للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجنسيات العثمانية
واللغتين العربية والتركية

إن من شؤون مدنية هذا العصر المحافظة على أجناس الموجودات حسية
كانت أو معنوية، فترى الغربيين أئمة هذه المدنية إذا رأوا نوعًا من الحيوانات
الأرضية أو الجوية أو المائية أخذ في النقص حتى خيف من انقراضه، حرموا
صيده إن كان مما يؤكل، وقتله إن كان مما لا يؤكل، وإن كان ضارًّا كما يحافظون
على العاديات والآثار القديمة جميعًا، ونراهم أيضًا يرغبون في بقاء نموذج من
الأديان والمذاهب الدينية وغير الدينية، واللغات المستعملة وغير المستعملة، حتى
إنهم أحيوا بعض اللغات التى ماتت وبقي أثرها، وجعلوا يتدارسونها ويتنافسون في
معرفتها.
ما كان لهذه المدنية أن تحافظ على أجناس الحيوان والجماد وتسمح بانقراض
بعض أجناس الناس [١] ، بل هي أشد محافظة على أجناس الناس ومقوّمات
جنيستهم من اللغة وغيرها، واعْتَبِرْ ذلك بالأجناس المكونة لمملكة النمسا
(الإمبراطورية) تَلْقَهُ واضحًا جليًّا.
كان الجنس في العصور الماضية ينقرض بانقراض أفراده كلهم أو جلهم
بالموتان والأوبئة أو بالحرب، وما يعقب الأغلب فيها من العبودية والذل الذي
يقلل النسل رويدًا رويدًا، حتى لا يبقى منهم أحد أو يبقى منهم حثالة ممزقة في
الأرض، لا تسمى شعبًا ولا تعد قبيلة.
وهنا ضرب من ضروب انقراض الجنس يتحقق بانحلال رابطة الجنسية
وزوالها، لا بانقراض الأشخاص وانقطاع الأنساب وهو أن يدخل الجنس في دينِ
جنسٍ آخر أو لغته فيمتزج به ويلابسه في تقاليده وعاداته، حتى يذوب فيه
ويصير من عناصره المكونة لذاته، كما امتزجت الأجناس السورية في الجنس
العربي باللغة في جميع الأفراد وبالدين في أكثرهم، ونسيت جنسيتهم النسبية
وزالت جنسيتهم اللغوية، وصاروا كلهم عربًا.
هذا النوع من زوال الجنس أو الجنسية هو من الترقي والكمال في الإنسانية
لا من النقص أو المرض الذي يعرض لها؛ لأن الإنسان عالم اجتماعي فكلما اتسع
نطاق الاجتماع وقل التفرق والانقسام فيه زادت الإنسانية كمالاً، ولهذا يرى حكماء
الاجتماع أن منتهى الكمال البشري في هذه الحياة أن يكون الناس كلهم أمة واحدة لا
يفرق بينهم نسب ولا لغة ولا وطن ولا دين، ويستحيل أن يتحولوا إلى هذا دفعة
واحدة، وإنما يكون مثل هذا باندغام بعض الأجناس في بعض بالتدريج البطيء، وإن
الأمم الكبرى التي تجتهد بنشر لغاتها وآدابها في أرجاء العالم تطمع كل واحدة منها في
أن تكون لغتها هي لغة البشر كلهم في المستقبل البعيد؛ لكي يكون لها الإمامة وبقاء
التاريخ والذكر في الزمن المستقبل على ما يكون لها من السبق إلى الاستفادة من
توسيع دائرة جنسيتها في الحال. ولا ينافي هذا ما نشاهد عليه الإنكليز - وهم أطمع
الأمم في هذه الغاية - من شدة محافظتهم على جنسيتهم وغلوهم في أثرتهم لما عليه
الإنسان من الحرص والبخل بمميزاته وخصائصه، سواء كانت شخصية أو قومية،
وإن هذا البحث ليتسع لتفصيل ليس هذا المقال بموضعه، وإنما ذكرناه فيه تمهيدًا
ومقدمة لا مقصدًا. وعندي أن الإسلام يرمي إلى هذه الجامعة العامة [٢] .
