(٢) إثبات توثيق كعب الأحبار ووهب بن منبه هذا ما يتعلق بكعب الأحبار في هذا الموضع، وأما وهب بن منبه، فهو من جهة عدِّه من رجال البخاري محل اتفاق؛ لأن البخاري روى عنه في صحيحه حديثًا صحيحًا نافعًا لأنه يتضمن إثبات كتابة العلم أي (الحديث) في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري كما أن البخاري احتج (بوهب) في أول كتاب الجنائز من صحيحه حيث قال: وقيل لوهب بن منبه: (أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ ، قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلاَّ له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) ، وهذا يدل على أن وهبًا لم يكن جبريًّا في عقيدته حيث قال في الفتح وروى عن معاذ بن جبل مرفوعًا نحوه بل كان سنيًّا. وخلاصة هذا الموضع، ثبوت أن كلاًّ من كعب ووهب من رجال البخاري الأول احتجاجًا، والثاني احتجاجًا ورواية، وأن ذلك توثيق لكل منهما معتبر عند رجال الحديث، وأما كونهما من رجال بقية الكتب الستة المبينة في أول كلامنا فحسبنا دليلاً على ذلك كتاب تهذيب التهذيب نفسه وفي ذلك توثيق أيضاً، مؤكد لما قبله، وصار تضعيف ابن الفلاس لوهب لا يعبأ به بعد احتجاج ورواية البخاري عنه، قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري صحيفة ٤٥٠ في الكلام على وهب بن منبه ما نصه: (وثقه الجمهور وشد الفلاس فقال: كان ضعيفاً) فأصبح هذا التضعيف لا أثر له بعد أخذ البخاري عنه، والتقليل من شأن أو عدد ما أخذه البخاري أو مسلم عن أحد الحبرين لا يصلح حجة على عدم توثيق كل منهما، فإن المدار في ذلك على ما يدل على ثقة صاحبي الصحيحين بأحدهما، وحديث أو احتجاج واحد كافٍ في الدلالة على ذلك بدليل أن علماء مصطلح الحديث لم يشترطوا تعدد الأخذ في قولهم: (كل من أخذ عنه البخاري أو مسلم فهو ثقة، ولا يقبل قول من جرحه بعد) . *** الموضع الثالث (الاحتجاج بما لا يحتج به لعدم صحة سنده أو لخروجه من موضوع البحث) . وقبل الكلام في ذلك أنقل يسيرًا مما قرره علماء الحديث في التحذير من جرح رجال الحديث بغير تثبت. قال العلامة ابن الصلاح في المقدمة في النوع الحادي والستين ما نصه: (على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى ويثبت ويتوقى التساهل كيلا يجرح سليمًا أو يسلم بريئًا بسمعة سوء يبقى عليه الدهر عارُها) . ونقل العلامة القاسمي في كتابه الجرح والتعديل صحيفة (٤) من علماء الحديث أنهم قالوا: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون والحكام. أهـ فأمام هذا التحذير الشديد لا يصح الاحتجاج في تجريح كعب، ووهب بما نسب إليهما من الأخبار المنتقدة في بعض كتب التفسير أو التواريخ أو القصص لاحتمال أن ذلك موضوع ومنسوب إلى أحدهما من باب حسن السبك وخصوصًا ما كان من ذلك من أخبار بني إسرائيل فلشهرة الحبرين بمعرفتهما تلك الأخبار جعلهما الوضاعون هدفًا لأغراضهم، ومن ذلك الخبر الذي هو مثار هذا المبحث من أوله إلى آخره، وهو ما نقلتم عن ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: ١٠٧) من قصة سيدنا موسى مع فرعون في سورة الأعراف من أن وهبًا قال: (إن العصا لما صارت ثعبانًا حملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا قتل بعضهم بعضًا، وقام فرعون منهزمًا) قال ابن كثير رواه ابن جرير والإمام أحمد وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم. أهـ منار أما غرابة السياق فمسلمة؛ لأن اجتماع هذا العدد الذي مات فقط فضلاً عمن نجا على غير انتظار أمر لا يتصوره عاقل لأن دخول سيدنا موسى وأخيه على فرعون أول أمره كان على غير انتظار، ولكن من جهة صحة سند هذه الرواية إلى وهب فإن في سند ابن جرير من هو مجهول كما قدمنا في أصل الانتقاد والرواية عن المجهول لا يعتد بها لاحتمال أن ذلك المجهول هو الواضع لها. والإمام أحمد لم يروه في مسنده كما هو ظاهر عبارتكم؛ لأن ابن كثير صرح في عبارته أنه في الزهد وهو لم يكن من كتب الحديث المعروفة فلا مانع أن يكون في سنده انقطاع أيضًا. وابن أبي حاتم تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد المتناقضات بدليل ما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح في تعيين (مجمع البحرين) في تفسير سورة الكهف، حتى قال ابن حجر: وهذا اختلاف شديد فانظره، وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من وهب، وحينئذ فلا تصح مؤاخذته به، ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد من أصحاب كتب الحديث المعتبرة مثل البخاري أو مسلم، أو غيرهما من الكتب التي يصح للمطلع عليها أن يقطع أو يظن أن ذلك صدر منه، وما دام أنه لم يوجد ذلك فلا محل لتوجيه اللوم إليه بناءً على أمر وضعه عليه أقرب جدًّا من صدوره منه. ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحَبْرين، أخيرًا حيث قلتم بصحيفة (٧١٨) من الجزء التاسع المذكور في بقية الرد علينا ما نصه: هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي نقطع ببطلانها، وهو آفتها كروايات كعب فيها، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا فيها (كذا) من الخرافات، وبما أدخلا فيها (كذا) من العقائد الباطلة ومن تأييد عقائد أهل الكتاب، والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة. ونكتفي في هذه، وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ ... إلخ} (آل عمران: ٧٨) قال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: ٧٨) فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول. رواه ابن أبي حاتم. أهـ (منار) فهذا رواه ابن أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا وهبًا بناءً على مثل هذه الرواية الساقطة بقولكم بعد ذلك: (إن وهبًا كان كذابًا غاشًّا للمسلمين بصلاحه) اهـ. هذا مما احتجيتم به وهو لم يصح الاحتجاج به لعدم صحة سنده. وأما ما جعلتموه حجة وهو خارج عن الموضوع فهو ما ذكرتموه بصحيفة (٧٨) من الجزء الأول المذكور في أول ردكم من الإطناب في ذكر توراة اليهود وإنجيل النصارى الموجودين وجعلهما حجة على كذب الحبرين لكون كثير من الأخبار نسبت إليهما عن بني إسرائيل لم توجد فيهما حيث قلتم: فإن توراة اليهود بين الأيدي، ونحن نرى فيما رواه كعب ووهب عنهما ما لا وجود له فيها ألبتة على كثرته إلخ. فهذا فضلاً عن خروجه عن الموضوع لما هو مقرَّر عند جميع علماء المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح الاحتجاج بهما لما ثبت بالقرآن والأحاديث الصحيحة من تحريفهما وتبديلهما. فقد نقضتموه بقولكم أخيرًا بصحيفة ٧١٩ من الجزء التاسع المذكور في آخر ردكم علينا بما نصه: أقول إن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة الجرح والتعديل ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه الكتب كما رآها ولم يطلعوا على ما بينه المطلعون عليها قبله من تحريفها وأغلاطها ومخالفتها لما نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ، كابن حزم وابن تيمية أستاذه إلخ. أهـ منار وعلى أيّ حالة كانت فإن ذلك لا يوجب جرح الحبرين فإن رأي ابن حزم وابن تيمية معروف لدى جمهور العلماء فيما يختص بتحريف كتابي أهل الكتاب وغيره، وقد فصل القول في مسألة التحريف الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب التوحيد عند شرح باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: ٢١-٢٢) ونقل كلام ابن حزم وابن تيمية وغيرهما، ولم ينقل عن أحد الطعن على الحبرين مطلقًا. وابن حزم متوفى سنة ٤٥٦ وابن تيمية توفي سنة ٧٢٨ وقد وثق الحبرين بعد ذلك كثير من العلماء المطلعين على أقوالهما، وقد تقدم ذكرهم واستمر توثيقهما إلى الأعصر القريبة فصاحب كتاب إظهار (الحق) ممن سبق توثيقه لكعب وهو فرغ من تأليفه سنة ١٢٨٠ هو صاحب الفضيلة الشيخ الخضري الموجود وثق وهبًا في كتابة تاريخ التشريع الإسلامي بصحيفة ١٥٨ وابن حزم وابن تيمية لم يصدر منهما طعن على أحد الرجلين فكل ما يتعلق بكلامهما خارج عن الموضوع. (والكلمة الختامية) أن مبحث الجرح والتعديل مبحث نقلي محض لا مجال للعقل فيه مطلقًا إلا من حيث الاطلاع على ما دوّنه علماؤه في سجلات أسفارهم فالمجروح من جرحوه والموثَّق من وثقوه، وما علينا إلا الاطلاع على أحكامهم في ذلك فننفذها كما صدرت، والله ولي التوفيق. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني
(المنار) سنبدي رأينا في هذا النقد في الجزء التالي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))