للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها
حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب
والرأي في مستقبل العرب والشرق
(١)

حقيقة حال اليهود
(١) من الحقائق التي أثبتها التاريخ أن الشعب الإسرائيلي أو اليهودي من
أشد شعوب الأرض شكيمة، وأقواها عزيمة، وأثبتها وحدة، وأعمها تكافلاً، ومن
ثم كان أشدها أثرة وعصبية، وكانت جامعته النَّسبية الملية المزدوجة غير قابلة
للذوبان ولا للاندغام في أية جامعة أخرى من الروابط البشرية كالوطنية واللغوية
وغيرها، فهم يشاركون كل قوم في أوطانهم ويزاحمونهم على منافعها المادية
والمعنوية، ويظلون مع ذلك يهودًا، كما أن جامعتهم لا تقبل شعبًا آخر أن يندغم
فيها، ومن المعروف من تاريخهم أنهم لما احتلوا بلاد فلسطين ظلوا يقاتلون أهلها
حتى غلبوهم عليها، وصار لهم ملك فيها، ثم كانوا يقاتلون جيرانهم من حولها،
ومن قواعد شريعتهم (التوراة) أن يستأصلوا القوم الذين يغلبونهم على أمرهم
(حتى لا يستبقوا منهم نسمة ما) ومن أثرتهم أنهم لا يعترفون لغيرهم بمثل الحق
الذي انتزعوا به فلسطين من أهلها، بل يدَّعون أنها صارت ملكًا لهم إلى الأبد.
(٢) من الحقائق التي أثبتها الوحي مع التاريخ أن الله تعالى بعث فيهم
أنبياء وربانيين، وأئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وعبادًا صالحين، وأن الله
أراهم من آياته وآتاهم من نعمه ما لم يؤت أحدًا من العالمين؛ ولكنهم كانوا
يتمردون على موسى كليمه ويؤذونه في حياته، وقتلوا بعض أنبيائهم من بعده،
وفسقوا عن أمرهم وأمره، وعثوا في الأرض مفسدين حتى إنهم عبدوا الأوثان
مرارًا، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستحلوا ظلم غيرهم وأكل
أموالهم بالربا وغيره، فسلب الله ملكهم ومزَّقهم في الأرض كل ممزق، وسلط
عليهم الأمم تضطهدهم وتستذلهم، قال الله تعالى فيهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ
مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١١٢) فالذلة فقد الملك
والسلطان، وحبل الله ما حباهم به شرعه من حقوق العدل بدخولهم في ذمة الإسلام،
وحبل الناس ما لقوه من حماية المسلمين من قبل، وما يلقونه من حماية بعض
الدول الآن.
اليهود والإسلام والمسلمون
(٣) من الحقائق الثابتة المعروفة في السيرة النبوية والتاريخ الخاص والعام
أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجر من مكة إلى المدينة أقرَّ من كان في أرضها
من قبائل اليهود على دينهم، وآمنهم على أنفسهم وأموالهم، على أن لا يوالوا ولا
ينصروا عليه مشركي مكة وغيرهم من قومه، وكتب بينه وبينهم كتابًا في ذلك
كانوا به أهل عهد وميثاق؛ ولكنهم كانوا (ينقضون عهدهم في كل مرة)
وينصرون المشركين عليه في القتال، والمساعدة بالمال، حتى اضطر إلى قتالهم
وإخراجهم من جواره؛ ولكن أصحابه ومن بعدهم من قومه لما فتحوا البلاد
وسادوا العباد، أنقذوا اليهود من الاضطهاد وما كانت تسومهم الدول والأمم من
الظلم والاستعباد، فلم يذوقوا من طعم العدل في القرون الماضية بعض ما ذاقوا في
ظل الحكومات العربية وغيرها من الدول الإسلامية، فقد كانوا مساوين للمسلمين
في الحقوق وكانوا يتلقون ما يشاءون من العلوم في المدارس والمساجد ببغداد
والأندلس في صفوف المسلمين وحلق دروسهم كأنهم منهم.
