إلى محرر التيمس: اطلعنا على نداء موجه من السير جون مافي، الحاكم العام للسودان، بمناسبة ذكرى موت الجنرال غوردن، يدعو إلى الاكتتاب بالمال لوضع أعمال الكنيسة في السودان على أساس صحيح باق، وإننا نحن الذين نلنا الفخار بأن كنا رفقة السلاح في ميادين القتال التي أخذ بعضها برقاب بعض بين سنة ١٨٨٣ وسنة ١٨٩٨ من دنقلة إلى فاشودة، ومن سواكن إلى كردفان، وخيضت غمراتها لتحرير السودان من كابوس الدراويش كابوس البغي الرهيب؛ ولتمهيد السبيل إلى إنجاز العمل لخير الإنسانية، العمل الذي كان غوردن رائده وفاتح طريقه، نود أن نعضد ذلك النداء بكل ما في مقدورنا من قوة. ثلاث وأربعون سنة قد انقضت على سقوط غوردن قتيلاً في الخرطوم، وقد مات كما عاش، في سبيل غاية من معالي الغايات، واسمه يبقي الوحي والإلهام لكل فرد من الجنس الناطق بالإنكليزية، فحياته وموته هما حقًّا مخلدان بعمل التمدين العظيم الجاري القيام به الآن في السودان، والتذكارات المادية لحفظ شهرته ليست بالقليلة، ولكن شيئًا أكثر من هذا لا يزال منتظرًا أن يُعمل؛ إذ يظهر للذين يجلون ذكرى غوردن أنه من العجز - مع ما انقضى من الزمن منذ موته، ومع ما هناك من الجهود المتواصلة من أهل التضحية الذين قاموا بما قاموا به من الخدمة في سبيل الكنيسة في السودان - أنه من العجز مع كل هذا أن لا يكون من الممكن استئناف العمل في سبيل الكنيسة في البلاد التي أنفق غوردن من أجلها تضحيته السامية. فالواجب المفروض لا يزال غير ناجز بعد، وقبل أن يذهب أهل هذا الجيل إلى ربهم، وهم الذين لم تبرح مأساة يناير سنة ١٨١٥ ذكرى حية في خواطرهم، وقبل أن يتباعد اسم غوردن من الأذهان، ويحوطه شبه النسيان، فيندرج مختفيًا مع ما يختفي من الأشياء السالفة الأوان، ومعارك القتال القديمة الأيام، نحن بعض الذين شهدنا كوائن فتح السودان، مُوَفِّينَ ما كان علينا من قسط في كل دور من الأدوار، وكتب لنا البقاء إلى هذا الزمان، نناشد جميع القوم على السواء، مناشدة الجد والحزم باسم غوردن وغيره من بُسْل الرجال الذين سقطوا في تلك البلدان، أن يلبوا نداء الحاكم العام بما يملكونه من مصدر إعانة لجمع المال الذي به يستعان في تخليد عمل غوردن الدائم البقاء. الإمضاءات بلومر - فليد مارشال، بيتي رجلد ونجت، أرشبولد منطر - جنرال. مكسويل - جنرال. ملن - فيلد مارشال. سميث دوريان - جنرال لسلي رندل. - جنرال. سنو - فريق ثان، جوسلين ودهوس جنرال إدورد غليشن - فريق ثان. فريد ستيفورد - فريق ثان. بيتن - جنرال. ستوكلند - فريق ثان. أسار - جنرال. هويجهام جنرال. *** نداء عظماء رجال الجيش لتخليد ذكرى غوردن مقالة التيمس منذ أربع وأربعين سنة، ختامها يوم السبت الماضي، كانت تجريدة عسكرية بريطانية، بعد أن تناقص عددها حتى التلاشي لكثرة القتال المتواصل ولا سيما بعد معركتين دمويتين جلبتا الويل الأكبر، تشق طريقها، بشق