ومن فروع هذا المبحث التي لا مندوحة عن ذكرها في باب التمهيد؛ أن هذا
النوع الكمالي من زوال الجنسيات أو تحول بعضها إلى بعض، لا يكاد يرضى
شعب من الشعوب بأن يكون هو المدغم في غيره لأجل تحقيقه، فضلاً عن أن
يرضى بذلك إيثارًا لمقومات جنس آخر على مقومات جنسيته، وسبب ذلك ما
ذكرناه آنفًا من حرص الإنسان على خصائصه ومميزاته؛ وإن كانت ضارة كبعض
التقاليد والعادات، وإنما له طريقان: أحدهما الغلب والقهر، وطبيعة المدنية
الحاضرة تأباه؛ لما ذكرناه في فاتحة الكلام. وثانيهما التحالف والاتحاد في المصالح
والمنافع، بحيث يأخذ كل جنس من الآخر أمثل ما عنده بمقتضى سنة الانتخاب
الطبيعي، إلى أن تغلب مقومات جنسية أحدهما في مجموعها على مقومات جنسية
الآخر، ويصيران جنسًا واحدًا وهو ما يطمع فيه بعض الغربيين في مستعمراتهم:
كفرنسا في الجزائر، والشعوب العثمانية أحوج إليه ولن يكونوا أمة واحدة بدونه.
ينتج ما تقدم من المقدمات أن الدولة العثمانية لا تستطيع في هذا العصر أن تحل
رابطة جنس من الأجناس التي تتكون منها أمتها بالقهر والإكراه، ولا بالخلابة
والإقناع، بل سبيلها اللاحب أن تؤلف بينها في المنافع والمرافق، والمصالح
والوظائف، وتوحدها بجنسية الشريعة والقانون، دون جنسية اللغة والدين، حتى
يتمازج منها ما هو مستعد للمزج، وينبذ مزاج وحدتها الجديدة من لا يقبل ذلك من
الأجناس كما ينبذ مزاج الجسم المعتدل ما عساه يدخل فيه من الأجسام الغربية.
أعني بهذا النبذ - واللبيب يفهم - ما تقتضيه طبيعة الاجتماع من ذلك، لا أن
الدولة نفسها تنفي من بلادها الآن بعض الأجناس. ذلك أن الجنس الذي لا تقبل
طبيعته الوحدة العثمانية التي ذكرناها (كجنس الروم فيما يظهر) ؛ لجذب جنسية
أخرى هي أقوى منها في حقه، يتسلل أكثر أفراده في بلادها بالهجرة أو سبب آخر،
ويتصلون بجنسهم الذي تربطهم به عدة روابط؛ لكونه أقوى على جذبهم من الجنس
الذي يرتبطون فيه برابطة واحدة.
أما تنازع البقاء بين الجنسيات اللغوية في الشعوب العثمانية الذي ينتهي
باستيفاء طوره الاجتماعي إلى تغلب الأمثل، فسيكون على أشده بين العربية
والتركية؛ لأنهما اللغتان الحيتان للشعبين الكبيرين في الأمة، والأولى منهما لغة
الدين يكفله منصب الخلافة. والثانية لغة السلطنة الرسمية، وليس للغات سائر
الشعوب شركة في هذه المزايا.
إن الأرمن شعب صغير وعهده قريب بتدوين لغته وجعلها لغة علمية، ولا
يطمع أحد من عقلائه بنشر هذه اللغة في شعب آخر، فهي لغة قاصرة محصورة
غير قابلة لحياة النشر والامتداد؛ لعدم الحاجة إليها عند غير أهلها. واللغة التركية
مزاحمة لها فيهم أنفسهم، فهي أملك لألسنتهم من لغتهم.