اليهود وسلطان الكنيسة
(٤) من الحقائق الثابتة المعروفة في تاريخ القرون الأخيرة أن اليهود الذين
تلقوا العلوم في الأندلس، ولا سيما تلاميذ الفيلسوف ابن رشد كانوا من حملتها إلى
أوربة ومن أسباب انتشارها فيها، وأنهم استطاعوا بتكافلهم وكيدهم أن يثأروا
لأنفسهم ولأساتذتهم العرب من سلطان الكنيسة الكاثوليكية التي اضطهدتهم هم
والعرب في الأندلس بالتقتيل والتشريد والإكراه على النصرانية، وذلك بما ألفوه من
العصبية للعلوم وحرية الفكر التي ناصبت الكنيسة العداء في أوربة، وأثارت عليها
القتال حتى ثلت عرشها وقوضت سلطانها السياسي من العالم.
اليهود والماسونية والمال
(٥) من الحقائق الثابتة الخفية أن الجمعية الماسونية التي ثلت عروش
الحكومات الدينية من أمم أوربة والترك والروس هي من كيد اليهود، وهم أصحاب
السلطان الأعظم فيها، وإن كان ذلك يخفى على كثير من أهلها أو أكثر المنتمين
إليها، ومن غرائب كيد اليهود وقدرتهم التي فاقوا بها جميع شعوب البشر أن
الغرض السياسي النهائي لهم من هذه الجمعية هو تأسيس دولة يهودية دينية في مهد
الدولة الإسرائيلية التي أسسها داود وأتمها سليمان باني هيكل الدين اليهودي في
أورشليم على جبل صهيون، ولهذا سموها جمعية البنائين الأحرار، ويريدون بهم
الذين بنوا هيكل سليمان، وأكثر أفراد هذه الجمعية يجهلون السبب الصحيح لهذه
التسمية، فهل وجد في العالم أعجب وأغرب من قوم يهدمون ما عند غيرهم من
سلطان ديني لأجل بناء مثله لأنفسهم، ويسخِّرون أولئك الأغيار بمكرهم في الأجيال
الكثيرة والقرون العديدة لما لا يعلمون ولا يعقلون؟
(٦) من الحقائق الاجتماعية التاريخية أن اليهود هم الذين وضعوا النظام
المالي الذي هو قطب رحى المدنية الغربية الحاضرة في العالمين القديم والجديد،
وأن لهم به النفوذ الأعلى في جميع الدول والأمم (الرأسمالية) كما يقال في عرف
هذا العصر، ومن عجائب كيدهم واقتدارهم أن أخفوا أنفسهم بصفتهم المالية أن
تظهر في مملكة المال ظهورًا يمكن به لغيرهم أن يسلبوا ثروتهم، أو يغلبوا عليها
بعصبية دينية أو وطنية، كما أمكنهم إخفاء شخصيتهم الملية في الجمعية الماسونية
السياسية السابقة، وكذا الرمزية اللاحقة.
الجزويت والماسونية
(٧) من الحقائق الثابتة التاريخية أيضًا أنه لم يوجد جماعة من جماعات
البشر الدينية والسياسية عرفت كنه كيد اليهود ومكرهم في الأمم ومقاصد الماسونية
وأهلها وتصدت لمقاومتهم وإسقاط نفوذهم - إلا جمعية الجزويت الكاثوليكية، وذلك
أن الكاثوليك يدينون بوجوب الخضوع الديني والسياسي لأحبار رومية رؤساء
الكنيسة المعصومين عندهم، ويعلمون أن اليهود هم الذين ثلوا عرشها بنفوذ الجمعية
الماسونية التي انتظم في سلكها الملايين من النصارى ومن غيرهم وأكثرهم لا
يشعرون، لذلك بذلوا جهدهم في السعي لكشف الأستار عن أسرارها، وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم لصد تيارها، بتتبع عوارها، وتقليم أظفارها، وتحريم الدخول فيها
على من يدينون دينهم الكاثوليكي ويقلدونهم في فهمهم وعملهم به، وقد توسلوا إلى
معرفة أسرارها بعقيدة الاعتراف الديني الذي استباح به كثير من الكاثوليك الحنث
بالأيمان المغلظة، ونقض العهود الموثقة بترجيح العقيدة الدينية، على ما عاهدوا عليه
الجمعية، ولا سيما وقت الاحتضار، حيث يغلب خوف النار على ذلك العار.
