للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة العربية في طور جديد

دخلت المسألة العربية في طور جديد , بخروج حكومة نجد من عزلتها،
وتعرفها إلى العالم الإسلامي والشعوب العربية، ومد يدها القوية إلى مساعدة البلاد
العربية على الاستقلال المطلق , الذي عبثت به خيانة أمراء الحجاز، والإلقاء
بدلوها بين دلاء الشعوب الإسلامية في مسألة الخلافة، وقد صدر بذلك أول بلاغ
عامّ من عاصمة نجد بإمضاء نجل سلطانها، أرسل إلى أشهر الصحف في العالم
الإسلامي في ٢٠ رجب سنة ١٣٤٢ وهذا نصه:
للحقيقة وللتاريخ
بعد العنوان:
نرجو من جنابكم أن تفتحوا صدر جريدتكم للكلمة التالية؛ خدمة للتاريخ.
نشرت جريدة المقطم بتاريخ ٢١جمادى الثانية ١٣٤٢ - ٢٧ يناير ١٩٢٤
مقالاً بعنوان: حديث (ملك الحجاز) , وقد اطّلعنا في بعض الجرائد السورية
والعراقية على أحاديث وتصريحات تكاد تتفق مع هذا الحديث. إن هذه الأحاديث
قد تضمنت أشياء عن سلطان نجد , وموقفه في القضية العربية والاتحاد العربي
تخالف الحقيقة والتاريخ , وإننا لنأسف أن يتجرأ المسؤلون على الاختلاق على
الأحياء.
لقد سعى سلطان نجد في الحرب العالمية وبعد الحرب العالمية لبناء الوحدة
العربية , فأرسل الكتب العديدة والرسل لابن الرشيد وملك الحجاز وأمير عسير
والكويت , ولكن ملك الحجاز - من بين أمراء العرب - قابل الدعوة بالاستهزاء ,
بل سعى لنقض بنيانها بما كان يسعره من نيران الفتن والدسائس في عسير وغيرها ,
وكتبه المرسلة منه إلى آل عائض والرشيد محفوظة لدينا. وماذا يقولون في الكتب
التي أرسلها سلطان نجد مع مساعد بن سويلم إلى ملك الحجاز وأولاده؟ تلك
الكتب نشرت في الصحف في حينها , والتي نشرت جريدة المقطم لا تبطن تلك
الكتب بما تنطوي عليه جوانح سلطان نجد وميله الشريف إلى التصافح مع جيرانه
والاتحاد معهم , هل علموا أن ملك الحجاز لم يسمح لأولاده بإجابة سلطان نجد
وهو (أي: ملك الحجاز) قد تخطى حدود اللياقة , بأن جعل جوابه لآل السعود
كافة، لا للجالس على عرش نجد؟ هل هذه الأعمال مما تقرب زمن الاتحاد العربي؟
وهل بمثل هذه السياسة تجتذب قلوب أمراء العرب؟
يصرح ملك الحجاز أنه خاطب سلطان نجد بأنه مستعد للتنازل عن عرشه،
وتسليم زمام الأمر لمن يستطع أن يقود العرب إلى طريق النجاة والسلامة، وهذا
أمر لا أساس له بالمرة , بل الواقع يخالفه تمام المخالفة. نعم إن ملك الحجاز قد
صرح أمام بعض الجماهير بمثل هذه التصريحات للتمويه على البسطاء. إن ملك
الحجاز يحاول أن يتولى الزعامة غير المقيدة في جزيرة العرب كلها؛ ليستذل
أمراء العرب ويقتطع بلادهم , ويتدخل في شؤونهم الداخلية، وهذا ما لا يمكن أن
يوافقه عليه أحد، وإن مكاتبات ملك الحجاز إلى أهل القصيم، وحثهم على نقض
ولائهم لسلطانهم لدليل بين على ما يخفيه وينويه لسلطان نجد وبلاده.