وأما الألبان والأكراد: فهم حتى اليوم لم يدونوا لغتيهم، ويجعلوهما لغة علم،
ولا يطمعون في نشرهما وتحويل أحد من الشعوب الأخرى إليهما، والتركية مزاحمة
لهما في الشعبين وكذا العربية لا سيما في بعض بلاد الأكراد؛ كالسليمانية وغيرها،
ثم إن الدين يجذبهم إلى هذه، والإرادة تجذبهم إلى تلك، فزيادة عناية كل شعب من
هذين الشعبين بلغته ومحاولته إحياءها تقليدا لما ذكرناه من طبيعة المدنية الغربية لهذا
العهد، لا يفيده إلا أثقالاً تعوقه عن تحصيل العلوم، ومجاراة غيره بالترقي فيها؛
لأنه إن ترك العربية قصر في دينه الذي هو أعز شيء عليه، وإن ترك التركية قصر
في عثمانيته وما يترتب عليها من الفوائد، فلم يبق إلا أنه يضيع بعض زمن
التحصيل في دراسة لغته القومية، ولا أرى العقلاء منهم يطمعون في تأسيس دولة؛
لأنهم يعلمون أنه لا فرق في ذلك بين شعبيهما وبين الشعب الأرمني؛ من حيث إنه
طمع في غير مطمع يضر الطامع ويضر الدولة، فيقوى عليهما الطامعون فيهما،
ولَضرر الشعب الصغير من أكبر ضرر الأمة الكبيرة. على أنَّ محاولة تمزيق السلطة
محرم في الإسلام، فالشعب الإسلامي الذي يفارق الجماعة يجني على دينه وعلى
دنياه، فالتنازع الحقيقي في لغات الشعوب العثمانية إنما هو بين العربية والتركية.
يرى بعض الترك الغالين في عصبية الجنس أنه ينبغي للدولة أن تجعل اللغة
التركية وحدها لغة التعليم، وتلزم جميع العثمانيين بتعلمها، وتجعلها اللغة الرسمية
في جميع معاملات الحكومة حتى التقاضي والمرافعة في المحاكم، إلى أن تحول
العرب فمن دونهم من العثمانيين إلى الجنسية التركية. ويظنون أن هذا أمر ممكن
حتى في عصر الدستور وما ظنهم هذا إلا إثم وغرور.
ويرى بعض العرب بنزعة دينية وبعضهم بنزعة جنسية أنه ينبغي للدولة أن
تجعل اللغة العربية هي لغة العلم، ثم تجعلها بعد انتشارها اللغة الرسمية؛ لأنها لغة
الشعب الأكبر من الشعوب العثمانية ولغة الدين لجميع مسلميها ومسلمي سائر الآفاق
الذين يرتبطون معها برابطة الخلافة، ويغفلون عما بيناه في القسم التمهيدي من هذا
المقال من شأن المحافظة على الجنسية، لاسيما في شعب يرى لنفسه حق السيادة،
فإن تنازل عنها بالدستور فإنه يصعب عليه أن يترك من مميزاته ما حفظ لنفسه الحق
في استبقائه بنص القانون الأساسي، وهي جعل لغته هي اللغة الرسمية للدولة.