من خفي عليه نفوذ اليهود في أحرار أوربة الغربية والوسطى وملاحدتهم وما
كان من حربهم للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، فلا أراه يخفى عليه ما كان
من نفوذهم في ملاحدة الروس الذين أضعفوا سلطة الكنيسة الأرثوذكسية بمجلس
الدوما، ثم أسقطوها بثل عرش القياصرة - دعاتها وحماتها - وتأسيس حكم البلشفية
في تلك الممالك الواسعة، وما كان من نفوذهم في ملاحدة الترك بإسقاط نفوذ الخلافة
التركية العثمانية، ثم بهدم الشريعة الإسلامية من المملكة التركية، وجعل حكومتها
إلحادية تسعى لمحو الإسلام من الشعب التركي ومن الشعوب الأعجمية الإسلامية
التي كانت تابعة لها كالألبان والبوشناق وغيرها كالإيرانيين والأفغانيين.
وهم - أعني اليهود - لا يزالون يدينون الله تعالى بتأسيس ملك ديني مدني
في فلسطين، يكون ملكهم فيه المسيح الذي ينتظرونه منذ ألوف السنين، كما ينتظر
جماعة النصارى والمسلمين المسيح الحق عيسى بن مريم عليه السلام، الذي ورد
في الأحاديث أنه سيقتل مسيح اليهود الدجال - أي الذي ينصبونه في فلسطين -
فعقائد الملل الثلاث في هذه المسألة متعارضة؛ ولكن المسلمين والنصارى فيها
متفقان على تكفير اليهود بجحود المسيح الحق - وهو عيسى بن مريم البتول عليه
وعليها السلام - والطعن فيهما، وكل منهم يؤمن به، على الاختلاف المعروف بينهما
في صفته، وإنما نقول هذا لبيان الواقع المعروف لا لتحريض الفريقين عليهم، على
أنهم استخدموا دول النصارى فظاهرتهم على المسلمين.
(٨) كان اليهود متكلين على ما في كتب أنبيائهم من الإنباء بمجيء مسيح
(مسيا) يعيد مُلك إسرائيل سيرته الأولى ويجمع أشتات أسباطهم ... ويعتقدون أن
مجيئه سيكون بقوة إلهية فوق قوى البشر، كما يعتقد أكثر المسلمين في المسيح
والمهدي المنتظر، فلهذا لم يكونوا يستعدون لاستعادة الملك بسعي الشعب، فلما
طال عليهم الأمد، وكثر فيهم أحرار الفكر الذين لا يؤمنون بهذا الوعد كما انتشر
واستقر، أسسو الجمعية الصهيونية للسعي إلى ذلك بقوة الشعب اليهودي المالية
والمعنوية، وبجعل الاعتقاد التقليدي حاديًا لهم في هذا السعي وقوة روحية تؤيد
سائر القوى الكسبية، وهذا ما نبهنا له المسلمين في أمر المهدي في كتابنا (الحكمة
الشرعية) ثم في المنار، وأين المسلمون من علم اليهود وحزمهم وتكافلهم؟
تأسيس الصهيونية ومؤسسها
إن المؤسس للصهيونية كاتب من يهود بلاد المجر كان من علماء القانون
(اسمه تيودور هرتزل) أنشأ في سنة ١٨٩٦ صحيفة باسم (دولة يهودية) للدعوة
إلى تأسيس هذه الدولة في فلسطين، فتقبلها الكثيرون من اليهود في أقطار العالم
بالبهجة والأمل، وارتاب كثيرون منهم في نجاح هذا العمل، وتأسست الجمعية
الرسمية لها في العام التالي لإنشاء الصحيفة، وطفقوا يجمعون لها الأموال
ويؤسسون الفروع ويعقدون المؤتمرات، حتى إنهم أسسوا لها مصرفًا ماليًّا خاصًّا
وصنفوا لها (دائرة معارف) خاصة، وقد قرر المجمع أو المؤتمر الصهيوني
الأول ما وضعه (هرزل) من غرضها وغايتها وعبر عنه بأنه إنشاء وطن شرعي
للشعب اليهودي في فلسطين تعترف به الدول، فيكونون فيه كالإنكليز في الجزائر
البريطانية، والفرنسيين في فرنسة ... إلخ، فيؤسسون الدولة اليهودية (استعدادًا
لمجيء مسيا المنتظر، الذي تخضع له شعوب البشر) وقرر الوسائل لذلك، وهي
البدء باستعمار فلسطين (١) بامتلاك الأرض وعمارتها بالزراعة والصناعة وسائر
الأعمال الاقتصادية والمهن الحرة، و (٢) بجمع كلمة الشعوب اليهودية في
الشرق والغرب واتحادهم للتعاون على هذا العمل لتلك الغاية، بإنشاء الجمعيات في
كل قطر بما لا يخالف قوانين حكومته، و (٣) بإحياء الشعور الإسرائيلي الملي
وتقوية آماله في مآله، و (٤) بالسعي لدى الدول لنيل عطفها على الصهيونية
ومساعدتها على تحقيق أمنيتها.