إن تحت يدنا من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة وخرمة وعسير ما
يفيد أن ملك الحجاز وولده عبد الله لا يسعون إلا لشهواتهم ومصالحهم , ولو أدى
ذلك إلى هدم بناء العرب، ولكننا نمسك عن نشرها الآن، فإن سمح لنا ملك الحجاز
بنشرها نشرناها. وهنالك يعلم العالم الإسلامي والعربي تلك الجنايات والدسائس
التي يقوم بها أولئك القوم الذين اتخذوا الصياح , وقلب الحقائق ديدنًا لهم ,
وسيعلمون أي الفريقين يجني على أمته العربية ووحدتها، وأيهم سبب هذا الانقسام،
وألقى النفرة بين الأمراء , وأشعل نيران الفتن والحروب بينهم. نعم سيعلمون أن
سلطان نجد لم يكن في جميع مواقفه إلا مدافعًا عن نفسه وبلاده وشرفه، وأنه كان
ولا يزال راغبًا من صميم فؤاده في إنشاء الوحدة العربية على أساس يجعل للعرب
قوة ومكانة تليق بتاريخهم المجيد.
٢٠ رجب ١٣٤٢ ... ... (فيصل بن عبد العزيز بن سعود)

(المنار)
نشر هذا البلاغ في جرائد مصر وسورية وسائر الأقطار العربية والأعجمية ,
ولم ننشره في الوقت الذي نشرته فيه اكتفاءً بها , وكان له تأثير حسن وعلقت
عليه الجرائد الحرة تعليقًا مقرونًا بالتفاؤل والرجاء في دخول قوة نجد في السياسة
العربية العامة. وإننا ننشر هنا تعليق جريدة (اتحاد الإسلام) التي تصدر في
طهران عاصمة الدولة الإيرانية لقلة اطلاع الناس عليها , فإنها صحيفة جديدة
تنطق بلسان محبي الجامعة الإسلامية، وهذا نص تعليقها على البلاغ عقب نشرها
له:
رأي لمسلمي إيران في ثالوث الحجاز وصاحب نجد:
هذا المكتوب يعرب عن دسائس ملك الحجاز لأمراء العرب , وسعيه بتفريق
الكلمة العربية، وما هي بأول قارورة كسرت في الإسلام، ولا تلك بأول جناية هذا
الإنسان الشرير على أمته، فإن كل ما يعرفه المسلمون عن ملك الحجاز دسائس
وحيل وجنايات يقفو بعضها بعضًا.
بنى عرشًا موهومًا لملكيته , وإنما أقام بنيانه على أساس الخداع والنفاق وشق
عصا الطاعة , حتى أسال إلى جوانبه أنهارًا من دماء المسلمين الذين كانوا
مرابطين في الثغور لحفظ الحرمين من عادية أعداء الإسلام. ولم يزل يدس هو
وأولاده الدسائس للمسلمين، لا يرعون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة. كل ذلك في منفعة
الإنكليز , وغاية ما يقنعهم من دنياهم وآخرتهم أن يقال لأحدهم: ملك الحجاز،
وآخر: ملك العراق. والثالث: ملك الأردن، وإن لم يكن لهذه الألفاظ معنى ولا
مصداق، إذ لا حكم ولا أمر ولا نهي ولا حول لهم ولا قوة , وليس لأحدهم من
السلطان مقدار ما لأحد صغار مأموري الإنكليز الذين يسعى ملك الحجاز وأولاده في
تثبيت سلطانهم على المسلمين، وإحكام طوق العبودية لهم في رقاب المؤمنين.
كل ذلك ليقال لأحدهم ملك , وهذه اللفظة أصبحت في البلاد التي يوجد فيها
هؤلاء الأشرار مرادفة للفظ خادم الإنكليز.