إن غوائل اختلاف اللغة في الدولة لا تنكر، وإن فوائد توحيدها ووحدة الأمة
بها لا تجهل، وإن رجحان العربية في الدين والعلم والسياسة لَهو أوضح وأظهر،
فإنها هي التي تتوفر الدواعي على تعميمها؛ لأن الناطقين بها أكثر من الناطقين
بغيرها، وإرجاعُ القليل إلى الكثير أسهل من عكسه؛ ولأن للترك والكرد والألبان
باعثًا نفسيًا يبعثهم على تعلمها؛ وهو الحاجة إلى فهم كلام ربهم - عز وجل -
وحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وحكم سلفهم الصالح - رضي الله عنهم -
وكتب أئمتهم في التفسير والحديث والفقه وغيرها من علوم الدين - رحمهم الله -
والوقوف على تاريخ دينهم. ومن الجهل أن يقال: إنهم يستغنون عن ذلك كله
بالترجمة لما سنبينه في فرصة أخرى، ولأن جعلها اللغة الرسمية هو الذي يزيل
خطر تفرق الأجناس، فإذا اتفق عليها المسلمون الذين يشاركون فيها غيرهم من
الملل في البلاد العربية، لا يبقى للروم والأرمن سبيل لطلب تعليم لغتهم في مدارس
الدولة، ولا يكون لتعليمهم لها في مدارسهم خاصة تأثير في إضعاف الوحدة؛ ولأنها
لغة حضارة سابقة وعلوم وفنون؛ ولأنها اللغة المشتركة بين جميع المسلمين ولأنه
يمكن أن توسع دائرة نفوذ الدولة بنشرها في الممالك الشرقية التي يكثر فيها
المسلمون: (الصين وجاوه والهند) من غير نفقة توازي عشر معشار ما تنفقه
الأمم الغربية لنشر لغاتها، وتوسيع دائرة نفوذها وتجارتها في الشرق؛ ولأن الدولة
تأمن بذلك من قيام دولة عربية تدعي الخلافة وتنازعها النفوذ في العالم الإسلامي
بنفسها وبمساعدة بعض دول أوربا؛ ولأن في ذلك تحقيقًا لمقصد من مقاصد الإسلام
العالية وهو محو العصبيات الجنسية وتوسيع دائرة الأخوة الإنسانية.
هذه المرجحات لا تعزب عن علم أذكياء المفكرين من الترك، ولو كان أمر
الأقوام والشعوب مما يُتّبع فيه البرهان إذا ظهر لكان حل هذه المسألة من أهون
الأمور. ولكن الأقوام والجماعات تتبع الشعور والوجدان دون العقل والبرهان بل
يقول الفيلسوف الاجتماعي جوستاف لبون: إنها لا تعقل ولا تطيق سماع الدليل،
فلا مطمع إذًا في رضاء الشعب التركي بجعل العربية لغة العلم في الدولة كلها مهما
كان في ذلك من الفوائد وأمن الغوائل؛ لا سيما في هذا العصر الذي اشتدت فيه
العصبيات الجنسية في أوربا من عهد نابليون إلى اليوم، وسرت عدواها إلى البلاد
المجاورة لها.
إذا كنا لا نجد سبيلاً إلى توحيد اللغة؛ لاجتناء فوائده فكيف السبيل إلى اتقاء
غوائل التنازع بين اللغتين السائدتين، وما يتبعه من تحريك عصبية الجنسين الذي
هو أشد الأخطار على الدولة في العهد الذي يجب الإنفاق فيه على تعزيزها
وإعلاء شأنها، والتأليف بين أجناسها وعناصرها جهد المستطاع.
يقول أكثر الباحثين المستقلين من الأجانب والعثمانيين: إن لحل هذا المشكل
طريقًا معبَّدًا ومثالاً متبعًا لا يحتاج معه إلى النظر والاستدلال؛ وهو ما عليه
سلطنة النمسا، فينبغي أن يكون العرب والترك في الدولة العثمانية كشعبي النمسا
والمجر، وأن يكون سائر العناصر العثمانية كسائر العناصر في تلك الإمبراطورية.
أراني بهذا قد وصلت إلى بحث لم أكن أرمي إليه، وطرقت بابًا لا غرض لي
الآن بالدخول فيه؛ باب البحث في المسألة التي يعّبرون عنها بالمركزية
واللامركزية التي هي موضوع الخلاف بين الحزبين السياسيين الطبيعيين فينا وهما:
حزب الاتحاديين وحزب الأحرار، فلندع تنازعهما للزمان يبرم فيه حكمه، ولنعد
إلى موضوع اللغتين فنختم الكلام فيه برأيين؛ أحدهما: ما نراه يرضي المفكرين
ودعاة العلم والسياسة من العرب، والآخر: لأحد المفكرين والخبراء من الترك ولا
ندري أيرضيهم أم لا.
