا؟ هؤلاء البابية قد ألَّفوا كتابًا يريدون به إبطال مذهب السنة، بل والإسلام كله، وقد نشروه حتى في الجامع الأزهر، فهل قام من العلماء الذين سماهم أنصار السنة من حامى عن السنة إلا الأستاذ مفتي الديار المصرية، الذي اتفق مع الأستاذ شيخ الجامع على تأديب ناشره، وغير هذا الفقير الذي رد على كتابهم في المنار، وهؤلاء دعاة المسيحية ينشرون الكتب والجرائد في الرد على الإسلام، وقد اشتغلت بشبههم الأذهان فهل تصدى هو أو غيره من أهل الأزهر للرد عليهم؟ وهذه البدع والمنكرات فاشية فهل أنكرها منهم أحد. يتخذ صاحب المقالة المقطمية اسم العلماء ترسًا يدافع به الحق الذي يكلفه بالعمل، ويَعُدَّ هذا التكليف طعنًا بالعلماء جميعًا كأنه يحكم عليهم بأنه لا يوجد فيهم عامل بعلمه خادم لدينه، ويسمي الذي يعلق آمال المسلمين بهم طاعنًا فيهم، ويزعم أن الأولى تعليق الآمال بالحكام والأمراء وهو يعلم سلطة الأجانب عليهم، فنعوذ بالله من الجهل ونعوذ بالله من الغش. جعل الله علماء الدين الذين أورثهم الكتاب ليكونوا نوابًا عن الرسل في الهدى والإرشاد على ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه لا يعمل به، ومقتصد يشتغل في إصلاح نفسه والعمل بما وجب عليه، وسابق بالخيرات يعمل ويعلِّم الناس ويرشدهم إلى الاهتداء به، هذا التفسير الذي اختاره العلامة البيضاوي وغيره، وهذا القسم الثالث هو الذي تحيا به الملة وتُحفظ السنة وقد ضعف الإسلام والمسلمون بضعفه وكادوا يتلاشون بتلاشيه، وكلام الشيخ والمفتي ينفخ روح الغيرة في القسم الأول والثاني؛ ليرتقوا إلى القسم الثالث، وكلام صاحب المقالة المقطمية يُسجل عليهم بأنهم من القسم الأول أو الثاني ويسمي هذا نصرًا للسنة، وما هو إلا نصر للمقطم وتصديق له بأن العلماء قد استاءوا من كلام الشيخين، ولعله هو الذي غشه أولاً وصدَّقه ثانيًا. عهدنا بهذا المغرور أن يحرِّم نشر الآيات القرآنية في الجرائد، فلماذا ملأ مقالته بالآيات التي حرَّفها عن مواضعها، ووضعها حيث شاء الهوى {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: ٣٧) وعهدنا به يحرِّم الكتابة في الجرائد الإسلامية، ولو لخدمة الملة الحنيفية والدولة العلية فكيف استحل أن يكتب في جريدة يعتقد هو وأكثر قومه - إن لم نقل كلهم - بأنها ضد الدولة وغير خادمة للملة ألم يجد جريدة يدافع فيها عن السنة والإسلام وعلمائه الأعلام إلا هذه الجريدة التي لم تنشأ لهذا القصد، ولولا إرادة تأييد كلامها لما نشرت مقالته، لا نريد بهذا طعنًا بالمقطم؛ وإنما نريد تفنيد هذا المغرور بما هو مسلَّم عنده، وسنبين وظائف العلماء في الجزء الآتي وإلى الله تصير الأمور. ((يتبع بمقال تالٍ))