ويكفي من دسائس الإنكليز ما عمله فيصل ابن ملك الحجاز (! !) في
العراق، فإنه بايع رئيس العراقيين آية الله الخالصي على أن يسعى فى سبيل استقلال
العراق وقطع نفوذ الإنكليز , فإذا لم يستطع مضى من حيث أتي، وبايعه العراقيون
على ذلك , وما تمت له البيعة حتى نكثها , وأخذ يسعى لهدم استقلال العراق
وتثبيت نفوذ الإنكليز فيه بنفي العراقيين وحبسهم , وقتلهم بأيدي الإنكليز، حتى إنه
مد يد العدوان إلى آية الله الخالصي نفسه , ونفاه من العراق إلى الحجاز , ولولا
جميل مساعي الدولة الإيرانية لبقي فيه منفيًّا إلى الآن، ولكنها اتخذت جميع
الوسائل لمجيئه إلى إيران , وهو فيها الآن لا يسمح له بالرجوع إلى العراق لماذا؟
لأنه يطالب باستقلال العراق، وفيصل يسعى ضده، وكفى من دسائسه أن الإنكليز
يسعون لقتل المسلمين , ونهب أموالهم وهتك أعراضهم بيد الآشوريين , وفيصل
ساعدهم القوي في ذلك تثبيتًا للمعاهدة العراقية الإنكليزية. وهذه حادثة كركوك
الأخيرة , تذيب قلب كل مسلم يسمع أن الآشوريين الذين أمدهم الإنكليز بالسلاح
خربوا المدينة بقتل رجالها , ونهب أموالها حتى إنهم كانوا يهجمون على الحمامات
فيبقرون بطون نساء المسلمات فيها , وما كان من فيصل إلا أنه عاون الآشوريين
لما هاجت القبائل لرد عاديتهم؛ إرضاءً لساداته الإنكليز.
يشكو آل السعود من دسائس ملك الحجاز في العسير، ونحن نعلم من جناياتهم
أكثر من ذلك، والمسلمون قاطبة يعلمون أن ألد أعدائهم أبو جهل القرن الرابع عشر
وأولاده، ولكن هذه حقيقة يجب أن يعلمها آل السعود وكل مسلم، وهي أن ملك
الحجاز وأولاده آلة صماء بيد الإنكليز، وكل ما رآه العالم العربي والإسلامي من
دسائسهم ما كان إلا أمرًا وتدبيرًا من الإنكليز أجروه على أيدي هؤلاء الأجلاف ,
فإذا أراد آل السعود التخلص من تلك الدسائس فعليهم أن ينضموا إلى غير الإنكليز؛
ليستطيعوا تشكيل وحدة عربية وإنهاض المسلمين في جزيرة العرب.
وربما يجيب آل السعود بأنهم يتقاضون من الإنكليز في كل سنة ستين ألف
ليرة , ولا يمكنهم صرف النظر عنها. فحينئذ نقول لهم: إن هذا المبلغ يعطى لإبادة
العرب، وهو ثمن بخس إزاء تلك البضاعة الثمينة، ولا يخدعن آل السعود بذلك فإن
الإنكليز يجرون على أساس التفريق في سياستهم , فإذا أعطوا شيئًا من المال إلى
آل السعود فما ذلك إلا تغرير وخداع يتظاهرون بسببه بصداقتهم لهم , ومن جهة
أخرى يغرون بهم مسيلمة الحجاز وأولاده، وهكذا يصنعون في جميع العالم: يمدون
كل متخاصمين؛ ليطول الخصام ويدوم الدمار حتى يفنى الفريقان. هذه مدنية
الإنكليز فلماذا ينخدع لها ملوك الشرق؟ [١]
إن ملك الحجاز وأولاده قد تمحضوا لعبودية الإنكليز , فلا يتوقعن ملوك نجد
إصلاحهم؛ إذ قد استحوذ عليهم الشيطان (الإنكليز) فأنساهم ذكر الله , وإن
المسلمين في شرق الأرض وغربها قد علموا خيانتهم , فلا تؤثر تصريحاتهم على
المسلمين إلا زيادة نفرة وسوء ظن , فلا يهتم بتصريحات أولئك الدجالين ملوك نجد.
ولكن إذا أراد آل السعود قيادة العرب فعليهم أن يقاطعوا الإنكليز، ويتخذوا
سياسة العطف والحنان تجاه العرب كافة , ويحذروا كل الحذر من التعصب الديني
تجاه طوائف المسلمين , فإن ذلك أقوى باعث على ابتعاد المسلمين عن ملوك نجد.
