للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


خديجة أم المؤمنين
(٨)

الفصل السابع عشر [١]
(بين روح وروح أو بدء الوحي)
(١)
في (حِراء) حدثت الحادثة الأولى من التأريخ الجديد الذي سنرى فيه بعل
السيدة (خديجة) فائقًا فواقًا عظيمًا مدهشًا، وهذه الحادثة العظمى التي هي مبدأ هذا
التأريخ هي أن روح محمد صلى الله عليه وسلم، اجتمع هناك في (حِراء) بروح
غير بشري وأبلغه هذا الروح الغريب رسالة شأنها عظيم.
نحن في الفصل السابق ذكرنا من أمر الروح ما فيه كفاية، ذكرنا فيه ما لعل
القارئ ينشرح به صدره إلى القول بوجود موجودات ذات حياة على أنواع شتى
ولا يشترط في بعضها أن تكون لها أشباح كالأشباح البشرية، وهذا قد سبقنا البشر
كلهم إلى القول به ولم يشذّ عنه إلا قليل وهو كلهم قائلون أن بين الروح الذي هو
إنسان وبين الأرواح الأخرى اتصالات، فأنا كاتب هذه السطور لست بمبتدع خبرًا
ليس له مثال بذكر هذه الحادثة التي قد يراها غريبة من يحبون التباعد عن
الروحيات، ومن يؤمنون بها أحيانًا ويكفرون بها أحيانًا من حيث يشعرون ومن
حيث لا يشعرون.
هذه حادثة عظيمة في السيرة التي نحن آخذون بتحريرها، ونحن مقتنعون
بوقوعها، ولا يدعونا إلى استماع هواجس المنكِر إلا الحرص على القيام بحسن
المرافقة، فإن كان المنكِر ينكر عالم الروح من حيث هو فالحق أنَّ حيلتنا البيانية
معه قليلة، ولكني أظن أنَّ محادثتنا إياه بهذه المسألة في الفصل السابق قد تجديه،
وإن كان ينكر العلاقة بين الروح الذي هو الإنسان والأرواح الأخرى فليس لنا ما
نتوسط به إلى إبلاغه هذا المشهد غير نفسه، فليرجع إليها كثير وليدقق في حديثها
جيدًا، وإن كان ينكر صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، في تحديثه بهذه الحادثة
مع أنه لا ينكر وقوع مثلها لغيره فالخطب في مذاكرته سهل.
كان محمد صادقًا شديد الحرص على الصدق واشتهر منذ حداثته بلقب الأمين،
قد عرفنا صدقه كما عرف الناس شجاعة أناس من الشجعان، وكرم أفراد من
الكرماء، وعِلم جماعة من العلماء، وكما عرف بنو إسرائيل صدق الإنسان موسى
الذي كان قد سمع الكلام الإلهي، وظهرت له الأرواح العلوية، وكما عرف النصارى
صدق الإنسان عيسى الذي كان روحًا من الله، وكما عرفوا صدق تلاميذه وأنصاره
الذين حكوا حكايته وبثوا بشارته.
هذا الصادق الأمين رجع ذات يوم من حراء منتقع اللون، مرتجف الصدر،
يعلوه اضطراب الوجل الحائر، وخشوع المخبت الصابر، فما وقع نظر السيدة
خديجة عليه حتى عرفت أنَّ أمرًا عظيما قد ألمَّ به، فخفق لأول وهلة قلبها، وساءلت
بسرعةِ البرق نفسها: ماذا أصاب حبيبي؟ ما خطب ذلك القلب الذي لا تفزعه
الرجال، ولا تجزعه الأهوال؟ ما بال ذلك الصدر المبسوط تثنيه الرجفات، وما
بال ذلك الطرف القرير تكاد تبادره العبرات؟ رباه رباه ماذا أصاب حبيبي؟ قل
لي أيها الحبيب ماذا اصابك؟ حنانيك قل لي قل لي.
دثروني، دثروني.
لا صبر لي عن معرفة الأمر الآن فقُصَّه عليَّ.
بينا أنا في حِراء إذ جاءني روح فقال لي اقرأ، قلت له: ما أنا بقارئ،
فأخذني وغطني غطة [٢] وقال لي (اقرأ) قلت: ما أنا بقارئ، ثم غطني الثانية
وقال لي: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، قال لي: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ
الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ١-٥) .
ألم تسأله من أنت، من جاء بك، وماذا تريد مني.
سمعته يقول أنا جبريل جئت أبلغك رسالة ربك.
هذه هي الأولى من الكلمات التي سمعها محمد - صلى الله عليه وسلم - من
ذلك
الروح الذي ظهر له باسم جبريل وهو من النوع المسمى ملائكة، والآن قد فُتِح
لصاحب حِراء بابان: باب حَيْرة جديدة وباب هدى، فأما الحيرة فظاهرة يكاد يراها
كل من سمع هذه الحادثة فإن ظهور الأرواح غير البشرية لأفراد النوع الإنساني ليس
من المألوف، فإذا صادف أحد الأفراد شيئًا من هذا القبيل لا يقوى طبعه البشري لأول
وهلة على تحمل مواجهته والأنس به، كل واحد منا يعرف هذا من مفاجأة الأمور
التي لم تكن تخطر في باله مع أنها من الأمور التي تقع كثيرًا فكيف الحال بالأمور
التي وقوعها نادر إلى حد أنَّ بعض الناس لا يصدق بوقوعها.