(الرأي الأول) هو أن يكون تعليم كل من الشعبين في المدارس الابتدائية
الرسمية بلغته، وأن يكون تعلم اللغتين إلزاميًا في جميع مدارس الحكومة الثانوية
والعالية، وأن يكون تعليم العلوم في بلاد العرب بالعربية، وفي بلاد الترك بالتركية،
وأن تكون جميع معاملات الحكومة كل ولاية من ولايتهما بلغتها، ويكون في
الولايات العربية قلم ترجمة؛ لأجل مخاطبة العاصمة وتلقي الخطابات منها بالتركية،
وأما سائر الأجناس فيعلمون العلوم بالتركية؛ لأن أكثرهم يعرفها إلا من كان منهم
في الولايات العربية، فإنه يكون تابعًا لأهل ولايته، فإن لم يتيسر تنفيذ هذا الرأي
في مدة هذا الدور الأول لمجلس الأمة، فالرجاء فيما بعده قوي إذا كان الترك كما
نظن يحبون الوفاق. وقد بينا من قبل حاجة الترك إلى تعلم العربية في الجزء
الثاني (راجع ص ١١١ م ١٢) .
(الرأي الثاني) وهو لعبيد الله أفندي مبعوث أزمير أودعه في مقالات له في
التعليم نشرها في جريدة (تصوير أفكار) ، وترجمته بعض صحف بيروت ومصر،
وهذه خلاصته ننقلها عن جريدة الاتحاد العثماني البيروتية قال: أرى خير حل
لمشكلة لغة العلم هو أن يتخذ الأتراك التركية لسانًا علميًا لهم، وأن تؤسس بحماية
الحكومة وتحت مراقبتها مراكز علمية عربية في قواعد الأقطار العربية مثل:
دمشق وأم القرى ودار السلام تسعى في إنهاض علوم الحضارة العربية التي أخذت
تنحط وتضمحل منذ انقرضت السلطنة العربية.
وبذلك تنتشر العلوم والفنون بين الأتراك بلسانهم، وتحفظ الحضارة العربية
وترقى بلسانها الخاص من جهة وبما ينقل منها إلى التركية من جهة أخرى، وينجو
الأتراك من الجهل بالدين، وينهضون من هُوّة التعصب الأعمى التي لا يزالون
ساقطين فيها إلى اليوم، وإن الحكومة لتقدّر الخلافة حينئذ حق قدرها، وتقوم بأعباء
واجباتها، ولو أن الدولة أدركت هذا الحل من قبل وعملت به لكثر سواد الترك
الذين يعرفون العربية، والعرب الذين يتكلمون بالتركية، ولَتحول لسان جميع
العناصر العثمانية: كالروم والأرنؤوط والأرمن وغيرهم بقوة العلم منذ ثلاثة قرون
أو أربعة إلى لسان الترك؛ لسان المعارف والحضارة [٣] .
اضطرني إلى استطراد هذه المسألة مع أنها خارجة عن مبحث المدارس ما
أراه من لزوم تنبيه الأذهان إلى أن من الممكن بل من الواجب اتخاذ التدابير التي
سردْتُها، وإني لست أرى واسطة أحسن من هذه تقطع ألسنة الذين أصبح دينهم في
هذه الأيام الضرب على نغمات الخلافة.
وإن منع دخول المؤيد وغيره من الأوراق المضرة إلى الولايات العربية لا
فائدة له؛ بل ربما زاد انتباه الناس إلى مطالعته.
ليس نشر العلم في الولايات العربية باللغة التركية من الممكن كما أنه ليس
بالمعقول؛ بل العربية فقط تمكن إشاعة العلم ثمّة، وإنّ من الواجب حماية اللغة التي
تريد تعميم العلم بها بين أمة (العرب) ، وحماية الأفاضل أيضًا من أهلها. وإن
إصلاح مدارس القسطنطينية لا يعد حماية للغة العربية؛ لأن إصلاح هذه وتعليم العلم
بها من أقرب طريق، لا يكون إلا بتأسيس مدارس علمية في القطر العراقي
والقطر السوري والقطر الحجازي، وإنشاء مجامع علمية عربية هنالك أعضاؤها
من العرب وموظفون بصورة رسمية.
