علم الإنكليز بما علمتهم ثورة مصر سنة ١٩١٩ أن قولهم: إننا ندير الأحكام في مصر برجال - أي بآلات - من أهلها، قد بطُل وتعذر بقاؤه، فوطنوا أنفسهم على الاعتراف باستقلال مصر المقيد بما علمنا، والاستقلال بالحكم في مملكة السودان الشاسعة الواسعة، وطرد المصريين منها مع الاستمرار على أخذ المال الكثير من خزينة مصر باسم السودان في كل سنة، فافترصوا الوقت المناسب لتنفيذ ذلك فنفذوه، وأما مصر فسلكوا في معاملتها مسلك المضايقة لحكومتها في كل تصرف، والمعارضة لما يقرره (برلمانها) حتى في الأمور الداخلية حتى رموها بالشلل، وكان ما كان من إفضاء ذلك إلى إلغاء حكومة الدستور وتعطيل البرلمان وتأليف وزارة محمد محمود باشا سليمان زعيم الحزب الدستوري الذي يعتمدون عليه بمصر، وفي إثر ذلك سقطت وزارة المحافظين البريطانية المثيرة لهذه المشاغبات، والمدبرة لهذه المضايقات، والمديرة لهذه المكايدات، وتبعها إلجاء المندوب السامي البريطاني المنفذ ما أشرنا إليه من السياسة السوءى إلى الاستقالة من منصبه، ثم وضع أساس الاتفاق على حل عقد المشكلة المصرية بمعاهدة تُعقد بين الحكومتين كما بيَّنا ذلك كله في أجزاء منار هذا العام (الهجري) الثاني والثالث والرابع. ورأى الإنكليز أن المعاهدة التي عرضوا مسائلها على محمد محمود باشا وتراضوا معه عليها لا تكون شرعية إلا إذا وافق عليها برلمان مصري، ومن ثم سعوا إلى تغيير الوزارة (الدكتاتورية) وإعادة الحكم الدستوري إلى مصر بعد أن آنسوا من رئيس الوفد المصري ميلاً إلى الاتفاق معهم على هذا الأساس في الجملة، وقد كان ذلك أمرًا مفعولاً، فتألفت وزارة مؤقتة برياسة عدلي باشا يكن لإعادة انتخاب النواب المصريين، فكان ذلك وكانت الأكثرية العظمى في مجلس النواب الجديد للوفد المصري وكذلك مجلس الشيوخ، ومن ثم تألفت الوزارة الدستورية الجديدة برياسة مصطفى باشا النحاس رئيس الوفد وتلا ذلك تأليف وفد من وزارته لمفاوضة الحكومة البريطانية في المعاهدة الجديدة على ذلك الأساس بعد الاتفاق على ما يعرضه الوفد من التحوير والتعديل الذي أشرنا إليه في جزء المنار الرابع (ص ٣١٥ م ٣٠) بقولنا في المشروع: (ومن الناس من يظن كما نظن أن البرلمان الوفدي لا يرده ردًّا ولكنه يتوخى خدمة البلاد بما يبين به ما فيه من إجمال، ويوضح ما فيه من إبهام، ويقيد ما تخشى مغبته من إطلاق) وقد كتبنا هذا قبل تأليف البرلمان الجديد. ذهب وفد المفاوضة إلى لندن للمفاوضة، فتلقته الحكومة البريطانية بالحفاوة والإكرام والمآدب، وكان من إكرامه مقابلة (الملك صاحب الجلالة البريطانية) له بالمجاملة، ثم دارت المفاوضات بينه وبين حكومة العمال، وتواترت الأنباء البرقية اليومية بأن الفريقين المتفاوضين حريصان على الاتفاق لم يظهر منهما إلا حسن النية التي تبشر بكل خير، حتى إذا ما جاء دور البحث في السودان تصادما فيه تصادمًا كاد يحبط كل ما تقدمه من تساهل، ويعيد مصطفى باشا النحاس بخفي حنين كما عاد سلفه سعد باشا قبله. ظهر للوفد المصري أن الإنكليز يريدون الانفراد بالحكم في السودان، أي جعله بريطانيًّا محضًا لا حظ لمصر من الشركة الفعلية فيه، وأن يكون ذلك بإقرار الوفد، وتصديق