وقد افترص الصهيونيون انفجار براكين الحرب العامة في العالم، فكان من
دسائسهم فيها ما بيناه من قبل من خدمة الدولة البريطانية وحملها مع حلفائها على
مكافأتهم على ذلك بالتأييد الرسمي لمقصدها ففعلت، وهذه ترجمة الوثيقة الرسمية
بذلك المعروفة (بوعد بلفور) مثير الفتن، وموقد نار الثورة، وموقظ الأمة العربية
والشعوب الإسلامية من رقادها، كما بلّغه لزعيم اليهود المالي الأكبر:
عهد بلفور الجائر
نظارة الخارجية في ٢ تشرين الثاني ١٩١٧
عزيزي اللورد روتشيلد:
إني بملء المسرة أنقل إليكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي
المفعم بالشعور مع مطامح اليهود الصهيونية، والذي طُرح على هيئة الوزارة
وصدق عليه
أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين الرضا إلى تأسيس وطن قومي للشعب
اليهودي في فلسطين، وهي ستبذل الجهد لتسهيل السبل الموصلة إلى تلك الغاية
على شرط أن لا يحدث ثم شيء يؤدي إلى الإجحاف بحقوق بقية السكان غير اليهود
دينيًّا ومدنيًّا، أو يعبث بالحقوق والسنن السياسية التي يتمتع بها اليهود في أية بلاد
أخرى
وأكون في غاية الامتنان إذا تفضلتم بإطلاع الاتحاد الصهيوني على هذا
التصريح.
... ... ... ... ... ... ... ... ... لكم بإخلاص
... ... ... ... ... ... ... ... أرثور جيمس بلفور

اليهود والهيكل في حكم النصارى فالإسلام
(٩) كانت الحكومات المسيحية قد طردت اليهود من مدينة المسيح الحق،
واضطهدتهم أشد الاضطهاد، وجعلت مكان الهيكل الذي دمره طيطس أخيرًا مزبلة
حتى غمرت الصخرة المقدسة في أعلاه بالأقذار، فلما جاء الإسلام المكمل لدين الله
الذي شرعه على ألسنة أنبيائه وآخرهم موسى وداود وسليمان والمسيح برسالة محمد
خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام - أعاد المسلمون تشريف ذلك المكان الذي سماه
الله تعالى في كتابه بالمسجد الأقصى، وأسرى بعبده ورسوله إليه في أوائل بعثته،
وقبل ظهور أمره، فنظفوه من الأقذار، وبنى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه مسجده هنالك، ثم كان ما كان من أمر تشييد بني أمية للمسجد الكبير
ولقبة الصخرة، وأنفقوا عليه خراج مصر كله بضع سنين، فكان ذانك البناءان
من أعظم مفاخر الصناعة والهندسة في الأرض، وكان المسجد الأقصى أول
القبلتين وثالث الحرمين، وسيبقى كذلك ما دام الإسلام والعرب في الأرض.