وجه ملك نجد حملة إلى العراق سنة ١٤٤٠ هجرية بقيادة فيصل الدويش [٢]
ولو أنه كان استعمل العطف والحنان , وترك لجميع طوائف المسلمين حريتهم
الدينية لما عاقه عائق عن الاستيلاء على العراق , ولأعانه على ذلك شدة نفرة
العراقيين من الإنكليز وخادمهم فيصل ابن ملك الحجاز، ولكن فيصل الدويش
استعمل من القوة والشدة إزاء قبيلة البدور على ضفاف الفرات ما أجبرالعراقيين
كافة على المقاومة التي تمت بنفع الإنكليز وفيصل، وضرر عامة المسلمين , فعلى
آل السعود أن يبدلوا تلك السياسة بسياسية البنى (كذا ولعلها اللين) والعطف التي
كانت شعار أئمة المسلمين، ونحن نؤكد لهم أنهم يستطيعون أن يقودوا العرب كافة ,
فإنهم نافرون من سياسة ملك الحجاز وخداعه.
بقيت لنا كلمة نوجهها إلى بعض البلاد العربية التي نسمع عن بعض أهلها
أنهم بايعوا مسيلمة الحجاز بالخلافة، ونحن نعلم أن بعض السوريين لشدة حنقهم
على الفرنساويين يريدون الانتقام منهم لبيعة خادم الإنكليز , ولكن ذلك لا يبرر هذه
البيعة التعسة , فإن عداوة الفرنساويين لا توجب أن يقدم المسلمون على إهانة
مقدساتهم ومحو ديانتهم ببيعة ضليل خان المسلمين , وجنى على العرب جنايات
سياسية , ولم يكفه ذلك حتى أقدم على جنايات دينية باسم الخلافة، فكأنه آلى على
نفسه أن لا يبقي للمسلمين دينًا ولا وطنًا إلا امتلك الإنكليز زمامه , أيرى السوريون
أن عملهم هذا كان انتقامًا من الفرنساويين؟ كلا! فإنه انتقام من المسلمين قبل
الفرنساويين.
صح الله عقول الشبيبة السورية وبصَّرها بواجبها الديني والوطني.
(انتهى من عدد اتحاد الإسلام الرابع الذي صدر في طهران في ذي القعدة
سنة ١٣٤٣) .
***
بلاغ آخر
من عاصمة نجد إلى العالم الإسلامي والشعب العربي
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (الأعراف:٨٩) .
منذ بضع سنين قام نفر من إخواننا يطالبون باستقلال العرب , وينادون
بوجوب اتحاد أمراء العرب، فشكرنا سعيهم، وحمدنا عملهم، وسألنا الله أن يحسن
قصدهم ويرشدهم إلى خير العرب. عرضنا عليهم مساعدتنا على أن نضع حدًّا
لمطامع الأجانب ومقدار مداخلتهم في بلاد العرب , فأبوا إلا أن ينفردوا بهذا العمل
الخطير، ويأخذوا على عاتقهم مسؤوليته , ويحوزوا هم وحدهم فخر تحرير بلاد
العرب، فقلنا: أنجح الله استقلال العرب أيًّا كان المحرر والمنقذ، ولكن ما كاد
السيف يوضع في غمده حتى رأينا الاستقلال والتحرير وصاية وانتدابًا , وحتى
رأينا شباب العرب وأحرارهم يقادون إلى السجون , ويجلون عن بلادهم ويمنعون
من الإقامة في ديارهم، فهل الاستقلال أن يصبح العرب غرباء في بلادهم ومرافق
الحياة في يد غيرهم؟ ولولا أن الحجاز يمس شعور المسلمين احتلاله - لرأينا
الانتداب قد ضرب عليه.
ظننا أن القوم بعد هذه الكوارث يفيقون من نومهم، ويثوبون إلى رشدهم،
فيعتصمون بحبل الله المتين , ويستعينون بإخوانهم لإنقاذ البلاد العربية وتحريرها
من كل مغتصب، ولكن القوم ما زالوا في طغياتهم يعمهون، ما حرك شعورهم
احتلال بلاد العرب، وما آلم نفوسهم ما يعانيه إخوانهم العرب، ولكن استولى
عليهم الهلع، وفقدوا الراحة حينما رأوا جارتهم نجد قوية مستقلة لم تنفذ إليها مطامع
المستعمرين , فقاموا يناوئونها، ويكدرون صفو راحتها، فهل هذا هو التحرير؟
وهل تعد هذه الأعمال من وسائل الاستقلال؟
أيها الشعب العربي الكريم:
إن نجدًا قد حافظت على استقلالها في جاهليتها وإسلامها، ولم يدنس أرضها
قدم أجنبي مغتصب، وستبقى محافظة على حقها إن شاء الله ما بقي في شعبها عرق
ينبض.
