لصاحب التوقيع محمد توفيق صدقي تتمة المقالة الثالثة الرقيق وإصلاح حاله وتحريره قُضي على البشر أن يستعبد بعضهم بعضًا من قديم الأزمان، فلم تخل أمة من الاسترقاق واختطاف الناس للتجارة فيها، عومل الرقيق بضروب من القسوة في سائر الشعوب بما يجعل وجه الإنسانية يحمرّ خجلاً وقلب المؤمن ينفطر من الله وجلاً، ولكن هكذا كان وهكذا حصل. أتى الإسلام فرقّ لحالهم كما كان شأنه لجميع الضعفاء، منع الاسترقاق بتاتًا إلا أن يكون في حرب شرعية مع قوم لم يؤمَن أذاهم من غير المسلمين، وبهذه القاعدة سد أكثر ينابيعه وغلق أبواب الظلم والعدوان، أمر بالإحسان إلى الأرقاء ومعاملتهم بالرفق واللين، فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى} (النساء: ٣٦) إلى أن قال: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: ٣٦) ونهى عن لطم المملوك وضربه وجعل كفارة ذلك العتق، فقال عليه الصلاة والسلام (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه) وليس هذا فقط، بل قال: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم) وقال: (لا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي) وحث على تهذيبهم وتعليمهم في مثل قوله: (من كانت له جارية فعلمها وأحسن إليها وتزوجها كان له أجران) هذا، وقد أمر الله تعالى بتزويجهم، فقال في القرآن الشريف: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ} (النور: ٣٢) . وإذا افترش السيد أمته فولدت له كان الأولاد أحرارًا ويرثون في أبيهم إلى غير ذلك من القواعد العادلة التي لم تأت بها شريعة قط، وليس هذا كل ما فعله الإسلام بأولئك الضعفاء، بل جعل تحرير الرقاب كفارة لكثير مما يقع من الإنسان مخالفًا للدين، حتى في أبسط المسائل كالحنث في الأيمان، فقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} (المائدة: ٨٩) إلى أن قال: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة: ٨٩) وليس هذا فقط، بل أمر بجمع الأموال (الزكاة) من الأغنياء وصرف جزء منها في تحرير الرقاب {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (التوبة: ٦٠) إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (التوبة: ٦٠) الآية، وكرر حث ذوي اليسار على ذلك المرة بعد المرة: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (البقرة: ١٧٧) إلى أن قال: {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى} (البقرة: ١٧٧) إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة: ١٧٧) وقال أيضُا: {فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: ١١-١٣) إلى غير ذلك مما يطول شرحه، أليس ما أتى به القرآن منذ قرون هو ما تفتخر به المدنية الحديثة وتتيه إعجابًا به؟ يزعم دعاة المسيحية أن ما قام به الأوربيون في الزمن الأخير هو من آثار دينهم فيهم، ولكن الحقيقة أن ذلك نتيجة الرقي العقلي والعلمي الذي وصلوا إليه عن قريب ولا دخل للدين فيه، وإلا فلماذا قضوا القرون العديدة في استعباد الناس على أشنع الأحوال! ! وهل ورد في المسيحية كلمة واحدة عن تحرير الرقيق؟ الذي ورد فيها هو أمر الأرقاء أن يطيعوا مواليهم مع الخوف والرعب كما يطيعون المسيح - عليه السلام - وأن يبالغوا في حسن القيام بخدمتهم تمجيدًا لتعاليمه عليه السلام، كما يقول بولس في رسائله، وقد وافق على ذلك بطرس الحواري في رسالته الأولى حيث أوصى العبيد بأن يخضعوا لساداتهم ويخشوهم فأين هذا من ذاك؟ وأين الثرى من الثريا. ولِمَ لَمْ يهتم المسيح بشأن العبيد! ويرق لحالتهم كما رق الإسلام وَيَنْهَ عن الاسترقاق متبعيه، أو يأمر باستعمال الرفق بهم واللين ولو بجملة واحدة؟ يقولون: إنه لم يأت ليسن شرائع أو ينسخ ما كان موجودًا منها، ونقول ردًّا عليهم: لمَ حرَّم الطلاق والتزوج بالمطلقة والتعدد في الزوجات، أما كان يمكنه أن ينهى الناس عن استعمال القسوة على الأقل مع أولئك الضعفاء؟ وإذا قدر على الأول فكيف لم يقدر على الثاني مع أن الأول أشق على النفوس من الثاني [١] . هذا والحق يقال: إن ما أتى به الإسلام لم يأت بمثله دين على وجه البسيطة ولو كان المسلمون في درجة الأوربيين مدنية وعلمًا لكانوا أولى الناس بذلك العمل العظيم وهو تحرير الأرقاء الذي لم يعرفه غير دينهم، ولكن قضى الله أن يكون المسلمون حجة على دينهم كما كان يقول حكيمنا الأستاذ الإمام قدس الله روحه. *** أصناف آخرون رعاهم الإسلام بعين رعايته (الفقراء والمساكين) قضت الحكمة الإلهية أن يكون الناس مختلفين في الدرجات ما بين غني وفقير أو صعلوك وأمير إلى غير ذلك من أنواع الاختلافات التي قامت بسببها الأعمال في الأرض ودارت حركة الاشتغال وكثرت المنافسات في الحصول على العيش والارتقاء، جاء الإسلام فقرر هذه القاعدة العمرانية {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً} (الزخرف: ٣٢) وخالف بذلك من أراد أن يجعل المعيشة اشتراكية لأن ذلك هدم للنظام ومدعاة للكسل وترك الأعمال وإيقاع للبشر في مهواة الفقر والفاقة والتقهقر، ولذلك لم ينجح ولن ينجح من حاول تبديل خلق الله ولكن من الاختلاف نشأ مرض التباغض في جسم الهيئة الاجتماعية فحقد الفقير على الغني وأراد به السوء، فأفهم الإسلام هؤلاء البائسين حكمة الله في ذلك وأمرهم بالتزام الصبر والرضا بقضائه ووعدهم خيرًا في الآخرة، ثم عطف على الأغنياء وألزمهم أن يعطوهم شيئًا من أموالهم مساعدة لهم في معاشهم، وكرر ذلك المرة بعد المرة، حتى إنك قلما ترى سورة من القرآن خالية من ذلك (وآتوا الزكاة) فاستلَّ بذلك ضغائن أهل الفاقة، ومحص صدورهم من الغل، فأي دواء أنجع من هذا؟ وأي دين أوجب ذلك كما أوجب القرآن وميز بين الصدقة والزكاة؟ (الأيتام) لم يهمل الإسلام شأنهم، بل حافظ على حقوقهم وحرم اغتيال شىء من مالهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: ١٠) ونهى عن إغضابهم وإذلالهم فقال: {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} (الضحى: ٩) وحث على إطعامهم في نحو قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} (البلد: ١٤-١٥) . (ابن السبيل) عندي أن اللقيط أجدر بهذا اللقب من المسافر وغيره، فإن لم يكن هو المراد بهذه التسمية وحده فليكن مما يدخل في عمومها، وإن كان اللقطاء في بلاد الإسلام قليلين وعليه يكون القرآن قد أمر بصرف جزء من الزكاة في تربيتهم وإعدادهم لأن يكونوا نافعين للمجتمع الإنساني، فأي شىء يفتخر به الغربيون لم يوجد في ديننا؟ وأي دين وجد فيه ما يمكن أن يفهم منه هذا المعنى بصراحة مثل ذلك؟ [*] . *** الخمر والميسر ولحم الخنزير نهى القرآن نهيًا صريحًا عن هذه الأشياء الثلاثة بما لا يقبل تأويلاً، ولم يرد عن نبيه أنه حول الماء خمرُا معجزة له ليشربه الناس، ولم يأت في عبادات الإسلام ما يشرب فيه الخمر على أنه دم الإله تعالى وحكمة تحريم الخمر والميسر لا تخفى على أحد، وأما لحم الخنزير فقد سبق أننا كتبنا في المنار في إحدى السنين الماضية ما فيه من المضرات التي هي علة تحريمه ونجاسته. *** مصالح الدنيا أباح القرآن بعد ذلك الطيبات أكلاً وشربًا وزينة ولباسًا - اقرأ أوائل سورة الأعراف - وأمر بالسعي والعمل وتصريف الأعضاء فيما خلقت لأجله {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: ١٥) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: ١٠) فلم يحث على زهد أو رهبانية أو إخصاء أو نحو ذلك مما هو عقبة في سبيل الرقي والتقدم (انظر مثلاً إنجيل متى إصحاح ١٩: عدد ١٠-١٢) . وجملة القول: إن الإسلام لم يدع أصلاً من أصول الإصلاح إلا أتى به، ولكن العمل بما قال به الفقهاء المقلدون لا بما دل عليه اللفظ والأسلوب في الكتاب ولا فضيلة إلا قررها فهو وحدة الدين الكامل بلا شك ولا مراء، ولا يراد بالدين والأنبياء إلا أن يكونوا كالطب والأطباء لأمراض الاجتماع، ولا يعرف قدر الدين إلا بقدر شفائه للأدواء، فهل هناك دواء شافٍ لمن تعاطاه غير الإسلام، لهذا أخذت الأمم تقرب منه يومًا بعد يوم إلى أن يتحقق نبأ الغيب {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣٣) . ***
المقالة الرابعة وهي الخاتمة (في رد بعض شبهات) إذا قامت في نفس الإنسان شبهة ولم يمكنه أو لم يرغب إزالتها أعمته عن قوة البراهين، ولو كانت تلمس باليد وصارت عقبة في سبيل فهمه لها، وكلما ناداه منادي العقل والإنصاف أن أذعن، صاح به شيطان الشبهة أن لا تغتر، وإلى غير اعتقادك لا تركن، ولذلك تجده يقرأ من البراهين، ما هو آيات للمستيقنين، ولا يزداد إلا جمودًا وللحق جحودًا، فلهذا رأيت أن أختم مقالاتي السابقة برد ما أعلم أنه العقبة الكبرى أمام اقتناع الكثيرين ممن يقرأونها وهم غالبًا صنفان، إما أن يكونوا ممن أثرت في عقولهم نظريات الماديين، وإما أن يكونوا من المسيحيين. شبهتان للماديين في القرآن أما الأولون فأعظم ما يشتبه عليهم ذكر قصة آدم في القرآن، وخلق العالم في ستة أيام؛ لأن ما عندهم من نظريات (داروين) وغيرها يحول دون التسليم بما ورد في الكتاب، ولي كلمتان أقولهما لهذا الصنف من الناس (الأولى) أني أقر وأعتقد أن مذهب (داروين) هو أسمى ما وصل إليه الفكر البشري لحل معميات هذه المسائل (الآثار الجيولوجية) الأعضاء الأثرية، التشابه العظيم بين الحيوانات وخصوصًا بين أجنتها وغير ذلك من المسائل العلمية في عالمي الحيوانات والنباتات التي لا يمكن تعليلها الآن بأحسن من هذا المذهب؛ ولكن لا ينتج من ذلك أنه هو الحق الذي لا يصل البشر إلى تعليل آخر غيره، فكم من نظريات عمل بها العالم أجيالاً وقرونًا في تفسير كثير من المسائل وقد اعتقدنا الآن خلافها، أما كنا في الزمن الأول نعتقد أن العناصر أربعة فقط (الهواء، والنار، والماء، والتراب) أما كنا نعتقد أن الأرض هي مركز العالم وأن الشمس والسيارات تدور حولها؟ أما كنا نعتقد صحة خبطهم وخلطهم في أمزجة الإنسان وأسباب الأمراض ومعالجتها؟ أما كنا نعتقد بكل هذه المسائل وغيرها ونظن أنها الحق الذي ما بعده إلا الباطل؟ فما هو اعتقادنا اليوم؟ أترك القارئ ليتفكر في هذه المسألة وليستحضر في ذهنه تلك الدهور الغابرة. (الكلمة الثانية) لم يرد في القرآن الشريف نص قطعي على أن آدم أول بشر خلق على وجه الأرض ولا على أنه أبو جميع الناس ولا على أنه خلق مباشرة من التراب بل وجد فيه ما يشير إلى خلاف هذه المسائل ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: ٣٠) فإن لم يكن قبله أحد فمن يخلف حتى سماه خليفة؟ ولو لم تشاهد الملائكة إفساد الناس في الأرض وسفكهم دماء أنفسهم فمن أين علموا ذلك؟ ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: ١) اعلم أن القرآن كثيرًا ما يخاطب العرب دون غيرهم من الأمم كما في قوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: ٢) فلا يتحتم أن يكون المراد بكل خطاب للناس فيه جميع من على وجه الأرض، وإنما هؤلاء قد يكونون مطالبين بالتبع للعرب المخاطبين ابتداء على حد قول القائل: (إياك أعني واسمعي يا جارة) ومثل قول الخطيب لسامعيه: يا أيها الناس لا تشربوا الخمر، مثلاً فهو وإن كان يخاطب الحاضرين إلا أنه لا يقصد نهيهم وحدهم عن الشرب بل هم وجميع من على شاكلتهم، فكذا يجوز أن يكون الخطاب في هذه الآية التي نحن بصددها للعرب وإن كان غيرهم مطالبًا بالتقوى مثلهم، وقد ورد في القرآن لفظ الناس لو لم يرد به إلا طائفة قليلة وذلك نحو {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} (البقرة: ١٣) . فالمراد بالناس هنا طائفة المؤمنين، وإذا تصفحنا القرآن وجدنا أن التكلم في أكثره مع العرب؛ إذا علمت هذا أقول (يا أيها الناس) أي العرب، و (من نفس واحدة) أي نفس أمهم لأن الأم هي الأصل المعول عليه ولها الحظ الأوفر في تكوين الإنسان، كما يتضح للناظر في العلوم الطبيعية؛ وإذا لا حظت أن هذه الآية هي أول سورة النساء أدركت ما فيها من حسن الابتداء وبراعة الاستهلال {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: ١) أي من جنسها، كما في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} (الروم:٢١) أو باعتبار أن المرأة هي أصل الرجل، ولو كان المراد في مثل هذه الآية، أن آدم وحواء هما أصل جميع الأمم لما قال في آخرها {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: ١) بل كان يقول: (وبث منهما جميع الرجال والنساء) أو ما يفيد هذا المعنى من التعبير كما هو مقتضى السياق، ولكن عبارة القرآن الشريف صريحة في أن المبثوث منهما بعض الرجال وبعض النساء لا كلهم، هذا ولا مانع من أن يكون آدم وحواء هما أبوا العرب وبعض الأمم الشرقية، وأما غيرهم فلهم آباء آخرون، ولا يوجد في القرآن ما ينافي ذلك، وقد علمت أن هذه الآية على هذا التفسير فيها دليل لنا لا علينا إن قلنا بذلك المذهب مذهب دارون