ومتى تم ذلك نبغ بتلك الأقطار في القريب العاجل، فحول العلم وأرهاط
الفضل وزحف إليهم أصحاب المزايا في الشرق والغرب وفي مصر والسودان، فلا
يمضي الزمن اليسير حتى تنتقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية بكل فروعها،
وسوف تندم الخلافة العثمانية إذا لم تكن هي المتوسطة لهذا النقل والقائدة لهذه
الحركة.
وفضلاً عن ذلك، فإن دولة كالخلافة الإسلامية وسلطنة كالسلطنة العثمانية
تحكم بلاد العرب الذين لا نزال نستنير بأنوار علمهم وفضلهم، لا يمكنها الاكتفاء
بالقسطنطينية وحدها مركزًا علميًا لهذا الملك الطويل العريض، فإن مكة عاصمة
المسلمين أجمعين، وبغداد دار الخلفاء ومنشأ العلوم الإسلامية، ودمشق عاصمة
الخلافة الأموية وأكبر مدن السوريين الذين نهضوا بمعارف مصر ومطبوعاتها
وصحافتها في هذا العصر الأخير، هذه المدن الثلاث يجب أن تكون مراكز عالية
مهمة في هذه السلطنة، وعندئذ يخلف الأئمة البصريين والكوفيين القدماء ببضع
سنين أئمة وأساتذة عراقيون وسوريون وحجازيون، يجعلون دولتنا مدنية نصيرة
للعلم واللغات حتى إذا ما امتد لسان إلى الخلافة يسلقها العلم. اهـ بعبارة الاتحاد.
(المنار)
كنا نتمنى لو اطلعنا على رأيه في المدارس عامة، وإننا نقتبس بعد هذا مقالة
تاريخية في الموضوع من مجلة المقتبس الشهيرة فيها رأي ثالث في المسألة، وهذا
نصها:
العربية والتركية
أصيبت الأمة بعد سقوط دولة بني العباس بفتور غريب في العلم والآراء؛ لِما
عاينته من أهاويل الحروب والفتن، ولَمَّا قامت الدولة العثمانية فجمعت تحت لوائها
الأقطار المختلفة نظرت إلى الأقطار العربية من الوجهة السياسية ولم تُعن بها
ولا بغيرها من الوجهة العلمية الاجتماعية شأنها في عامة أدوارها وأقطارها، ولم
يشذ عن ذلك إلا مصر، فكانت أشبه بمملكة مستقلة حتى بعد استيلاء العثمانيين
عليها، وبعيد أن قامت الدولة تؤسس لها مدارس في العاصمة والولايات؛ لتعلم
العلوم الحديثة، وتستبدل النور بالظلمة والعلم بالجهل، قام محمد علي والي مصر
فنزع القطر المصري من المماليك في الظاهر ومن الدولة في الباطن، وأنشأ فيه
مدارس عربية، وتوفر بدلالة جماعة من مستشرقي الفرنسيس النبهاء على ترجمة
الكتب العلمية من اللغات الأوربية، فانتعشت اللغة العربية في مصر فقط، وظلت
كهف العرب، عنها يأخذون علومهم وموطن الطباعة والكتب والصحف، وبأنوارها
يستضيئون؛ وذلك لغناها العظيم وتاريخها المجيد القديم.