إن نجدًا تمد يدها لكل من يريد خير العرب , ويسعى لاستقلال العرب. وتساعد
كل من ينهض لتحرير العرب واتحاد العرب.
إن نجدًا ترحب بكل عربي أبي، وتعد أرضها وطنًا لكل عربي: سوري أو
عراقي أو حجازي أو مصري إن نجدًا لا تطمع في امتلاك أرض خارجة عن
حدودها الطبيعية، ولكنها لا تقبل إلا أن تستقل عن بلاد العرب كلها استقلالاً
صحيحًا لا يكون لغير أبنائها سلطان عليها.
الخلافة:
ليست الخلافة من الوظائف الروحية التي يقصد بها مجرد التبرك , ولكنها
وظيفة سامية لجميع المسلمين حق النظر فيها , فليس لجماعة أو شعب حق البت
فيها بدون أخذ رأي باقي الشعوب الأخرى، ولذلك أنكرنا على الحسين بن علي
عجلته والحط من شأنها بقبوله هذا المنصب الذي لا يليق له، والذي حق البت فيه
راجع إلى جميع الشعوب الإسلامية.
إن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب عرض هذه
المسألة على مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلاً صحيحًا، وهنالك يسند هذا
المنصب إلى الكفء الذي يستطيع أن يصون حقوق المسلمين , ويبعث فيهم روح
الحياة والنشاط، ويربطهم برباط الأخوة الذي كاد ينحل. وهنا لا يسعني إلا أن
أشكر إخواننا مسلمي الهند الحاملين علم الجهاد لاستقلال جزيرة العرب وحفظ
الخلافة من عبث العابثين {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: ٨) .
... فيصل بن عبد العزيز السعود
... ... ... ... ... ... الرياض ٢٨ شوال سنة ١٣٤٢
***
مؤتمر الشورى
بشأن الحجاز في عاصمة نجد
(ورد في كتاب الرياض إلى البحرين، وأرسل منها إلى جريدة الأخبار بمصر)
في أول شهر القعدة سنة ١٣٤٢ اجتمع في قصر الإمام عبد الرحمن والد
سلطان نجد جمع من العلماء والأعيان ورؤساء الأجناد، فمن العلماء: الشيخ سعد
الدين عتيق، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ
عبد العزيز بن عبد اللطيف، والشيخ صالح بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن حسن، ومن رؤساء الأجناد والأمراء: سلطان بن مجاد بن حميد زعيم برقا من
عتيبة، وأمير هجرة غطفط [٣] ، وعبد الرحمن بن ربيعان أمير هجرة الداهنة [٤]
ورئيس الروقة من عتيبة , وفيصل الدويش أمير الأرطاوية ورئيس مطير، وحزام ابن هزاع بن عمر، وفيصل بن حشر، ومعيطي بن عبود، وهذال بن سعيدان
رؤساء قبائل قحطان، وحجاب بن نهيث، وهندي الذويبي، وعبد المحسن العزم،
وعبد العزيز بن مضيان رؤساء حرب , وقد حضر الاجتماع غيرهم ممن لم نقف
على أسمائهم.
افتتح الاجتماع الإمام عبد الرحمن موجهًا كلامه إلى العلماء والإخوان فقال:
لقد جاءتني كتب عديدة من الإخوان يطلبون الغزو والحج , وهذه الكتب قد أرسلتها
في حينها إلى ولدنا عبد العزيز حفظه الله، وها هو اليوم أمامكم، فاسألوه عن كل ما
يبدو لكم.
السلطان عبد العزيز: إن جميع ما كتبتموه قد وصل إلي، وإن شكاياتكم كلها
من تعدي بعض المتعدين قد أحطت بها علمًا، وإني لم أحل دون غرضكم من الغزو
إلا حقنًا لدمائكم ودماء الأمة العربية العزيزة، على أن كل شيء له نهاية، والصبر له
حد لا يتجاوزه، والأمور مرهونة بأوقاتها، والفرص لا تهيأ في كل وقت.