وكان من عدل المسلمين ورحمتهم أن رفعوا الاضطهاد عن رؤوس اليهود
وعاملوهم بالعدل والرحمة، حتى إنهم صاروا يأذنون لبعضهم بالإقامة في بيت
المقدس مع تحديد العدد القليل، وكذا بزيارة الجانب الغربي من سور المسجد
الأقصى (البراق) بطلبهم، وكانوا لا يستحلون تجاوزه بمقتضى تقاليدهم، إلى أن
يجيء المسيح الذي ينتظرونه لإعادة الهيكل كله إليهم، وإقامة الشعائر والقرابين
الموسوية فيه بإعادة ملك سليمان لهم، بالرغم من أنوف جميع المسلمين والنصارى
في العالم؛ وإنما كانوا يأذنون لأفراد قلائل منهم بما يتخذون لذلك من الوسائل حتى
المالية، فيقفون أمام ذلك الجدار للذكرى وإحياء الشعور الملي مع البكاء والندب ...
فقوي أملهم بالتكاثر والتملك في المدينة المقدسة وفي سائر بقاع فلسطين، تمهيدًا
لامتلاكها، واستعدادًا لظهور المسيح مجددًا ملك اسرائيل فيها؛ ولكنهم استعجلوا
الشيء قبل أوانه، فعوقبوا بحرمانه.
الصهيونية والعرب
(١٠) ما زال هذا الأمل يقوى ويضعف، ويطفو ويرسب، حتى طمعوا
في عهد السلطان عبد الحميد بإباحة الهجرة والامتلاك بلا شرط ولا قيد، ثم طمعوا
على عهد دولة جمعية الاتحاد والترقي (التي أسقطت هذا السلطان وملكت على من
بعده الأمر بمساعدتهم) في شراء فلسطين من الجمعية ببضعة ملايين من الجنيهات،
ولما علمنا بهذه المساعي توخيت أن ألقى معتمد الجمعية الصهيونية بمصر
فأستعرف له وأعترفه الحقيقة وأُعرِّفه برأي الجمعيات العربية في الأمر، واهتديت
إلى ذلك بسعي بعض معارفي من اليهود. وكان مما كاشفت به المعتمد الصهيوني
أن عزم جمعيتهم على شراء فلسطين من إخوانهم في الماسونية زعماء جمعية
الاتحاد والترقي قد بلغ زعماء العرب المشتغلين بالسياسة وترقية الأمة العربية،
وقرروا فيما بينهم أنه إذا تحقق هذا النبأ ووقع بأي شكل من الأشكال فلا وسيلة
عندهم لمقاومته إلا تأليف العصابات المسلحة من البدو وغيرهم لمقاومة هذا الاعتداء
على بلادهم بكل ما يمكن من وسائل المقاومة المعهودة عند الشعوب الأخرى في
أوربة بإغراء دولها الكبرى وإرشادها، وأنه خير لليهود إذا كانوا يريدون أن يكثروا
في البلاد العربية (فلسطين وغيرها) ويكونوا فيها أحرارًا آمنين متمتعين بما يتمتع
به سائر أهلها من الحقوق المدنية والشخصية أن يتفقوا مع زعماء العرب أنفسهم
على ذلك من وسائل ومقاصد، وأرى أن ذلك ممكن ... ولما فصلت له هذا الرأي
أعجبه وبلَّغه لجمعيتهم وظهر له أثر في مؤتمر (بال) الصهيوني إذ صرح بعض
أعضائه بالخطر الوحيد الذي يستقبلهم من قبائل العرب البدوية.
ثم ذاكرت في هذا الموضع زعيم الصهيونية الكبير الدكتور (وايزمن) بعد
الحرب العالمية والشروع في تنفيذ عهد بلفور في إثر مذكرات أخرى مع بعض
رجال الجمعية في مصر والقدس وقف هو على تفاصيلها كلها، وكان يريد المجيء
إلى مصر قبل الحرب للبحث فيه معي، ومما قاله لي أن رأيي في اتفاق العرب مع
أبناء عمهم العبرانيين ممكن غير خيالي بشرط أن يرضى به أمراء العرب وحكامهم
المستقلون ... ثم انقطعت المذاكرة في هذه المسألة لاعتماد الصهيونيين على قوة
الإنكليز في إعادة مُلك إسرائيل لهم، وكل منهما يمكر بالآخر.
