(٤) تابع ما قبله ولعل الحكمة في إرادة الله تعالى اختلاف آراء النصارى ومذاهبهم في عقائدهم وغيرها هذا الاختلاف المعروف قبل البعثة المحمدية هي إشباع العقول من كثرة البحث والتفكير [١] وتوسيع معلومات الناس وتكبير مداركهم وترقيتها بذلك حتى تتهيأ لقبول العقائد والتعاليم الإسلامية بعد تشويقها إلى معرفة الحقيقة وتطلبها الوقوف عليها إذا عرفتها، بعد هذا التعب الشديد والضلال عنها، وإن كانت سهلة كما هو شأن الحق دائمًا، عضت عليها بالنواجذ وما فرطت فيها الأمة المحمدية تفريط من قبلها كبني إسرائيل الذين أوحي إليهم الحق رخيصًا فلم يعرفوا قيمته. ولو ضلت الأمة المحمدية كلها عن الحقيقة وهي آخر الأمم لاحتيج إلى وحي جديد، ولكن أراد الله أن يختم بمحمد النبوة لارتقاء البشر في عهده وكفاية العقل والقرآن لهدايتهم؛ فلذا كان ما كان وصان القرآن. ولو أراد الله بقاء كتبهم للعمل بها إلى يوم القيامة كما يزعمون لصانها كما صان القرآن الشريف من التحريف والتبديل والضياع، ومع ذلك فقد أبقى الله تعالى فيها من العقائد الصحيحة والحكم والنصائح العالية ما فيه هداية للمفكرين، وما به إظهار كذب أهل الكتاب ودسهم على أنبيائهم ما لم يأتوا به وما لم يقولوه ولذلك تجد - إذا تأملت - ما دسوه قلقا مضطربًا لا يتفق مع تعاليم الأنبياء الأصلية كما سبق تفصيل بعض ذلك في هذه الرسالة، ولكن لا يدرك كل الناس الفرق بين الحق والباطل في هذه الكتب {وَلاَ يَزَالُونَ} (هود: ١١٨) في أمرها {مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: ١١٨-١١٩) وما الأديان في هذا العالم إلا كباقي الأشياء الأخرى قابلة للتبديل والتغير الذي به تسترد شبابها وقوتها، ألا ترى أن الأشجار مثلا تذبل وتسقط أوراقها كل سنة في زمن الشتاء حتى تصير كالميتة ثم إذا ذهب الشتاء انتعشت، وأورقت وأزهرت وأثمرت، وصارت أقوى وأبهج مما كانت، فلا يعيق ذلك الذبول المؤقت صحتها وقوتها بل تكتسب به شبابًا جديدًا في كل سنة، فكأنها تكتسب من الضعف قوة ومن الذبول والتغير صحة وشبابًا ورقيًّا [٢] . فكذلك سنة الله في الأديان وغيرها فهي وإن تبدلت وتغيرت في بعض الأوقات إلا أن ذلك يكسبها قوة وتقدمًا ورقيًّا بنهوض العقل البشري للبحث والتفكر فيها، وبما يوحيه الله للناس من جديد فتعود إليها صحتها ويرجع إليها شبابها وتصير أحسن مما كانت بعمل الأنبياء والمصلحين الذين يكونون لها كالشمس والماء للأشجار. (راجع أيضا هامش صفحة ١٢٦ من هذه الرسالة) . هذا وإنما استعمل الله لفظ الأب في التوراة والإنجيل في حق الله ولفظ الأبناء في حق المخلوقين كما في (مت ٥: ٩ ويو٢٠: ١٧) وغيرهما، إذا صحت رواية اليهود والنصارى، ولم يستعمل ذلك في القرآن؛ لأن الناس كانوا في تلك الأعصر الأولى ضعاف العقول حتى إنهم قل أن يفهموا شيئًا بدون ضرب الأمثال والتشبيه لهم؛ فلذا كثرت في كتبهم فلأجل أن يعرفوا أن الله رؤوف رحيم بهم محب لهم كما يحب الأب أبناءه بل أكثر، سماه أنبياؤهم لهم أبًا، وسموهم أبناءه، ولكن بعد زمن المسيح بقليل