سلطان بن مجاد: أيها الإمام، إننا نريد الحج لا محالة، ولا نستطيع أن نصبر
على ترك ركن من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه. إن مكة ليست ملكًا لأحد ولا
يحق لأحد أن يمنع مسلمًا أو يصد مؤمنًا عن أداء فريضة الحج. إننا نريد أن نحج،
فإن منعنا شريف مكة؛ دخلنا مكة بالقوة , وإن لم يصدنا عن سبيل الله , أو يلحق
بنا أذًى فنحن نحج ولا شأن لنا به، وإذا كنتم ترون من المصلحة تأخير فريضة
الحج فلابد من غزو الحجاز , وتخليص البيت من سيطرة طاغية مكة الذي أرهق
العباد , وضرب من المكوس والرسوم على قاصدي بيته ما تبرأ منه الشريعة
الطاهرة.
السلطان عبد العزيز: إن مسألة الحج هي من أهم المسائل التي يرجع الفضل
فيها إلى علمائنا - حفظهم الله - وهاهم حاضرون فليتكلموا , ونحن نتبع خطاهم.
الشيخ سعد بن عتيق: إن الحج من أركان الإسلام، ومسلمو نجد والحمد الله
يستطيعون أن يؤدوا هذا الركن على الوجه الأتم بالرضا أو القوة , ولكن من
الأصول الشرعية النظر إلى المصالح أو المفاسد , فالأمرالذي قد يؤدى إلى ضرر
أو مفسدة، يدفع فهل هنالك من مفسدة أو مضرة قد تنتج من الترخيص لمسلمي نجد
بالذهاب إلى بيت الله؟ ذلك ما نريد أن نقف عليه من الواقفين على السياسة.
السلطان عبد العزيز: أيها العلماء والإخوان لقد سعيت من مدة طويلة في
بسط السلام والأمان داخل الجزيرة , فنحن لا نود أن نحارب من يسالمنا، ولا نمتنع
عن مصافاة من يصافينا , لقد أحببت أن نعيش مع أشراف الحجاز كما يعيش
الجيران على المودة والمحبة , ولكن شريف مكة كما تعلمون يسعى دائمًا لبث
الدسائس وإلقاء بذور الخلاف بين عشائرنا، ولكنه كان دائمًا يبوء بالخسران، والله
لا يترك الحق يصرعه الباطل. إن شريف مكة قد ورث من أسلافه بغضكم فهو لا
يفتأ يطعن في طريقكم السوي وسيرتكم المحمدية، ولا يألو جهدًا في الافتراء علينا
والطعن على علمائنا , ولكن أهل الحق لا يضرهم من ناوأهم، ولينصرنهم الله ما
نصروا دينه، وظاهروا شريعته.
إن شريف مكة لم يكفه ادعاؤه الزعامة على العرب مع أنه أضعفهم، بل قام
يلقب نفسه بإمارة المؤمنين , مع أنه يعلم أن الأقطار الإسلامية كلها تبغضه، وأن
علماءكم قد أرسلوا التلغرافات إلى مصر والهند , ينكرون عليه هذه الدعوى التي لا
نراه كُفُؤًا لها، ولابد من وضع حد لأكاذيبه وإفساداته.
أما الحج هذه السنة فلا أراه من مصلحتكم. أنا لا أقبل أن تحجوا وبكم شيء
من الضعف أو يلحق بكم نوع من الأذى والضرر , وإني على يقين أن أخذ مكة
والمدينة لا يحتاج إلى أكبر مجهود , ولكن مكة ليست لنا وحدنا بل هي للمسلمين
كافة، وما دمنا لم نضع خطة بالاشتراك مع المسلمين , فأنا لا أجيز لكم الاستيلاء
على إحدى المدن المقدسة.
إن شريف مكة قد لا يمنعكم من الدخول إلى مكة , ولكن الرجل لا يعدم
وسائل الشر، فقد يدس من يتحرش بكم؛ لتحدث فتنة في مكة في موسم الحج وفيه
المسلمون من كل جنس , وإني أكاد أجزم أن هذه خير فرصة له؛ ليهيج علينا العالم
الإسلامي الذي أخذ يفهمنا ويقترب منا ونقترب منه، واعلموا أن الأمر لا يطول،
فاصبروا إن الله مع الصابرين.
