للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصاب مصر بوفاة رجلها العظيم
مصطفى رياض باشا
رئيس المؤتمر المصري

قضى الله ولا رادّ لقضائه أن لا نفرغ من تلخيص أعمال المؤتمر المصري؛
بنشر خطبة رئيسه الختامية إلا ويفاجئنا من الإسكندرية نبأ وفاة هذا الرئيس العظيم،
وطيّ سجل حياته الشريفة، ففي يوم السبت ٢٠ جمادى الآخرة (١٧ يونيو)
تغدى كعادته في داره برمل الإسكندرية، ونام لا يشكو ألمًا ولا سقمًا، وكان من
عادته المضطردة أن يخرج من حجرة نومه على رأس الساعة الرابعة أو يتأخر عدة
دقائق، فيشرب الشاي ممزوجًا بعصير الليمون، ويقابل من عساه يزوره ثم يركب
إلى النزهة ويعود عند المغرب، فلما جاءت الساعة الخامسة، ولم يخرج كعادته
افتقد فإذا هو ميت. عاش عيشة شريفة. ومات ميتة هنيئة - رحمه الله تعالى -
وأشهد أنني ما رأيته يائسًا من الحياة متوقعًا للموت كما رأيته في هذه السنة فقد
سألته غير مرة قبل المؤتمر وبعده عن صحته، فكان يجيب بأنه لا يشكو من شيء،
ثم يستدرك بقوله: (خلاص خلاص) ويشير بيده وبرأسه إلى الذهاب وقرب
الموت.
هذا هو الرجل الجدير بأن يرثى ويؤبن، هذا هو الرجل الحقيق بأن يؤرخ،
هذا هو الرجل الذي ينبغي أن نجعل سيرته في موضع الأسوة، وأخلاقه وأعماله
في مكان العظة والعبرة، فإنه من فحول الرجال الذين تنتجهم الفطرة السليمة في
بعض الأجيال، وهو حجة على أن أعظم ما يتفاضل به الناس هو جوهر النفس
وصفاتها وأخلاقها، لا ما يتلقى في المدارس من مصطلحات العلوم والفنون. فإن
العلم بهذه الاصطلاحات - وإن كان لا بد منه كالحرف والصناعات - ليس هو الذي
يجعل الرجل عظيمًا زعيمًا بإصلاح حكومته، أو ترقية أمته، وإنما هو من الآلات
التي تعين العامل على عمله إن خيرًا وإن شرًّا، فكم من عالم حافظ لأحكام الشرع
والقوانين لا يقيمها، بل يستعين بها على الفساد في الأرض، وكم من عالم
بالاقتصاد يقذفه إسرافه في هاوية الفقر، وإننا نرى مصداق ذلك بأعيننا كل
يوم.
إنني أدع للخطباء والشعراء تأبين نابغة مصر ورجلها العظيم، ورثاءه بما
يمثل مقامه في نفوس أمته، وعرفانها لقدره وقيمته، وأذكر أحاسن أخلاقه، وغرر
صفاته التي امتاز بها في عصره، وفضل بها جميع وزراء مصره.
إنني أعد له صفات وأخلاقًا يقل أن تجتمع في رجل واحد، وقد اجتمعت فيه،
وهي: سلامة الفطرة وكرم الجوهر، الاستقلال في الرأي والعمل، الابتكار
والتصدي للإصلاح، والإخلاص وحسن النية، العدل، حب الحق وكارهة الباطل،
الشجاعة وقوة الإرادة، العفة والنزاهة، الثبات والاستقامة، النجدة والمروءة،
السخاء وعلو الهمة، الاقتصاد والنظام، إيثار المصلحة العامة على المنفعة الخاصة
قوة الإيمان ومراقبة الله عز وجل وهو روح الفضائل كلها.
بهذه الأخلاق والصفات كان رياض باشا كالفلك تمر عليه الحوادث، وتنتقل
البلاد بحكومتها وشؤون الاجتماع والعمران فيها من طور إلى طور، وهو ثابت لا
تتغير أخلاقه، وقد خدم الحكومة المصرية من عهد عباس الأول إلى عهد عباس
الثاني، وذلك نحو نصف قرن. وكان خلقه مع كل واحد من هؤلاء الأمراء واحدًا
على اختلافهم في الأخلاق والآراء والسلطة المطلقة من كل قيد وكل سيطرة،
والسلطة المقيدة بالقوانين ومراقبة الأجانب وسيطرتهم.
سن إسماعيل باشا لرجال حكومته وأغنياء رعيته سنة الإسراف في البذخ
والانغماس في النعيم؛ فامتلأت القصور بالخمور والنساء الغربيات والشرقيات
والشماليات والجنوبيات، حتى كان يكون في القصر الواحد منهن العشرات والمئات،
وكان يتبع ذلك ما يتبعه من المعازف واللهو والطرب، وبقيت دار رياض باشا
ممتازة بين دور الوزراء والكبراء؛ كامتياز نفسه بين نفوسهم لم يدنسها شيء من
ذلك.
ثم سنت لكبراء المصريين والواجدين منهم سنة الاصطياف في أوربة،
فكانت الملاهي والحانات والمواخير مكتظة بهم، والدنانير تفيض فيها من أيديهم
فيضان النيل في أرضهم. وأما رياض باشا فكان يعيش في أوربة كما يعيش في
مصر عيشة الاعتدال والشرف والعفة، ومراعاة قوانين الصحة.