أي: بعد انقطاع الأنبياء فيهم الذين كانوا دائمًا يحذرونهم من الوثنية صار الناس يحملون كلا من لفظ الأب والابن على معناه الحقيقي وادَّعَوا (كما في كتابات يوستينوس الشهيد [٣] المتوفى نحو سنة ١٦٦ ميلادية وغيره كثيرون) أن الله ولد الابن ولادة حقيقية أي أنه جزء خرج منه، وفهموا ما جاء في سفر المزامير (٢: ٧) ورسالة العبرانيين (١: ٥) [٤] [٥] [٦] [٧] ونحوهما فَهْمًا خطأ، ولهم في ذلك سخافات اتصلت إليهم بعد أنبيائهم من الوثنيين والفلسفات الأجنبية كفلسفة سقراط وأفلاطون اللذين قالا بعقيدة الكلمة قبل المسيح بقرون كما اعترف بذلك يوستينوس نفسه في بعض كتبه، وإن كانت عقيدتها طبعًا أبسط من عقيدة النصارى المعروفة. وقد كان الرومانيون وغيرهم يعبدون بعض قياصرتهم في حياتهم ويألهونهم بعد موتهم (راجع ص٤٤ من كتاب التوراة غير موثوق بها لمؤلفه Wslter Jekyll) وكانت عبادة البشر [٨] وتأليههم شائعين في المملكة الرومانية، في ذلك الزمن كما يفهم أيضا من نفس سفر الأعمال (١٢: ٢٢ و٤١: ١١ و٢٨: ٦) فلما فشا في الناس ذلك المعنى الضار في الأب والابن بتأثير الوثنية أبطل الله هذه الاستعمالات المجازية في القرآن الذي هو آخر الكتب بعد أن حصل الناس على الغرض منها، وأصبحت لا فائدة فيها لهم سوى أنها قد تجر بعض سخفاء العقول كما جرتهم من قبل إلى الغلو فتوقعهم في الشرك والوثنية مرة أخرى بعد ختم الوحي والنبوة فلذا استبدلها الله تعالى باستعمالات أخرى أقرب إلى تصوير الحقيقة، وأبعد عن الضرر، وتكفي الناس في ذلك الزمن لفهم المراد ما كفتهم تلك في الأزمنة الأولى والبشر في طور الطفولية، فبين تعالى في كتابه العزيز أن الله رؤوف رحيم ودود لعباده وأنه يحبهم ويحبونه (قرآن ٣: ٣١ و٥: ٥٤ و١٦: ١٨ و٨٥: ١٤) وغير ذلك كثير وأنه وليهم (٢: ٢٥٧) وهم أولياؤه (١٠: ٦٢) وبدأ كل سورة منه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: ١) ، وبيَّن رسوله أن الخلق عياله وأنه أشفق عليهم وأرحم من الأم بولدها وبذلك ونحوه حصلوا على فهم ما فهمه الأولون من الأب والأبناء بدون أن يلحقهم ما لحق أولئك من الشرك والوثنية، فإن البشر في زمن البعثة المحمدية كانوا أرقى ممن سبقهم فكانت تكفيهم كما قلنا هذه العبارات لفهم المراد من محبة الله لهم بدون تشبيه ولا تمثيل، ولا تنس أن محمدًا هو خاتم النبيين لذلك تركت هذه الاستعمالات المجازية في القرآن لعدم حاجة البشر إليها في فهم المراد؛ ولأنهم إذا وقعوا بسببها في الوثنية تعسر إبعادهم عنها بعد ختم الوحي والنبوة. هذا وفي قول القرآن الشريف: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة: ١١٩) وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: ٥٤) من التكريم الإلهي والتحبب واللطف ما لا يخفى على متأمل، فكأن الله تعالى {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} (الروم: ٢٧) ساوى عباده به حتى صار يطلب رضاهم عنه وحبهم له كما يطلبون هم ذلك منه، وهو الذي بدأ - كما في هذه الآيات - بالرضا عنهم والحب لهم، فأي رفع لنفوس البشر وجذب لقلوبهم، بعد أن أماتها الشرك والوثنية، أكبر من ذلك؟ فهم وإن كانوا عباده إلا أنه لا يعاملهم معاملة السيد لعبيده بل معاملة الأخلاء بعضهم لبعض كما هو ظاهر من عبارات القرآن، وهي لا شك أدعى لرفع نفوس الناس وتشريفهم وجذب قلوبهم إلى الله تعالى من قول الإنجيل: (أبانا الذي في السموات) . فإن الفرق بين درجة الأب مع ابنه ودرجة النظير مع نظيره لا يحتاج لتوضيح. وقول القرآن: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: ١٨٦) وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: ١٦) ليس كقول الإنجيل: (هذا إنه في السموات) ؛ إذ دلالة الأول على القرب لا تقارن بدلالة الثاني عليه، وشتان بين من يدعو الذي في السموات وبين من يدعو الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، وفرق بين النصراني الذي ينتسب إلى الله ويقول: إنه أبوه وبين المسلم الذي يتقرب إليه الله نفسه ويقول له: إني أقرب إليك من أجزاء جسمك الداخلية، ويخاطب نفسه بقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: ٢٨-٣٠) . أما قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة: ١٨) فليس المراد به إنكار تسميتهم أبناء الله بمعنى أحبائه بل المراد إنكار اختصاصهم بذلك، كما ادعت اليهود والنصارى [٩] ، وبعناية الله بالوحي والنبوة والخير الأكبر، وغير ذلك دون سائر العالمين، فبيَّن تعالى لهم أنهم عنده كسائر الناس خصوصًا في زمن البعثة المحمدية التي ساوت بين جميع العالمين، وإن كانوا فضلوا في بعض الأشياء، وفي بعض الأوقات عن غيرهم إلا أن ذلك لم يكن لكل زمان ولا في كل شيء، ورد عليهم دعواهم المحبة لله بأنهم يعصونه، والمحب لمن يحب مطيع، فهم كاذبون أيضًا في دعوى محبتهم له، ولو كان لهم عنده مزية على غيرهم لما ساوى بين الناس جميعًا في العقاب الدنيوي والأخروي؛ ولذلك قال: {يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (المائدة: ١٨) أي كباقي الناس، فالمراد أن الخلق كلهم عياله تعالى وأنه محب لهم جميعًا ولم يبق مزية لكتابي على جاهلي ولا لأبيض على أسود ولا لعربي على عجمي بل الكل عند الله سواء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) ويجوز أن مذهب وحدة الوجود كان فاشيًا في نصارى العرب ويهودهم كما كان فاشيًا في أسلافهم الأولين على ما بيَّنا في حاشية (صفحة ١٤١) فيكون مرادهم بقولهم: إنهم أبناء الله أنهم مولودون أي أن مادتهم هي من ذات الله تعالى، فكذبهم القرآن في هذه الدعوى وبين أنهم مخلوقون محدثون هم وسائر الناس بقدرته وصنعه لا مولودون منه، فيجوز عليهم كل ما جاز على سائر الأحياء المخلوقة كالآلام والذل والعذاب وغيره، ولا يعقل أن الله يهين نفسه ويعذبها لو صح قولهم إن ذاتهم هي من ذات الله تعالى، بل له ملك السموات والأرض بالقهر والإيجاد لا بكونهما أجزاء منه، والوجه الأول عندنا أقرب إلى ظاهر الآية فإن المتبادر منها أن العطف في قوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: ١٨) هو للتفسير، فمقصودهم أنهم وحدهم أحب الناس إليه كأنهم أبناؤه؛ لأن ولد الإنسان أحب إليه من كل من سواه كما لا يخفى. واعلم أن الله تعالى منزه عن الانفعالات النفسية والجولات الفكرية والتأثيرات القلبية ونحوها من صفات الحوادث؛ فوصفه تعالى بالحب والرأفة والرحمة وغير ذلك هو أيضًا لا ينطبق تمامًا على صفاته القديمة، وإنما هي ضرورة التعبير ألجأتنا إلى هذه الألفاظ ونحوها لنفهم منها فضله علينا. أما الحب عندنا في جانب الله فمعناه [١٠] إفاضته الوجود، وما يلزم له من النعم العديدة التي لا تحصى على جميع المخلوقين ولو كانوا به كافرين مشركين ودوام هذا التفضل والإنعام على عباده المؤمنين إلى الأبد من غير أن يعود عليه تعالى أقل نفع له منهم جميعًا، أو أدنى فائدة ترتجى له؛ إذ هو الغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل من عداه، فحبه تعالى يمتاز عن حبنا في كونه صفة أزلية له تعالى، وإن تعلق بالموجودات بالفعل في وقت وجودها فهو كباقي الصفات الأخرى، فإن تعلقها بالحوادث هو في غير الأزل مثل القدرة على الخلق، وأيضًا فحبه أكبر وأعظم ولا تشوبه أدنى شائبة من الحاجة إلينا أو المنفعة، كما قلنا، لا كالمعتاد الغالب في حبنا مهما خلص، وهو يشمل جميع مخلوقاته حتى أعداءه منهم بالمعنى الذي بيناه هنا، وهو دائم أبدًا لعباده المؤمنين الذين يمدهم بالخير العظيم والفضل العميم، والإحسان الكبير، ومن غير أن يكون شيء من ذلك واجبًا عليه تعالى بل هو كله محض فضل منه ورحمة، وأيضا فقد ينشأ عن حب بعضنا بعضًا شيء من الضرر كحب الأم الجاهلة لولدها حتى تمنعه من كل عمل فيه مشقة ولو كان نافعًا أو ضروريًّا، وأما حب الله لنا فهو خال من كل ضرر، ولا ينشأ عنه إلا النفع المحض قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النحل: ١٨) وأيضًا فالله عندنا غفور رحيم للمذنبين مهما كثرت جرائمهم بشرط التوبة الصحيحة بدون انتقام ولا سفك دم (ولا يُكَلَّفُ الإنسانُ ما لا يطيق) . أما أرقى أنواع الحب عند النصارى فهي التي تؤدي إلى الانتحار لخلاص الناس (كما في كتاب صدق المسيحية لمؤلفه ترتون ص٢٨٣) ولكن مثل هذا الحب هو من شأن الضعفاء العاجزين المختلين الذين لا يقدرون على خلاص محبوبهم؛ فلذا ينتحرون والله منزه عن ذلك وفوق ذلك، على أن مثل هذا الحب مشاهد بين الناس فكثيرًا ما ينتحر العاشق في سبيل معشوقه والأم لأجل ولدها مثلاً؛ فحب الله -على قولهم هذا- لا يمتاز عن الحب المعتاد بين ضعاف المخلوقين وشرارهم. ولعل من أسباب كثرة الانتحار بين الإفرنج هذه العقيدة؛ إذ من مقتضاها أن الانتحار ليس بعار ولا عيب فيه ما دام ربهم نفسه قد ارتكبه ولو أن الحامل له عليه غير الحامل لأكثرهم، ولكن الانتحار على كل حال هو مظهر من مظاهر اليأس والضعف والجبن وقلة العقلِ والحيلةِ؛ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. لاحِظْ أيضا أن إلههم هو الذي أباح لهم شرب الخمر وشربها معهم وناولهم إياها بيده كما سنبينه (مت ٢٦: ٢٧ - ٢٩ ومر ١٤: ٢٣ - ٢٥ ويو ٢: ١ - ١١) ، (راجع كتاب دين الله ص ٩٨) فلذا فشا فيهم الانتحار وشرب الخمر وهما من أكبر الموبقات؛ ومع كل ما تقدم فالله تعالى باعترافهم لم ينتحر هو نفسه لخلاصهم بل ضحى بالإنسان يسوع، الذي أكرهه على ذلك إكراهًا كما بيناه في مقالة الصلب وغيره؛ وظلمه وهو بريء ولم يشفق عليه ولم يرحمه كما قال بولس (رومية ٨: ٣٢) فأين الثريا من الثرى، وأين السماء من الأرض؟ فإذا لم يحمل الناس على حب الله خلقُه لهم وتفضلُه عليهم بجميع أنواع النعم الصغيرة والكبيرة وهدايته لهم بدون مقابل ورحمته بهم وعفوه عنهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون فهل يحمل على حبه صلبه البريء يسوع؛ لأجل خطيئة آدم وخطيئتهم وهم لم يقعوا في العصيان إلا بعلمه وإرادته وتقديره؟ ومهما بالغ بعضهم في إرادة الإنسان واختياره فإن ذلك مخالف في كتبه (راجع يو ١٢: ٣٩ - ٤١ ورو٩: ١٧ و١٧ و١١: ٧ و٨ و١٢: ٣ وخر ٤: ٢١ و٩: ١٢ و١٠: ١ و١ صم ٢: ٢٥ وتث ٢: ٣٠ واش ٦: ١٠ ويشوع ١١: ٢) . وقد كان يمكنه أن يمنع وقوع الإنسان آدم في هذه الخطيئة أو يمنع نسله من التأثر بخطأ أبيهم الذي أدخل بزعمهم الخطيئة في العالم كما قال بولس (رومية ٥: ١٢) مع أنه لولا خلقه آدم بطبيعته ميالاً من قبل للشر والعصيان لما عصاه وخالف أمره (راجع رسالة الصلب ص ١٢٣ - ١٢٥) ولو أراد أن ينجيهم من العقاب تفضلاً منه ورحمة لما عارضه أحد؛ ولما نافى ذلك عدله كما يزعمون وإلا فهل صلب البريء بدون إرادته فداء للمذنبين هو الذي لا ينافي ذلك العدل الذي ما فهموه؟ (راجع صفحة ١١ - ١٣ من كتابنا دين الله) وهل إيقاعهم في العصيان بخلق آدم ميالا للشر وخلقهم كذلك ومؤاخذتهم بذنبه وذنوبهم (انظر مثلاتك ٣: ١٥ - ١٩) وعدم العفو عنهم مطلقًا إلا بسفك الدم هو الذي يحملهم على حبه؟ ولا يحمل المسلمين ما ذكرنا على حب الله الرءوف بهم الرحيم المنعم عليهم بكل شيء الغفور لذنوبهم جميعا بدون سفك دم أحد متى صحت توبتهم ورجعوا إليه وحده مستغفرين خاضعين مطيعين؟ وهو الذي لا يسأل أحدًا منهم إلا عما اكتسبته يداه؟ فتأملوا في ذلك أيها العاقلون واحكموا بيننا وبين القوم الظالمين. وليس غرضنا بهذه العبارة البحث هنا معهم في مسألة القضاء والقدر، فقد وفيناها حقها في بعض أعداد المنار السابقة (م ١٠ ص٧٣١) وإنما الغرض مقارنة العقيدتين وبيان أيهما أشد حملاً للناس على حب الله. وإذا كان المسيح باعتبار ناسوته من نسل آدم؛ لأنه مولود من مريم ومتكون في رحمها من دمها فهو كباقي أولاد آدم واقع في الذنب فهو أيضا يحتاج إلى الكفارة مثلهم، وإذًا يكون غير طاهر ولا معصوم من الذنوب كما تزعمون؛ لأنه ابن الإنسان الخاطئ وناسوته مخلوق من مريم بمقتضى التولد الجثماني، وإن كان لم يتلوث بذنب آدم فلم تلوث غيره (رومية ٥: ١٢ و١٧ و١ كو ١٥ و٢٢) وكلنا من نسل آدم وطبيعتنا هي من طبيعته؟ وإن كان الله طهره من الخطيئة بحلوله فيه فإذا يجوز التطهير من الذنوب بدون سفك الدم، وهو خلاف ما تدعون؟ وإن كان حلول الابن مطهرًا من ذلك فلم لم يطهركم حلول روح القدس فيكم وكلكم هيكل الله الحي كما يقول بولس (١ كو ٣: ١٦ وأف ٤: ٦ وراجع أيضا أع ٢: ٤) فإذا كان حلول الله أو أحد أقانيمه في الإنسان مطهرًا من الذنوب فأيُّ حاجة إذًا إلى صلب المسيح؟ ولمَ لمْ يجعل الله موت شهدائهم الكثير بزعمهم كفارة عن باقي النوع الإنساني وكلهم ممتلئون من روح القدس (رو ٥: ٥) وإن قيل: إنه باعتباره ناسوته واقع مثلنا في خطيئة آدم، ولكن صلبه وهو ابن الله كافٍ لتكفير الخطيئة عن جميع بني آدم، وهو من ضمنهم. قلت: إن كان صلبه باعتبار أنه إله جاز على الله الموت والألم والجزع والاستغاثة بغيره والضعف، وغير ذلك مما أظن أنكم تنزهون الله تعالى عنه وخصوصًا بعد قول المصلوب: (إلهي إلهي لماذا تركتني) . وإن كان صلبه باعتبار أنه إنسان فهو خاطئ مثلنا بمقتضى طبيعته البشرية فلم لا يكون موته مكفرًا عنه وحده؛ ويكون ما ينال كلا منا في هذه الحياة من المشاق والأحزان والموت أو القتل وغير ذلك كفارة له عن ذنبه، وقد كان أصل العقاب على ذنب آدم كما في سفر التكوين الموت والألم والتعب وعداوة الشيطان أو الحية ونحو ذلك (تك ٢: ١٧ و٣: ١٣ - ١٩) وكل هذه الأشياء واقعة بنا وباقية علينا إلى الآن؟ وإن كان لا بد من سفك الدم فهي دعوى لا دليل لكم عليها ولم يكن موت المسيح بسفك دمه وذبحه، بل إن ما فاض منه من مسامير الصلب لم يكن هو السبب في الموت كما بيناه في كتاب (دين الله ص ٥ و١٢) وفي رسالة الصلب؟ وإذا كان الله لا يكتفي بما حل بالإنسان من المصائب والبلايا والموت وغيره في هذه الحياة، ويصر على الانتقام منه في شخص أحد أفراد هذا النوع المسيح، ويحمله من أنواع الإهانات والفظائع ما جعله يستغيث به فلا يغيثه ولا يرحمه (لو ٢٢: ٣٩ - ٤٦ ورومية ٨: ٣٢) مع أنه اتخذه له ابنًا وحل فيه؛ وإذا كان أيضًا لا يكتفي بحلول روحه القدس في الناس ولا بتوبتهم واستقامتهم ولا باستشهاد كثير منهم في سبيله إلا بعد سفك دم عيسى، ويحب الضحايا البشرية من قديم الزمان ويتقبلها من مقربيها له (قض ١١: ٢٩ - ٤٠) ويأمر أنبياءه بسفك دماء ما لا يحصى من الحيوانات (١ مل ٨: ٦٣) وقتل ما لا يعد من البشر (تت ٢٠: ١٦) ويسر برائحة المحرقات (لا ١: ١٧) إذا كانت كل هذه صفات إلههم فهو مجرد من كل رحمة وشفقة وحنان وعدو للإنسان والحيوان. حتى إنه ندم على خلقه الإنسان (تك ٦: ٦) لشدة غيظه منه، وبغضه له، وخوفه منه (تك ٣: ٢٢ و١١: ٦) فكيف يمكن للإنسان أن يحبه بعد ذلك؟ مع أن الله وهو أقدر منا طبعًا لم يحب الإنسان؛ ولم يرحم إلا بعض أفراد هذا النوع بعد أن شبع وروي من الدماء التي تملأ الأنهار، فهل يا قوم هذه العقيدة [١١] هي التي تدعون أنها الطريقة الوحيدة لإظهار محبة الله للإنسان، وهل هذا إله محبة كما يسميه يوحنا (١ يو ٤ ت: ١٦) وهل كل هذه الأشياء التي صدرت منه ضد الإنسان تحملنا على حبنا له؛ ولا طريقة تحملنا على حبه غيرها؟ إن هذا لشيء عجيب. (البقية تأتي) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي ... ... ... ... ... ((يتبع بمقال تالٍ))