عندئذ قال العلماء بصوت واحد: إنه لا حرج عليكم من تأخير الفريضة هذا
العام، مادام أن أداءها قد يؤدي إلى فتنة في بلد الله الحرام.
فيصل الدويش: لقد وردت إلي كتب كثيرة من عشائر مطير الفارة في
العراق، تطلب العفو والأمان؛ لترجع إلى أماكنها.
أحد العلماء: إن هؤلاء الأشقياء قد خرجوا على ولي أمرهم، وعاثوا في
الأرض فسادًا، ولكن بما أنهم قد ندموا على فعلتهم، وثابوا إلى رشدهم، فالعفو
خير، وما قتل الأحرار كالعفو عنهم , ولكن أرى أن الواجب يقضي بأنهم يردون ما
نهبوا وما سلبوا إلى أهله.
رؤساء عتيبة: إذا كان الحجاز معاديًا لنا , ولا يبتغي إلا إلحاق الأذى بنا، فلم
لا تبيحوا لنا غزو عشائره التي لا تزال خاضعة.
سلطان نجد والعلماء: إن هذه أشهر حرم , اتركوا الغزو فيها حتى تمضي.
فإذا مضت فلابد من النظر إلى ما فيه المصلحة.
ثم انفض الاجتماع وسافر كل زعيم إلى هجرته؛ ليخبر قومه بما وقع من
البحث , وما حدث من النتائج في المفاوضة اهـ.
تأثير صوت نجد في العالم الإسلامي ولا سيما الهند:
لقد كان الخطابان اللذان وجههما نجل سلطان نجد إلى العرب والعالم الإسلامي
كالرياح التي تهب قبل المطر بشرى بين يدي رحمة الرب الرحيم، ثم كان قرار
مؤتمر الشورى - هذا - كالسحاب الثقال ذات الرعد والبرق، فما عتم الغيث أن
انبعق، والغوث أن اتسق.
سُرَّ أهل الرأي والبصيرة من الشعب العربي وسائر الشعوب الإسلامية بهذا
الطور الجديد لإنقاذ جزيرة العرب ومشاعر الإسلام من طاغوت الحجاز وأوليائه
الأجانب، وقد رجعنا صدى جريدة اتحاد الإسلام الإيرانية لصوت نجد الأول، فألق
السمع لصدى صوت جمعية الخلافة في الهند للأول والآخر:
كتاب جمعية الخلافة إلى سلطان نجد
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين:
وبعد، إن مسلمي الهند، وأمراءهم وعلماءهم وتجارهم وجميع طبقاتهم قد راقبوا
عن كثب مجرى أموركم وأقوالكم الصادرة من فؤادكم , فتحقق لديهم أن في قلب شبه
جزيرة العرب ملة إسلامية، وشهامة قحطانية، ونهضة عربية، ولا سيما عندما
انضممتم إلى الوحدة العربية، وجاهرتم بحمايتها، وأنكم ساعون لنصرتها.
وكذلك أبت غيرتكم الإسلامية، وصفاتكم العبقرية، أن تروا الجامعة
الإسلامية لا قيادة لها وتجنحوا للسكون! ! فتقدمتم إلى العالم الإسلامي معلنين
ومصرحين أنكم مع العلماء لتأييد الشرع منضمون، وفي المؤتمر الإسلامي العتيد
داخلون , ولحماية الخلافة مع ملوك الإسلام وأمرائهم وقوادهم مدفعون.
فلا يسع علماء الهند إلا أن يرفعوا أيديهم إلى قبلة الدعاء في السماء داعين
المولى عز وجل أن يكلل أعمالكم بالنجاح، ويلهم بكم الإسلام والعرب سبل الفلاح،
إنه مجيب الدعاء.
كيف لا وقد زاد فرح وحبور مسلمي الهند عندما تحققوا إخلاصكم وبطولتكم
لإحياء الجامعتين العربية والإسلامية. وها إن مسلمي الهند يعلقون الآمال الطوال
على غيرتكم وفطنتكم في تشييد بناء للاتحاد العربي؛ لتستطيعوا أن تقفوا بوجه كل
أجنبي يقصد شبه جزيرتكم.