الأنفس، مذعورة، نحو الجنوب في كبد الصحراء، وكان قائد التجريدة قد قتل، وكان خليفته في القيادة وقتئذ قد وقع في الشرك لجنوح الباخرة إلى اليابسة، ولما قيض للقائد والتجريدة في النهاية الاتصال والاجتماع، كان لا يزال بينهما وبين المكان المقصود مسيرة يومين، فوصلوه متأخرين يومين، وكان الخرطوم بيد المهدي ودراويشه، وكانت عشرة أشهر طافحة بضروب اليأس، وبصنوف من الدفاع المقرون باليأس، وبأعمال كانت للدهاء مجلى عجيبًا وللفظاعة مشهدًا غريبًا، بقدر ما كانت كوائن عظيمة ووقائع جليلة، بل كانت العشرة من الأشهر انقطاعًا وانعزالاً، قل من يعرف لهما مثالاً، فكان الأمل يحيا ثم يفنى، ثم بعيد حين تراه يبعث حيًّا، ثم يعود سيرته الأولى متعاقبًا عدمًا ووجودًا، وقس على هذا ما كان من إيمان وعزم، وأخيرًا وافق اختتام العشرة الأشهر، وكان اختتامًا مظفرًا، ولكنه كان هائلاً. في ٢٦ يناير ١٨٨٥ كان تشارلس غوردن قد جندل بطعنات الكفار، تجار الرقيق، القتلة، الذين صمد لهم حتى النفس الأخير من حياته، وليس بوسع أحد كان حيًّا في إنجلترا يومئذ أن ينسى تلك الفترة: من الملكة إلى أدنى طبقات الشعب، كان كل فرد قد طاف به طائف من الدَّهَش والروعة، فقد كان بالإمكان إنقاذ غوردن، وقد كان يجب إنقاذه بشيء أكثر من التصميم والإقدام هنا بشيء أكثر من نفاذ البصيرة هناك، كان من الممكن إنقاذه ولكنه لم ينقذ، ولما كانت تلك العاصفة من الشعور في إبان عصرها، لم يكن من طبع الإنسان (ولا المرأة) أن يبعث بنظره ناقدًا أول السياسة الرشيدة وطرق الحرب وأساليبها، وموازنًا بين تفاصيل الحقيقة والقصد، وتفاصيل الأوامر المعطاة والأوامر المفروضة، وتفاصيل الطاعة المخلصة والعصيان الموحى به، وتفاصيل الوعود المقطوعة والوعود التي أخذت كأنها قضايا مسلمة، مما يمكن الآن لصاحب النظر العادل، بعد أن مضى ما مضى، أن يستخرج من مجموعه الحقيقة المتعلقة، بتاريخ كارثة غامضة معقدة، دع عنك كيف وصل غوردن إلى الخرطوم بل اعلم أنه هو هناك محصور فيها، ويكفي أن تعلم أن جنديًّا إنجليزيًّا باسلاً مقدامًا أرسلته بلاده لينقذ من أصبحوا أذلاء تحت مواطىء الأقدام، قد ترك ليلاقي في حصاره الموت الزؤام، وإن هذا عبرة كافية لشعب صحيح الشعور، وإننا نعلم الآن الموضع الذي يجب أن توضع فيه الملامة، ونعلم أيضًا مقدار هذه الملامة، ولكن عند النظر خلال الأربع والأربعين سنة الماضية، لا يكون من شيمة العقل الحر أن يأخذ بأفكار الملامة، فالعاصفة قد سكنت واضمحلت ويرى الناس جميعًا شبحًا مضيئًا خارجًا من ذلك المضطرب، وهو على كل حال ليس شبح بطل من أبطال الأساطير، ولكنه لما كان له نور العبقري وإشراقه، فله أيضًا عظمة العبقري وتساميه: التجرد عن الدنيا الإيمان الكامل، والانصراف عن كل شيء، ما خلا إرادة الله، وليس بإمكان البصيرة الإنسانية أن تكشف حُجُب الغيب عما عساه يقع ويحدث، ولكن