إنه ليخيل إلينا أن صاحب (حِراء) قد دهش لمَّا سمع صوت ذلك الروح يناديه
(اقرأ) يخيل إلينا أنه قال في نفسه: رباه ما هذا الذي أسمع؟ رباه ليس ههنا من
بشر فهل يتكلم غير البشر؟ رباه ماذا يراد بي؟ إنني أعلم أني في يقظة لا في منام،
وأنني أسمع كلامًا لا ريب فيه، وإنني أحس بضاغط يضغطني ولا عهد لي بمثل
هذا من قبل، رباه إن هذا أمر يدهش فكُنِ اللهم عوني، وخذ بيدي، وثبت فؤادي
وقوّني على مواجهته إذا عاودني.
نعم إنه ليخيل إلينا أن المفاجَأ بذلك الروح هكذا كان يتناجى في نفسه ويناجي
ربه بمثل هذه الكلمات وهو ذاهب إلى خديجة فلما لقيها قال (دثروني دثروني)
واختصر لها الحديث اختصارًا.
دثرته خديجة وجعل العرق يتصبب منه، وقد عاوده الروح بعد ذلك، وقال
له {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ *
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: ١-٧) .
إن من يفاجأ بمثل هذا جدير بالحيرة وهذا ما أشرنا إليه هنا، ولكن مع هذه
المفاجأة قد أونس باسم ربه فكان هذا الاسم الجليل حريًّا أن يكون دواءً شافيًا من تلك
الحيرة، وكافيًا أن يفتح باب الهدى والطمأنينة.
الروح جبريل يقول له أنا من عند ربك، جئت أبلغك رسالته، جئت ألقي
عليك وحيًا من عنده، وفي هذا الوحي الذي جاءه به مفتاح لتلك المغالق التي أشرنا
إليها آنفًا التي كانت تقف أمامه دائمًا.. في هذا الوحي مبدأ إرشاد وتعريف له بربه
خالق الإنسان. في هذا الوحي إهابة بفكره لتناول معارف عليا، وتعاليم عظمى، في
حقائق الوجود.
كانت الحيرة تردفها الحيرة، وأما هذه الحيرة فإن الهدى يردفها لأن العناية
الإلهية ظهرت أتم ظهور، والعطاء الرباني سُلِّم جليًّا لتك اليد التي كانت مرفوعة
في حِراء تلقاء السماء.
وكان أول معراج عرض بصاحب هذه اليد عليه إلى تلك الحضرات القدسية
هو إعلامه علم اليقين بأرواح عالية تتكلم هي غير الأرواح الإنسانية الحالّة في هذه
الصور البشرية وذلك بجعل واحد من هذه الأرواح وساطة بينه وبين مفيض الحياة
والعلم والإرادة.
هذه عناية كبيرة جدًّا لم يَرْوِ التأريخُ وقوعَ مثلها إلا لقليلين: منهم النبي
إبراهيم، والنبي موسى والنبي عيسى عليهم السلام.
يقول له الروح جبريل {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: ١-٢) فهذا القول العربي الجليل يصور له من النشأة المادية في خلق
الإنسان صورة يتجلى فيه عظيم قدرة البارئ المصور، وعظيم ضعف هذه الصورة
البشرية لولا روح الله الممد له.
يقول له الروح جبريل: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٣-٥) وهذا القول المجيد يصور له من النشأة الروحية في
كون الإنسان صورة يدهش الألباب فيها عظيم صنع الله في ترقية الإنسان بواسطة
قصبة لا يؤبه لها لدى النظر، نعم بواسطة قصبة نعني بها القلم كان الرُّقي العظيم
العقلي لهذا الكائن الذي خصت العناية الأزلية نوعه بمزيد خصائص.
وغريب في الأمر أن المواجَه بهذا الخطاب لم يكن من أرباب اليراعة بل كان
أميَّا لا يعرف القراءة ولا الخط بالقلم فما معنى أن يكون أول وحي يوحى إليه هو
الأمر بالقراءة والتنويه بالقلم.
لا بدع، لا بدع، إن معنى ذلك هو تكرم الله عز وجل على البشر بإعطائه
آية أخرى يفقهون بها أنه قادر أن يعلم من لدنه بغير ما عرفوا من الوسائط من شاء
ما شاء إذا شاء، وأن يجعل غير القارئ قارئًا ولكن يقرئه بالروح صحفًا ربانية قد
أنزلها الله على البشر بأساليب شتى أجلها وأعلاها هذا الأسلوب.
ما أجلّ هذه العناية وما أجدر خديجة بالسرور الذي ليس فوقه بها ولكن هل
عرفت هذا السر الرباني تمامًا؟ نعم كان قلبها القوي خليقًا أن لا يفزع أمام هذه
الحادثة التي هي غريبة في ظاهرها بيد أنها كانت محتاجة أن تطرق تفسير هذا
السر وهذا المظهر الجديد من أبوابه.
((يتبع بمقال تالٍ))