كتبت في المنار الأغر فصلاً تحت عنوان (هذا أوان العبر) بحثت فيه عن تقهقر المسلمين وسببه , ورأيت بعد مقدمات سردتها أن استبداد الحكومة هو علة هذا الضعف الشامل الذي ألَمَّ بالمسلمين، وجعلهم في أخريات الأمم , وقلت: إنما أنامهم لاستبداد الأمراء وأضعف بحياتهم السياسية الرجاء، مزج السياسية بالدين مزجًا أدى إلى استئثار الخلفاء بالسلطة واستبدادهم بكل شئون الملك حتى أخذت الحكومة الإسلامية شكل الحكومات المطلقة التي هي نار تأكل الممالك وتذهب بحياة الشعوب. ولو تنبه العرب في بدء نشوء الدولة إلى أن الحياة السياسية غير الحياة الدينية، وأسسوا هذا الملك الكبير على أساس الحكومات الديموقراطية التي كانت عند مجاوريهم من الرومان لما استفحل داء الاستبداد المطلق في الدولة الإسلامية إلى آخر ما ورد في ذلك الفصل. وبما أن أكثر المقدمات كانت إجمالية أردت بها الإشارة إلى نتائج الحكم المطلق قد التبست على حضرة الفاضل الهندي صاحب مقالة (ضعف المسلمين وعلاجه) فحمل قولي على غير ما أردت , وكتب في المنار المنير مقالته المسهبة في الرد عليّ , فذهب فيها مذاهب من بيان الداء والدواء تدل على وقوف على أحوال المسلمين وعلم لا ينكر على مثله، إلا أنه آخذني على بعض المقدمات مؤاخذة من التبس عليه فهم المراد منها , فطفق يسرد الأدلة على فضائل الدين الإسلامي وأنه صالح لترقي المسلمين، كأنه ظن أني بقولي: إن السياسية غير الدين، أدعو المسلمين إلى ترك الدين أو أن الإسلام غير صالح لترقي الأمة، ومعاذ الله أن يقول بهذا مسلم عنده ذره من العلم بحقيقة الإسلام ووقوف على تاريخ المسلمين , ولكي أدفع ما ورد على ذهنه من الشُّبه , وما تبادر إلى فهمه من ظاهر كلامي أريد مع احترامي لغيرته العظيمة ونيته السليمة مناقشته في بعض المقدمات التي أوردها في مقالته (ضعف المسلمين وعلاجه) تمحيصًا للحق وبيانًا للحقيقة، فأقول: جاء في مقدمته الأولى عن أسباب تقهقر المسلمين أن أعظم تلك الأسباب وأولاها تغلب من لا يستحق الخلافة على من يستحقها، وجعلها ملكًا عضوضًا قائمًا بقوة السيف. وثانيهما: نبذ المسلمين للكتاب والسنة، وافتراقهم شيعًا في الدين. فأما السبب الثاني فلا مشاحة فيه، وقد بسطه حضرته بسطًا وافيًا أعرب فيه عما يخالج ضمائر العقلاء من الأمة، وهو سبب مهم من أسباب تدلي المسلمين لا ينكره إلا مكابر أو جاهل، فلا نناقشه فيه بل نوافقه عليه، ولي فيه كلام طويل وفصول كثيرة في كتبي (أشهر مشاهير الإسلام) و (تنبيه الأفهام) فليراجعهما إن أحب. وأما السبب الثاني فقد جعله أخونا الفاضل أساسًا، وهو في الحقيقة نتيجة مقدمات وأسباب لو تتبعها لما خالفني في رأيي. وبيانه أني بنيت قولي بتقهقر المسلمين على ثلاثة أمور: (الأول) الاستبداد , و (الثاني) طرز الحكومة , و (الثالث) مزج المسلمين الحياة الدينية بالحياة السياسية , وهذا الأخير ينقسم إلى قسمين وهما: طرز الحكومة , والاستبداد. فالاستبداد منشؤه الحكومة المطلقة، وهذه منشؤها استئثار الخلفاء بالسلطة العامة باسم الدين لجعلهم حياة الأمة السياسية حياة دينية، وأخونا الفاضل الهندي وافقني في بنائه للسبب الأول على الثاني، وهو الاستبداد. وإنما أنكر علي كونه ناشئًا عن مزج السياسة بالدين ورأى أن منشأ استبداد الأمراء تغلب النازعين إلى الملك ممن كانوا غير أهل للخلافة على من كانوا أهلاً لها، وتشريدهم لهم في كل صقع وواد، وأخذ الخلافة بالغلبة دون اختيار أهل الحل والعقد، وجعلها بعد أخذهم لها بقوة السيف ملكًا عضوضًا ذهبوا فيه مذاهب أهل الأثرة والكبرياء وحادوا به عن طريق الشرع وآثروا الجهلة والفساق ... إلخ ما قال. والذي يستنتج من رأيه هذا أن الخلافة لو بقيت باختيار أهل الحل والعقد ووسدت إلى أهلها ممن عناهم حضرته - لما حل بالأمة من مصائب الاستبداد ما حل , ولَمَا طرأ على الدول الإسلامية من الضعف ما