حقيقة ما وقع وحدث بيِّنَة جلية، فقد اقتضى الأمر ثلاث عشرة سنة عملاً وحربًا، لمحو الضرر السيئ الذي كان من الأشهر العشرة ولكن الثلاث عشرة سنة، أخرجت لإنجلترا رجلاً قائدًا ورجالاً سواه قوادًا بحسب مراتبهم، وصاغت منهم أبطالاً، أبطال يوم كان مأزقه حرجًا. وإذا كان من المُسَلَّم به أن هذا هو الخير الوحيد الذي جاء من جميع ذلك الشر، فمن الواجب أن يرى إلى جانب هذا الخير خير آخر أيضًا، وأن شهادة المستشهد في الخرطوم أكسبت بريطانيا وجميع العالم، بطلاً جديدًا، ومثالاً جديدًا، وأضافت اسمًا جديدًا إلى أسماء الرجال الذين وهم على صورتنا البشرية - وما أبعد الفرق- أصبحوا يضيئون في الخيال ويشرقون، ويتسامون بالروح ويتعالون. أما غوردن فقد بذل نفسه في سبيل تحرير السودان من القهر وأيدي السلب والنهب، بل وفي سبيل ما هو أكثر من هذا، ألا وهو (تنصير السودان) وفي يوم السبت الماضي، وهو يوم الذكرى الأربع والأربعين لموته، وذكرى قريب الثلاثين لتحقيق الغرض الأول من أغراضه، أذاع حاكم السودان العام نداء عامًّا للاكتتاب المالي لاستئناف العمل في سبيل تحقيق الغرض الثاني - وهو الأعز- وعضَّد النداء أعاظم القواد الذين كانوا في الحملة الحربية ولم يزالوا أحياء يرزقون، وهي الحملة التي بإحرازها الحرية للبلاد عَبَّدَتِ الطريق لنشر الدين، ومن المؤكد أن مثل هؤلاء القواد لا يذهب نداؤهم عبثًا. وبعد أن انقضى على موقعة أم درمان سنتان وهي موقعة تحرير السودان أذيع نداء لبناء كتدرائية في الخرطوم، ولكن حرب جنوب إفريقيا صرفت أذهان الناس وأيديهم عن العناية بالمشروع، ومنذ زهاء عشرين سنة افتتح اكتتاب في (منشن هوس) وكان الملك إدورد ومليكنا الحالي في الطليعة، ثم إلى الآن انقضى سبع عشرة سنة على تكريس الكتدرائية في الخرطوم لم تبرح تلك المحطة الخارجية من محطات النصرانية في إفريقيا، وهي مبنية على مرمى حجر من مقتل غوردن، وفي القسم الأوسط من داخلها المصلب كنيسة غوردن التذكارية، لم تبرح تلك المحطة غير ناجزة وغير محبوسة عليها الهبات. وهناك حاجة إلى أن تُشَاد الكنائس في بورسودان على ساحل البحر الأحمر شمال سواكن، وفي عطبرة على النيل جنوبي بررة وفي واد مدني على النيل الأزرق للشمال الشرقي من الخرطوم، في أماكن أخرى حيث الطوارئ البريطانية مُوَزَّعَة جماعات هنا وهناك. وهناك حاجة إلى كنيسة سيَّارة تروح وتغدو في القطار وإلى هذه الكنيسة السيارة الحاجة أمس لما نعطي من الوسيلة لنشر الدين الذي كان عليه غوردن، وفي سبيله مات، وإن الروح التي لا تغلب روح رجل العبقرية في التضحية والغرابة، لم تزل قوة حية في بلاده وإنها الآن لفرصة وواجب في المتناول، أن يشترك في عمله الذي بدأ هو به، وتبذل المعونة لنشر ذكراه وتعميم تلك النفس السامية النادرة المثال، في كل ناحية وصوب اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))