بقي الأمل في نهوض العربية محصورًا في مصر؛ لأن الشام والعراق
والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش أمست
في فتور، وقد أنشئت في تونس وسورية بعض المدارس والمطابع تدرس بالعربية
وتطبع اللازم من الكتب العربية. لكنها لم يمض على تأسيسها بضع سنين حتى
أطفأت شعلتها؛ بما أصاب سورية من بلاء المراقبة وما أصاب تونس من الاحتلال
الفرنسوي والمراقبة واحتلال الغريب مما يقتل روح العلم وينزع حياة النهضة
القومية، وقد أوشكت مصر أن تصاب بضعف لغتها لما احتلها الإنكليز، لولا أن
قامت الأمة وطلبت جعل العربية لغة المدارس الابتدائية والثانوية، فلم تر الحكومة
بدًا من إجابة طلبها.
أما هذه الديار فكان أول ما انصرفت إليه الوجوه [٤] بعد إعادة القانون
الأساسي العثماني مسائل التعليم، فالتركية لسان الدولة الرسمي تريد أن تعلمه
جميع العناصر العثمانية؛ ليجيء منهم في المستقبل مزيج واحد وتقوى وحدتهم
السياسية، وقد نشرت نظارة المعارف برنامجها، ولم نشهد فيه ذكرًا للعربية في
المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، بل قالت: إن تعليم العلوم بالتركية للذكور
والإناث وللصغار والكبار وللعرب والترك والروم والأرمن والبلغار والأرناؤد،
حتى إن المبادئ البسيطة سمحت بتعليمها من العربية تدرس في كتب ألفها أتراك
باللغة التركية، فأدرك بعض الباحثين في أحوال البلاد والعناصر أن غرض
الحكومة من هذه الخطة (تتريك) العرب وغيرهم، وهو عمل إذا كان نافعًا من
حيث السياسة فلا نفع فيه من حيث الاجتماع والعلم خصوصًا بعد أن رأينا أصغر
الشعوب الأوربية تحافظ على لغتها الأصلية محافظتها على أعراضها وأموالها
وأرواحها.
لا بد للحكومة أن تجعل التعليم إجباريًّا في المملكة، فإذا جعلته باللغة التركية
ولم تراع حالة كل قطر ولغة أهله تسوء العاقبة، ولا تأتي الشجرة التي تريد غرسها
الآن بثمرة جَنِية، بل يكون شأن البلاد العقم في العلم والفكر، ومن لم يتعلم العلوم
بلغته هيهات أن يأتي منه عضو يفيد أمته وبلاده، وإذا فعلت الدولة ذلك الآن فتكون
في عهدها الدستوري أظلم منها في عهدها الاستبدادي، وتكون حكومة مصر أرفق
بأهل مصر من حكومتنا بنا؛ لأنها منا، فينتظر عن يدها الكثير، وتلك ليست منهم
وكل شيء تأتي به يعد كبيرًا.
وبَعْدُ؛ فإنْ كانت الحكومة العثمانية لم تنشط للغة العربية في الماضي مع أنها
لغة الدين والآداب والحضارة، فهي لم تضع العقاب في سبيلها مباشرة. ولكن
الغلطة الفظيعة التي ارتكبتها ولا يغفرها لها التاريخ هو أن القائمين بأعبائها منذ
البَدء جعلوا اللغة التركية لغة الدولة الرسمية خلافًا لما جرت عليه دول الإسلام
السالفة: كدولة المصامدة البربر في الغرب الأقصى والأدنى، ودولة الجراكسة في
مصر والشام، ودولة آل أيوب سلجوق التركية في العراق والجزيرة، ودولة بني
بويه الفارسية، ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها
من الدول التي طرحت لغاتها وعمدت إلى اتخاذ اللغة العربية لغة الحكومة والدولة،
فكان الجراكسة والبربر والفرس والأكراد والأتراك يتخلون عن لغاتهم
مختارين، ولا يستعملون في الرسميات غير العربية لغة البيان والعلوم. أما الترك
فجروا على غير سنة الدول السالفة، فلم يروا من المصلحة تعلم لغة عامة المسلمين
في مشارق الأرض ومغربها، واكتفوا بلغة ملفقة بدوية ما برحوا يتوفرون منذ
قرون على إصلاحها، وهيهات أن تكون كما يحبون.