طرأ، وما دام مُسَلِّمًا معنا بهذه المقدمة فقد كان يلزمه أن يبحث عن السبب الذي أفضى بالخلافة إلى غير أهلها , ويبين الوجه الذي يضمن بقاءها على ما تركها عليه الخلفاء الأولون سائرة على نهج الحق والعدل، لا سبيل لأولئك النازعين إلى الملك المتوثبين على الخلافة إلى خرق حرمتها، والتغلب على من كانوا أهلاً لها وأحق بها، ويرى ما الذي أدخل على مركز الخلافة الاضطراب من عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه حتى زعزعته عواصف الفتن وغلب عليه المتغلبون، فكانت من ثم أول حلقة من سلسلة الانقسام والتغالب الذي جر على الأمة من البلاء وأذاقها من استبداد الأمراء ما انتهى بها إلى الغاية الشنعاء التي نشاهدها الآن بالعيان. لو نظر حضرته إلى السبب ودقق النظر في هذا البحث لعلم أني لم أخرج في بحثي عن هذه الوجهة، ولم أتعرض في كلامي لأصل الشريعة التي قال فيها: لو عمل بها الخلفاء لما أصاب الأمة ما أصابها من الجور؛ إذ هذا حق لا ريب فيه، ولم يكن كلامي دائرًا عليه بل على الأساس الذي ينبغي أن تقام عليه دعائم الدولة، ويتكفل بسير الأمراء على نهج العدل، وعملهم بأوامر الشريعة، ويقف بهم مرغمين عند حد القانون. وهذا الأساس هو الذي يعرف لهذا العهد بالنظام الأساسي الذي عليه تقدم الدول الشورية والحكومات النيابية، ولا بقاء للحكم النيابي بدونه قط. هذا النظام هو الذي يتكفل بتنفيذ القوانين الشرعية والوضعية، ويعطي الشعوب حق السيطرة على الحكومة والمشاركة لها في الرأي، ويحدد سلطة الأمراء والملوك تحديدًا يمنعهم من الذهاب في سياسة الأمم مذاهب الشهوات، وأن يكونوا أربابًا والرعية مربوبين. وهذا النظام هو الذي نهض بدول الغرب إلى أوج القوة والمجد والسيادة على الأرض، وخرج باليابان من وهدة الهوان إلى مقام الدول العظيمة ذات القوة والسلطان، وإلى هذا المعنى أشرت بحياة الأمم السياسية، وأنها غير الحياة الدينية , وقلت: إن العرب بجعلهم الحياة السياسية حياة دينية مهدوا للأمراء سبيل الاستئثار بالسلطة باسم الدين، والحكم بالهوى وبما تشتهيه نفوسهم لا بما ينطبق على مصلحة الأمة والشرع، فإذا توهم أخونا الفاضل أن هذه الحياة لا تكون حياة طيبة سعيدة إلا إذا انصبغت بصبغة الدين، فما رأيه في اليابانيين وهم من الوثنيين. استغرب الفاضل الهندي قولي أن العرب فاتهم أن يجاروا في وضع قواعد الدولة وتأسيس أصول الحكومات ذات الصبغة الدستورية كالجمهورية والقنصلية والحكومة المقيدة - أقرب الأمم جوارًا لهم وهم الرومان، واستعظم قولي بترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا، وبالغ في الاستعظام، حتى خيل للقارئ أني أدعو إلى نحلة جديدة بعيدة عن الدين والصواب , لا أجاب إليها ولو ناديت قومي إلى يوم الحساب يؤيد هذا قوله بعد كلام طويل: فإن دعوتهم (يعني المسلمين) إلى دينهم الخالص أنفع لمرضهم ... إلخ الجملة التي تدل على مبلغ ظنه بي، وإني أرجو الله أن يغفر له ولي ما دامت وجهة كلينا إلى الحق، وغرضنا محض النصيحة، وإنما التبس على مناظري فهم المدار من كلامي فحمله على غير ما أردت، وعسى أن إيضاحي له الآن، وتصريحي بأنه إنما كان دائرًا على النظام الأساسي للدولة، يقنع حضرته بأني لم أرد بفصل السياسة عن الدين ترك أحكام الدين وتعاليمه، بل أريد أن النظامات الأساسية للدول تابعة للمصلحة منوطة بالاجتهاد , وليست هي جزءًا من الدين لا ينفصل عنه , وبيانًا للحقيقة التي يشهد بها الشرع والعقل ألخص هنا ما كتبته في صدر الجزء الأول من أشهر مشاهير الإسلام عند الكلام على خلافة أبي بكر رضى الله عنه, وأزيد عليه بعض الشيء إيضاحًا لما أبهم في هذه المسألة الكبرى فأقول: (إن وظيفة الرسل هي تبليغ الشرائع، ووضع أصول الدعوة وتقريرها على وجه يتكفل بسعادة الناس , ولما كان لابد بعد الرسول من بقاء هذه الشرائع في قومه للحكم بها بين