خلاصة القول في قوة اليهود وضعفهم
خلاصة القول في اليهود أنهم شعب من أعظم شعوب البشر يمتازون
بخصائص في العلم والعمل والاقتصاد والاتحاد والتكافل والتعاون والحزم والعزم
ونظام خاص في عمل البر والمعروف والمكر والدهاء والصبر والثبات واحتمال
المكاره وعدم اليأس من مقصدهم الأسمى - وهو المُلك - وإن تعذرت أسبابه وعظمت
صعابه، وإذا كانوا لم ييأسوا في أشد العصور إذلالاً لهم، وأعتى الأعاصير في
تمزيق شملهم، فكيف ييأسون في هذا العصر وهم سدنة هيكل المعبود الأكبر للأمم
والدول العظمى وهو المال، وهم الذين استعبدوهم له، وما لهم بهذا المال في العالم
المدني من النفوذ والصحف والقدرة على الدعاية التي تقلب الحقائق، وتلبس الحق
بالباطل؟
ولكنهم على كل ما أوتوا من هذه القوى المعنوية، ليسوا بأولي قوة حربية؛
لأنهم كما قال الله تعالى فيهم: {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: ٩٦) وقد
فقدوا ملكات الملك والاستقلال، وليس لهم من البراعة في الزراعة واستغلال
الأرضين عشر معشار ما لهم من استغلال النفوذ، فهم يعتمدون فيما يرومون من
الاستقلال في الوطن القومي في فلسطين على قوة الإنكليز تحميهم، وعلى استغلال
أهلها العرب في تعمير ما يسلبونهم من رقبتها بجعلهم أجراء فيها، ولا يهولن أحدًا
طلب عشرة آلاف من شبانهم الأمريكيين إذن حكومتهم لهم أن يذهبوا إلى فلسطين
لقتال العرب؛ لأن الذي جرَّأهم على هذا هو ظل الدولة البريطانية، لا ظل الدولة
اليهودية والراية الصهيونية، ولا شك أن الأمة العربية الحربية بالطبع أقوى منهم
مهما يكن جمعهم وهجرتهم، وقد جمع اليهود وعدوانهم أشتات الشعوب العربية في
أوطانها ومهاجرها، فاتفقوا على الدفاع عن عرب فلسطين وحفظ وطنهم لهم،
واجتمعت كلمة العالم الإسلامي كله على تأييدهم، بل الأمر أعظم من ذلك، ولا قبل
للدولة البريطانية بعداوة العرب والمسلمين، وإن كانت لا تزال مصرة على ظلمها
في فلسطين.
(١٢) لقد كان الخطر الصهيوني على هذه البلاد عظيمًا لو جروا فيه على
النهج الذي أشرنا إليه من أعمالهم في الأمم، من دس السم في الدسم، والصبر
الطويل، مع إخفاء القصد البعيد، بنصب الحبائل الاقتصادية لابتياع الأرض
بالتدريج، وجعل الهجرة إليها بالسير البطيء، ولكنهم استعجلوا، وقد يكون مع
المستجعل الزلل، واغتروا باستخدام القوة الإنكليزية وضمها إلى قوتهم، وقد يحبط
الغرورُ العملَ، وناهيك بغرور الماديين منهم بالمال، وغرور المتدينين منهم
ببشارات الأنبياء، وغرور السياسيين منهم بما أوتوا من المكر والدهاء، ثم ناهيك
بتأييد الدولة البريطانية لهذه القوى كلها بقوتها العظمى قوة التصرف في الأمم،
والنفوذ في الدول، إذ أعطتهم بها وطنًا من أوطان الأمة العربية التي تعدها من
ميراثها، وعند هذه الأمة من بشارة نبيها في الظهور على اليهود ما هو أصرح من
بشارات أنبياء اليهود المبهمة، كما صرَّحنا به في العام الماضي وسنعود إليه
بالتفصيل.
(وسنبين في الفصل الثاني من هذا المقال كنه حال الإنكليز وسياستهم مع
العرب واليهود) .
((يتبع بمقال تالٍ))