ولما جاء السلطان سليم فاتح مصر والشام، وكان على شيء من المعرفة
يحسن العربية كما يحسن الفارسية والتركية، أحب أن يتلافى الغلط الذي سارت
عليه دولته، وأن يجعل اللغة العربية لغتها الرسمية أسوة بالدول الإسلامية البائدة،
فقام عليه بعض ضعاف العقول من أهل دولته، وأرادوه على العدول عن رأيه مخافة
أن تندثر لغتهم، بل تخلصًا من أن يتعلموا لغة غيرها، فكان عملهم هذا من جملة
السدود التي حالت دون آل عثمان وبسط أيديهم على الممالك الإسلامية المجاورة لهم
واللغة العربية أعظم رابطة بين المسلمين.
ولقد كانت الدولة ولا تزال تُعلَّم في مدارسها الرسمية العربية كما تعلم الفارسية؛
وذلك لأن التركية مزيج من هاتين اللغتين، وبدون معرفة قليل من اللغتين، لا
يتأتى لتركي أن يكتب كتابة صحيحة في لغته، فكان شأنها من بعض الوجوه شأن
المدارس في أوربا، لا تزال إلى اليوم تعلم اللاتينية واليونانية؛ لأنهما أصل لغات
أوربا، وإن كانتا بادتا أو كادتا، ولكن مدارس أوربا أخرجت كتابًا بهذين اللغتين،
ولم نعهد من مدارس الحكومة العثمانية كاتبًا بالعربية أو الفارسية، هذا والتركية
ليست لغة دين، ولا لغة علم، ولا لغة حضارة قديمة، ولا مدنية معروفة
كالعربية التي شهد أهل الأرض بأمجاد أهلها وحضاراتهم. ومن الغريب أنه لم ينبغ
في الدولة العثمانية كاتب عربي من أصل تركي على حين نبغ وينبغ من الفرس
والأكراد وغيرهم أناس يؤلفون بالعربية، فتحسبهم عربًا خلصًا، وإنك لتقرأ
العجمة في كلام ابن كمال باشا وكاتب جلبي وطاشكو بريلي، وغيرهم من الأتراك
الذين عانوا القلم العربي وعدوا في المصنفين ما لا تقرأه في كلام الراغب الأصفهاني
وأبي بكر الخوارزمي وحجة الإسلام الغزالي، بل إن هؤلاء على منشأهم الفارسي
كانوا أئمة الإنشاء العربي.
إذا تعلم أبناؤنا اليوم على الطريقة التركية، لا يلبثون أن يجيئوا أتراكًا،
ويتقنون التركية كأرقى أبنائها، وبذلك لا يخدمون أبناء لغتهم أدنى خدمة، وقد
رأينا معظم الذين تعلموا من أبناء سورية والعراق في المدارس الرسمية، لا
يحسنون التكلم بالعربية العامية فضلاً عن أن يكتبوا سطرين صحيحين بلغتهم، بل
ربما رأيتهم يمزجون المصطلحات التركية وبعض الألفاظ التركية بينا هم يكلمونك
بالعربية، فكان شأنهم في هذا شأن أكثر التوانسة والجزائريين من سكان المدن،
يتكلمون بعربية تكاد تكون أقرب إلى الإفرنجية؛ لما خالطها من الألفاظ الفرنسية
والأسبانية والطليانية.
وقد رأى العقلاء أن أحسن حل لمسألة اللغة العربية في المدارس الرسمية
وأسلمه عاقبة على أجيال الدولة المختلفة هو أن يجعل تدريس العلوم المادية كلها
باللغة العربية: كالطبيعيات والرياضيات والفلك والكيمياء والطب، وأن تجعل
العلوم السياسية كلها باللغة التركية: كالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والحقوق
والاجتماع، وبذلك لا يقع حيف على العرب وهم نصف الدولة أو يزيدون، ولغتهم
أفضل لغات سائر العناصر العثمانية، والمستقبل كفيل بحل هذه المعضلة العلمية.