أمدكم الله بنصره، وحرسكم بعنايته، وجعلكم الله مصباحًا لإنقاذ إخوانكم
العرب من الذل والعار، اللذين دهماهم وخيما على بلادهم بجهل الحسين بن علي
وأولاه ضروب السياسة {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ} (الأعراف: ١٨٢-١٨٣)
قرأنا خطابكم في صحيفة الأخبار الغراء الصادرة في ٦ محرم سنة ١٣٤٣ الذي
ألقيتموه في ذي القعدة في مؤتمر رياض عاصمتكم فألفينا خطابكم مملوءًا حكمة
وأخلاقًا وسياسة، قل أن توجد هذه المقدرة بأمثالكم.
ولقد طلب القواد منكم أن تغزوا مكة وتستخلصوها من الحسين , فأبيتم أن
تحتلوا بلدًا مقدسًا قبل الاتفاق على احتلاله مع جميع المسلمين، واعتبرتم أن البلاد
المقدسة للمسلمين عامة , ولا تجرون عملاً قبل مشاورتهم في الأمر، فهذا برهان
صادق على اتباعكم سبيل الشريعة السمحة، بنفس مرضية، ودمقراطية إسلامية.
والهند ترى التريث ضروريًّا ريثما يرد الحسين على الجواب الذي أرسلته
إليه قبل تاريخه بعشرة أيام، فإذا انقاد للانضمام إلى الحلف العربي , ووقع معكم
ومع جيرانه محالفات دفاعية هجومية ضد كل عدو أجنبي، فلا حاجة لسفك الدماء
ولا ضرورة تسيغ احتلال بلاده، كما قال الله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ} (الأحزاب: ٢٥) .
وعسى الله أن يهديه إلى الطريق القويم بعد أن خانه حلفاؤه، وتسلط على
الممالك العربية أهل وداده. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإذا رفض الحسين اقتراحاتنا جميعها، فنرى مهاجمته واحتلال بلاده
لازمين، كي يستطاع أن توحد كلمة العرب في شبه جزيرتهم , ويكون الحلف العربي
متينًا وشوكة الجامعة الإسلامية قوية. هذا (أي: الهجوم عليه) لا نجيزه حتى
يصلنا الجواب منه. أو يذهب خمسة عشر يومًا عن ميعاد ورود الجواب؛ لأن الحق
قال في كتابه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: ١٥) .
ومسلمو الهند يسرهم أن تنظم حكومة نجد إدارتها وداخليتها، وترسل سفراءها
إلى جميع الدول , وتعرض عليهم استقلالها، فيعترفون لها به وتنتظم مع التوازن
الدولي الجديد , وتوقع المحالفات الحبية الدفاعية معهم.
ولقد استبشر مسلمو الهند بالنجاح عندما فتح سلطان نجد أبواب بلاده إلى
أحرار سورية والعراق وفلسطين، ولا جرم أن هؤلاء واقفون على سبيل الحضارة
والتمدن الحديث وأفكارهم ثاقبة , فسوف تستفيد الأمة النجدية الفتاة منهم فوائد كبيرة ,
تكون إن شاء الله سببًا لرفاهية مجدها ورفع شأنها إلى صفوف الدول الحية.
وإن مسلمي الهند يقترحون على دولتكم أن تجلبوا للرياض معامل للأسلحة من
بلاد العرب، وأن ترسلوا بعثات علمية من الطلبة النجديين إلى بلاد الغرب
يتعلمون كيف تصنع المخترعات الحديثة والآلات الحربية , والمواد الكيماوية،
ويأمل مسلمو الهند أن يوقع سلطان نجد محالفات حربية دفاعية هجومية مع الإمام
يحيى والإدريسي وباقي أمراء الجزيرة، وأن يعرض علينا شروط الاتفاقيات؛
لتطمئن قلوبنا، ويهدأ روعنا على آخر قوات عربية إسلامية مستقلة مسلحة بقيت
لحماية العرب، والانضمام مع الأتراك والأفغان وإيران وباقي ملوك وأمراء
الإسلام المسلحين لحماية الإسلام، وفق الله العاملين , وإن الله لا يضيع أجر من
أحسن عملاً.
((يتبع بمقال تالٍ))