البرلمان المصري على الحالة الحاضرة فيه، ويأبون أن يكونوا شركاء لمصر فيه بالمساواة الفعلية، وهو حق مصر وحدها وليس لهم أدنى حق قانوني بهذه الشركة التي عقدوها سنة ١٨٩٩ مع بطرس باشا غالي الذي كان وزير الخارجية المصرية، إذ لا حق له بعقد هذه الشركة، وكان لورد كرومر أراد يومئذٍ أن يحمل مجلس النظار المصري على عقد تلك الشركة، فكلَّم رئيسه مصطفى فهمي باشا في ذلك فأجابه أن الفرمانات السلطانية بالاستقلال الإداري لمصر لا تبيح للحكومة المصرية ذلك فهو حق السلطان العثماني وحده، فلما لم يمكن جعل عقد الشركة بقرار من مجلس النظار بناء على أنه لا حق له في عقدها رضوا بما دونه، وهو عقدها مع وزير الخارجية. وقد قلنا في آخر الجزء الثالث (ص٤٢٠ م ٣٠) بعد بيان مشروع الاتفاق الذي حمله محمد محمود باشا ما نصه (مسألة السودان أهم مسائل هذا الاتفاق على الإطلاق؛ لأن مصر لا حياة لها بدون السودان، فهو منها بمنزلة القلب من البدن، والنيل الآتي منه بمنزلة الدم الذي يغذي الجسد ويحفظ حياته) . فأي خزي أخزى من إعطاء مصر السودان العظيم الشأن للإنكليز بصفة رسمية تتفق عليها الحكومة والأمة الممثلة في برلمانها؟ وحرمان نفسها من هذه المملكة العظيمة التي هي أصل وجودها ولا بقاء لها إلا بها؟ نعم إن الإنكليز مستولون على السودان بالقوة التي مكنها فيه إهمال مصر السابق من عهد إرسال إسماعيل باشا إليه (غوردون) الإنكليزي وإعطائه حق التصرف فيه وإعانته على ذلك بالمال؛ ولكن هذا الاستيلاء غصب همجي لا حق قانوني، فإذا لم يقرِّه البرلمان المصري فلمصر الحق في كل وقت بالمطالبة به بلسان القانون الدولي والحق الطبيعي، ثم بالقوة عند سنوح الفرصة، ولا ييأس من فرص الزمان إلا الجبناء الجاهلون، كما أنه {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: ٨٧) . لا يخفى على أحد من رجال الوفد ولا غيرهم أن هذه المعاهدة التي تدور المفاوضة بشأنها مقيدة لاستقلال مصر بقيود ثقيلة فيها خطر كبير، وأن النص فيها على انتهاء الاحتلال لا معنى له في الواقع إلا انتقال الجيوش المحتلة من القاهرة إلى منطقة الإسماعيلية وما وراءها إلى السويس من أهم المواقع العسكرية في البلاد، وأنها تتضمن خطرًا آخر هو شر من التحفظات الأربعة التي قيد به تصريح فبراير سنة ١٩٢٢ المشهور، وهي القيود العسكرية المعروفة، وما عدا ذلك من المزايا فيها كالدخول في عصبة الأمم وحماية الأجانب وإلغاء المحاكم القنصلية فهو قليل ضئيل حقير، إذا بيع به السودان العظيم الضخم الكبير. لذلك نجزم بأن قطع المفاوضات وفشل مشروع المعاهدة خير وأبقى على مصر، وأضمن لحياتها في المستقبل من إعطاء السودان للإنكليز عطاء رسميًّا. إن طبيعة الاجتماع البشري سائرة سيرًا سريعًا إلى القضاء على استعباد أقوياء الشعوب لضعفائها باسم الاستعمار وغيره من الأسماء الخادعة كالحماية والانتداب، وإذا كانت الهند مصدر ثروة الإنكليز وعظمتهم وهيكل إمبراطوريتهم قد هبت تطلب الاستقلال المطلق، وهي تسير إليه سيرًا طبيعيًّا لا شك في وصولها إلى الغاية منه، فهل يليق بمصر أن تهب السودان لهم هبة رسمية؟ إن هذا لا يعقله أحد أوتي مسكة من العقل والشرف.