ولذا أوردناها في هذا المقام، واعلم أن القرآن قد يخاطب النبي فقط {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الطلاق: ١) وقد يخاطب العرب وقد يخاطب أولاد آدم {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} (الأعراف: ٣١) وقد يخاطب المؤمنين في زمن النبي ومع ذلك قد يريد بالخطاب من هم على شاكلة المخاطبين لا المخاطبين فقط ففي هذه الآية التي نحن بصددها وإن كان الخطاب لبني آدم على اعتقادنا إلا أن المطالب بالتقوى جميع الناس، هذا وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} (الأعراف: ١١) إشارة إلى أن الله تعالى خلق الناس أولاً، ثم صورهم ثانيًا، أي أحسن خلقتهم ثم أسجد الملائكة لبعض أفرادهم الذي اختاره أن يعمر بعض الجهات ويكون خليفة لقوم بادوا فيها. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر: ٢٦-٢٨) فكأنه يشير إلى أنه خلق الإنسان من الطين (وليس فيها دليل على أن ذلك مباشرة) ثم أمر الملائكة بالسجود لأحد أفراد الإنسان الذي خلقه مثلهم أولاً من الطين الذي يترفع الملائكة عنه ويحتقرونه فكأنه يقول: أنا آمركم أن تسجدوا لهذا الفرد المخلوق من الطين كغيره من الناس الذين تحتقرونهم ولذلك كرر قوله: {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر: ٢٦) وقد يتمسك البعض بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: ٥٩) قائلاً: إن كان آدم كسائر أفراد البشر مخلوقًا من ذكر وأنثى على مذهب (داروين) فلم خُصَّ بالذكر دون أي فرد آخر، قلت: لأن الخطاب مع النصارى الذين يعتقدون بخلقة آدم من تراب مباشرة فأتاهم بما هو أعجب على حسب اعتقادهم كأنه يقول: إن كان آدم في اعتقادكم مخلوقًا من أب ولا أم فكيف تعجبون ممن خلق بلا أب فقط. فإن قيل: لم قال (عند الله) ولم يقل (عندكم) قلت: ليشعر بأن هذا التمثيل إن لم يكن مقبولاً عندهم فهو عند الله مقبول، وكذا عند جميع المنصفين من الناس؛ لأن ما قبله تعالى فهو حق مقبول عندهم، كأنه قال: إن مثل عيسى كمثل آدم خلقه كما خلقه وإن لم تقبلوا هذا التمثيل فهو عند الله مقبول، ثم إن الضمير في قوله (خلقه) عائد على ما أرى إلى المسيح عليه السلام؛ لأنه هو موضوع الكلام أي أنه خلقه من تراب كما خلق آدم، ومن المعلوم أن المسيح لم يخلق مباشرة من التراب فيكون آدم مثله وعليه تكون هذه الآية أيضًا لنا لا علينا إن قلنا بمذهب (داروين) ومعناها هكذا: إني آتيكم بمثل مقبول عند الله وإن لم تقبلوه وهو أن المسيح مخلوق من تراب كأي فرد من أفراد البشر وأخص آدم بالذكر؛ لأنكم إذ اعتقدتم فيه هذا الأمر العجيب - وهو خلقه بلا أب ولا أم - كان الواجب أن لا تندهشوا من مسألة المسيح التي هي أقل غرابة من ذلك. إذا علمت ذلك تحققت أن القرآن قد أشار إلى أن آدم أب لجميع البشر الموجودين الآن وليس هو أول من خلق، ولم يخلق مباشرة من تراب، وعليه يكون جميع ما ورد في القرآن بشأنه سهل التفسير بما ينطبق على مذهب (داروين) تمامًا. وأما خلق العالم في ستة أيام فقد ورد في القرآن أن اليوم عند الله آلاف من السنين {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: ٤٧) وقال أيضًا: {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: ٤) فيجوز أن يكون المراد بهذه الأيام الستة آلافًا من السنين [**] . *** شبهات النصارى في القرآن وأما الصنف الثاني وهم المسيحيون، فلهم شبهات: الأولى: أن القرآن قد أخذ ما أتى به من الأمم الأخرى ويستشهدون على ذلك بما يوجد فيه مشابهًا أو مماثلاً ما عند غيرنا من القصص أو العبادات أو العقائد أو غير ذلك، ولكني أذكرهم بثلاث مسائل: ١- أن القرآن أتى ليصلح ما كان فاسدًا عند الأمم لا لأن يزيله كله ويأتي بشىء جديد من الأول إلى الآخر. كلا بل إذا وجد حسنًا أبقاه وإذا وجد قبيحًا محاه. ٢- أن القرآن نص على أن الله بعث لكل أمة رسولاً في عدة مواضع منه منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف، وإذا وجد عند هؤلاء الأمم شىء من القصص الصحيحة والعقائد الحقيقية والعبادات، فإن وافق عليه القرآن فما ذلك إلا لأنها وحي من عند الله لهؤلاء الناس، وإن خالف شيئًا منها فما ذلك إلا لوقوع الغلط فيها على ممر الأزمان، وإن رد عليها فما ذلك إلا لأنها مما افترته الناس على الله. ٣- إذا صح ذاك التعليل فيما أتى به القرآن مماثلاً ما عند الناس فماذا يقولون فيما يوجد فيه مما لم يأت به دين آخر ولم يعرفه أحد إلا في الأيام الأخيرة وقد فصلنا ذلك في المقالات السابقة. (الشبهة الثانية) ورد بعض غلطات في القرآن على زعمهم، ولا حجة لهم على ذلك إلا مقارنة القرآن بكتبهم، فإن وجدوه موافقًا في شيء قالوا: أخذه منها وإن خالف قالوا أخطأ، وإن أتى بما لم يعرفوه قالوا اخترع، فتعسًا لحجتهم المضحكة. نحن لا نريد أن نطيل الكلام معهم في هذا الباب ولكنا نطالبهم بأن يجيبونا عن هذه المسائل الثلاث بما يقتنعون به هم أنفسهم اقتناعًا حقيقيًّا بدون رياء أو مكابرة: ١- أن يثبتوا بالبرهان القاطع صحة نسبة هذه الكتب إلى من نُسبت إليهم. ٢- وأن كاتبيها موحى إليهم من الله وأنهم لم يخطئوا في شيء كتبوه. ٣- وأنها وصلت إلينا كما كتبها هؤلاء بدون تحريف لا بالزيادة ولا بالنقص ولا بالتبديل. نحن نعلم وكل الناس يعلمون إلا الجاهلين أن في هذه الكتب عبارات تدل على أن كاتبيها ليسوا من نسبت إليهم ولنضرب مثلاً واحدًا (إصحاح ٣٤: ٥ و ٦) من سفر التثنية يدل على أن الكاتب لم يكن موسى، وإن قيل أن أحدًا أضافها فمن هو حتى نثق بأقواله؟ وكيف يضيف إلى كتاب الله ما لم يكن منه؟ وإذا أمكن مثل هذه الإضافة فلِمَ لم يمكن إضافة غيرها مما لم ينزله الله؟ ثم نسألهم كيف ألف الناس كتبًا كثيرة ونسبوها إلى الموحى إليهم كذبًا؟ كيف ميزتم الكتب الصادقة من الكاذبة وما هي حججكم؟ لم رفضت بعض الطوائف ما سلمته الأخرى؟ بماذا اعتقدتم أن كاتبيها ملهمون من الله، هل للخوارق التي يتناقلها جميع الأمم عن مؤسسي دينهم بل وعن غيرهم كالصالحين والأولياء والقديسين أم لماذا؟ أوَلم يقعوا في الغلط؟ مع أننا نجد أنهم كانوا يفسرون الأشياء على غير حقيقتها كتفسير كثير من الأمراض بتأثير الشياطين، وكظنونهم في قوس قزح الذي برهن العلم أنه موجود منذ وجد السحاب والنور وأنه نتيجة انكسار النور في مثل الماء أو البلور. نحن نعلم وأهل العلم يعلمون أن هذه الكتب مملوءة بما يسمونه غلط الكاتب، وفيها من الفقرات الزائدة والناقصة ما يدهش ذوي الألباب وفيها من التناقض ما يحير العقول، ولنضرب مثلاً لكل، أما مثل غلط الكاتب فما ورد في السفر الثاني للأيام إصحاح (١٦- ١) إذا قورن بالسفر الأول للملوك (١٥-٣٣) ومثل الزيادة ما ورد في رسالة يوحنا الأولى (٥-٧) التي فيها إشارة صريحة لعقيدة التثليث ومثل التناقض ما في الإصحاح ٩ عدد ٧ من كتاب الأعمال والإصحاح ٢٢ عدد ٩ من نفس الكتاب إذ يقول في الأول أن الذين معه سمعوا الصوت وفي الثاني أنهم لم يسمعوا الصوت، فإذا جاز أن يكون الكاتب أخطأ في النسخ وانتشر خطأه في جميع النسخ فكيف لا يجوز أن يكون حرّف شيئًا وانتشر كذلك؟ ! وإذا جازت الزيادة في الفقرات والنقص فيها، فكيف نأمن أنه لم يزد أو ينقص ما يخل بالمعنى؟ وإذا وجد التناقض فيكف نرجح الصحيح على الباطل؟ هذا هو حال الكتاب الذي يتخذونه ميزانًا لكتاب الله تعالى وشتان ما بين هذا وذاك. وإننا نؤيد قولنا بإيراد أربعين شاهدًا من هذه الكتب على وجه الاختصار الذي لو راجعته لوجدته إما خطأ وإما تناقضًا، وإما زيادة، وإما دليلاً على أن المؤلف ليس من نسب إليه الكتاب إلى غير ذلك من الدلائل على فساد هذه الكتب وإذا لم تفهم بعض ما أشير إليه من عباراتها فطالع أحد التفاسير لتفهم غرضي لأني لا أريد ذكرها بالتفصيل والتكلم عليها خوفًا من التطويل الممل فلذا أكتفي بالإشارة إلى أماكنها وأترك الباحث وراء الحق ببحث كما شاء وهي هذه: أربعون شاهدًا من (الكتاب المقدس) عندهم على تناقضه واختلاله: ١- رسالة يوحنا الأولى ٥: ٧ ٢- تيموثاوس الأولى ٣: ١٦ ٣- أكو ٥: ١٥ ومر ١٦: ١٤ ٤- أعمال ٧: ٩ و ٢٢: ٩ ٥-أعمال ٢٢: ١٠ و ٢٦: ١٦ ٦- يوحنا ٣: ١٣ ٧- يوحنا ٢: ١٩ ومتى ٣٦: ٦٠ و ٦١ ٨- يوحنا ٥-٣١و ٨-١٤ ٩ - مرقس ١٦-١٦و ٢ويوحنا٢٠: ١ ١٠- مرقس ٢-٢٦ ١١- مرقس ١٠-٤٦ ولوقا ١٨-٣٥ ١٢- مرقس ٦-٨ ولوقا ٩-٣ ١٣- متى ٢٧-٩ ١٤- متى ١٢-٤ ١٥- متى ٦-١٣ ١٦- متى ١٩-٢٨ ١٧- متى ٥-٢و ١٧و١٨ ١٨- متى ٥-١٧و ٣١ و ٣٢ و ٣٨ و ٣٩ ١٩- متى ١٦-٢٧ وأيو ٢: ١٨ وأتسا ٤-١٥و ١٧و١٨ وأكو ١٠-١١ ومتى ٢٤: ٣٤ ٢٠- متى ١-١٢ ٢١- متى ١-١١و١٧ ٢٢- متى ٩: ١٨ومرقس ٥-٢٣ ٢٣- دانيال ٩-٢٤ ٢٤- حزقيال ٤٥-و٤٦ وسفر العدد ٢٨و٢٩ ٢٥- حزقيال ١٨-٢٠ وخروج ٢٠-٥ ٢٦- أرميا ٥٢-١-٣٤ ٢٧- نحميا ١٢-١-٢٦ ٢٨- ٢ ايام ١٥-١٩ وا ملو ١٥-٣٣ ٢٩ - ٢ أيام ٢٢-١وملو ٨-٢٦ ٣٠ -٢ أيام ٢٢-٢و ٢ ملو ٨-٢٦ ٣١- ١ أيام ١٩-١٨و٢صمو ١٠-١٨ ٣٢- ١أيام ١٨-٤و ٢ صمو ٨-٤ ٣٣- يشوع ١٠: ١٣ وتكوين ١٤: ١٤ (انظر ٢ صمو ١: ١٧ وقضا ١٨: ٢٩) ٣٤- يشوع ١٥: ٦٣ (انظر صموئيل الثاني ٥: ٦ - ٨) ٣٥- يشوع ٢٤: ٢٩- ٣١ ٣٦- تثنية ٢٣: ٢و٣ ٣٧- تثنية ٣٤: ٥ - ١٠ ٣٨- خروج ١٢- ٤٠ ٣٩- تكوين ٤٦: ١٥ ٤٠ - تكوين ٣٦: ٣١- ٣٩ ناهيك بما في هذه الكتب من الغلط والخطأ في المسائل العلمية والأخلاقية والاعتقادية، وقد أشرنا إلى بعضها فيما سبق. ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد توفيق صدقي) (المنار) إن ما ذكره في كون آدم ليس أول البشر على الإطلاق موافق لمذهب الصوفية الذي يؤيدونه بالكشف كما يعلم من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي. وللمقالة بقية. ((يتبع بمقال تالٍ))