أخبرني في سياق حديث معه أنه لم يدخل دار من دور اللهو في أوربة ولا
دار التمثيل (الأوبرة) في باريس إلا قليلاً مع إسماعيل باشا بصفة رسمية، وأنه
لم يدخل المعازف وآلات الطرب داره إلا مرتين: إحداهما في زفاف ولده محمود
باشا فإنه جاري فيها رغبة أمه، والثانية إجابة لولي العهد لإحدى الدول الكبرى
(أظنه ولي عهد إنكلترة) فإنه زاره زيارة رسمية؛ إذ كان رئيس الحكومة واقترح
عليه أن يسمعه الموسيقى الوطنية، فلم تسعه إلا إجابته.
ولا يحسبن القارئ أن هذا الوزير كان يعيش عيشة القشف والخشونة، كلا إنه
كان متمتعًا بجميع الطيبات بالسعة مع الاعتدال وحسن النظام والشرف كما يليق
بمقامه العظيم، ولهذا بلغ الثمانين وهو متمتع بصحة بدنه، وسلامة حواسه وعقله،
يعرف ذلك من كان يلقاه مثلنا، وظهر ذلك للجمهور في رياسته للمؤتمر التي كانت
خاتمة أعماله الطيبة، فقد كان يجلس عدة ساعات في اللجنة التحضيرية وفي
المؤتمر العام لا يتحرك حركة غير عادية، وذلك ما تقصر عنه عافية كثير من
الشبان.
وكان هو الضابط بعقله ونفوذه المعنوي لسير المؤتمر ومناقشات أعضائه،
لولاه لخشي من تنازع الأحزاب فيه أن يجر إلى الفشل، فقد تحدث الواقفون على
خفايا الأمور أن بعض أصحاب الأثرة والأنانية كانوا يبغون ذلك؛ لأنهم لم يكونوا
هم الداعين إلى المؤتمر والقائمين به، وقد عرف من شنشنتهم مقاومة كل خير يقوم
به غيرهم، ويذمونه وينفرون منه كما نفروا الناس عن الجامعة المصرية وعن
جماعة الدعوة والإرشاد، على أنه لولا قبوله لرياسة المؤتمر لكان محل الريبة عند
الإنكليز وسائر الأوربيين، ولقاوموه خشية أن يجعله أصحاب الأثرة مظاهرة
سياسية تخشى فتنتها، ولا تؤمن مغبتها، وقد صرحت الجرائد الأوربية بما يثبت
هذا.
قلنا: إن رياض باشا كان مستقلاًّ في رأيه وإرادته وعمله، لم يعبث باستقلاله
نفوذ الخديويين، ونقول أيضًا: إنه لم يعبث باستقلاله نفوذ الاحتلال الذي تصرف
كما يشاء في تصريف من عداه من نظار مصر فمن دونهم من الرؤساء؛ ولذلك لم
يرض البقاء في الوزارة على عهدهم، بل رأى تركها أشرف من ترك استقلاله
الذاتي، ولم يكن فيما عارضهم فيه من المداخلة في أعمال الحكومة الداخلية (دون
الاحتلال نفسه) طالب شهرة ولا منفعة، بل كان عاملاً بما يعتقد أن مصلحة البلاد
لا تقوم إلا به، مخلصًا لها فيه، ولهذا أثنى عليه لورد كرومر كغيره من رجال
أوربة العارفين بالشؤون المصرية.
أدركنا هذا الرجل وقد شبع من جاه الدنيا وروي، فلم يكن كثير المبالاة بمدح
ولا ذم، وهو الآن أغنى عن المدح والذم وأبعد عن الانتفاع به أو التأذي منه،
فغرضنا مما نكتب عنه العبرة والحث على التأسي والقدوة. لا نفعه ولا سرد مسائل
تاريخه، عسى أن يستفيد منه من لهم بصيرة في تربية أنفسهم أو تربية أولادهم إن
كان وقت تربية أنفسهم قد فات.
يظن كثير من الناس أنهم يربون أولادهم ويعلمونهم؛ ليكونون رجالاً عظامًا،
وإنما كانوا ظانين واهمين؛ لأنهم لا يعرفون ما هي العظمة الحقيقية، وما هو
الطريق الموصل إليها، يظنون أن العظمة في المناصب الكبيرة ذوات الرواتب
الكثيرة، وألقاب العزة والسعادة، أو العطوفة والدولة، وإن كان صاحبها عاطلاً من
الاستقلال عاريًا من الفضيلة، كلاًّ على أولي السلطان والقوة، أينما يوجهوه لا يأت
بخير، وإن الطريق الأدنى إليها هو أخذ ورقة الشهادة الدراسية من مدارس مصر،
والطريق الأعلى أخذ ورقة مثلها من مدارس أوربة، وقد أخطأوا في الأمرين؛
فليست العظمة الحقيقية في المناصب العليا، وإن من الناس من يفضحه منصبه،
ويظهر فساده ومهانته، وليس الطريق إلى هذه المناصب هو الشهادة الدراسية وإن
كانت الشهادة شرطًا للاستخدام في الحكومة، وإنما يكون الإنسان عظيمًا بجوهر
نفسه وعقله، وعلو أخلاقه وآدابه، فإذا نال العاقل الزكي النفس الكريم الأخلاق
منصبًا كان هو الذي يشرف المنصب بالاستعانة به على الإصلاح والنفع، فإن
كان مع ذلك واسع العلم، كان علمه أكبر عون له على أعماله النافعة، وإن كان لم
يؤت من العلم إلا قليلاً هداه عقله وأخلاقه إلى الاستعانة بأهل العلم، فجعل علم
غيره آلة له وعونًا على الإصلاح الذي يريده. على حين يبعد العالم الفاسد الأخلاق
عنه أهل العلم، ويصطنع أهل الجهل، فيضر الناس ويمنع غيره أن ينفعهم،
فالعلم لفاسد الأخلاق كالسلاح في يد المجنون.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))