الناس أنيط بالضرورة بمن يخلفه في قومه فكانت وظيفته دنيوية يتعلق بها تنفيذ أحكام الشريعة التي تتكفل بحفظ الأمن والراحة والحقوق , ووظيفة الرسول دينية يتعلق بها تبليغ الدين وتقرير أصول الشريعة؛ لهذا لم يعهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل مفارقته الدنيا إلى الملأ الأعلى بالخلافة إلى أحد سوى أنه استخلف أبا بكر رضي الله عنه بالصلاة التي هي ركن من أركان الدين فرضيه بعد ذلك الصحابة الكرام رئيسًا للدنيا بدليل قول علي رضى الله عنه: (قد ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا) وهذا صريح في أن الدولة غير الدين. ومعلوم بالبداهة أن الشرائع سواء كانت دينية أو وضعية تحتاج إلى منفذ ووهذا المنفذ هو الدولة فأول رئيس لهذه الدولة في الإسلام هو أبو بكر - رضي الله عنه - وإنما كان أبو بكر رئيسًا للدولة بالضرورة؛ لأن الإسلام له شرائع يقتضي تنفيذها , والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة بل شرع شرعًا، وجمع الناس على دين فلهم أن يختاروا في حماية ذلك الشرع وتنفيذه الوجه الذي يتكفل بقيامه ويعزز جانب أهله، وليس هناك نص بعينه بَيَّن كيفية تأسيس الدولة، فهم إذا أحسنوا في الاختيار التأسيس فلأنفسهم، وإذا أخطؤوا فعليها، والشرع لا يطالبهم بحكومة جمهورية ولا مطلقة ولا مقيدة بل يطالبهم بالعمل بأحكامه وقصد العمل بتلك الأحكام وصونها عن العبث والضياع، وهو الذي يطالبهم باختيار طرز الحكومة التي تضمن بقاء العمل بالشرع، وأي حكومة أفضل للمسلمين، بل لكل البشر من الحكومة النيابية التي يتكافل بها الشعب برمته على سلامة القانون أو الشرع. هذه مقدمة، ومقدمة أخرى وهي أن الشرع ينقسم إلى قسمين، قسم يتعلق بالدين وهو قسم العبادات، وقسم يتعلق بالدنيا وهو قسم المعاملات، فالقسم المتعلق بالدين نصوصه قطعية لا اجتهاد فيها , ويتلقاه الناس من الكتاب والسنة فمخالفه يعاقب والعامل به يثاب. والقسم المتعلق بالدنيا هو قسم المعاملات ويشتمل على أحكام الحقوق والعقوبات، وفيها القصاص والحدود، فأحكام هذا القسم منها قطعي ومنها ما هو موكول للاجتهاد، وهو الأكثر، والاجتهاد كما هو معلوم بالبداهة معناه وضع الأحكام بإزاء الحوادث التي تتجدد بتجدد الزمان، وتتعدد بتعدد المصالح. فإذا أجاز الشارع الاجتهاد في هذا القسم لاعتبار أنه دنيوي تتعلق به مصالح الأمة الاجتماعية، فما معنى اعتبار حياة المسلمين السياسية التي تتعلق بها حاجات الدولة والملك الدنيوية في بدء نشوء الدولة وسذاجتها حياة دينية لا يجوز فيها الاجتهاد بتأسيس الدولة على أصول الدول العريقة في الملك. ومقدمة ثالثة وهي أنه قد ثبت عند الأصوليين أن الأنبياء - عليهم السلام - قد يخطئون في اجتهادهم , والعرب في صدر الإسلام لما لم يكن لديهم تاريخ في ترتيب الحكومات يرجعون إليه لم يحسنوا تأسيس الدولة على أصول الشورى الثابتة، فلو فرضنا أنهم اجتهدوا وأخطأوا فهل في هذا ما يدعو إلى استكبار ذكر هذا الخطأ، والحال أن لهم أسوة بالرسل - عليهم السلام - ولماذا استكبر حضرة المناظر الفاضل قولي: إن العرب لم يحسنوا تأسيس الدولة والملك. ومقدمة رابعة: إذا كانت حياة المسلمين السياسية حياة دينية , والسياسة لا تنفصل عن الدين , ومعلوم بالضرورة أن الدين لا ينسب إليه نقص في بيان وجوه المصالح المتعلقة بسعادة المسلمين، فما هو سبب الاضطراب الذي دخل على الخلافة من الصدر الأول وجر على الأمة من الفتن والأرزاء ما يعلمه كل واقف على التاريخ؟ أهو نقص الدين؟ أم جهل الصحابة بأحكامه التي ترتبط بها مصلحة دولة المسلمين , وتتوحد المشارب السياسية بين المؤمنين؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل يبقى إلا التقصير بما ذكرنا. هذه المقدمات تنتج - على ما أعتقد أنه الحق - أن السياسة غير الدين , وأن تأسيس الدولة منوط بالمصلحة التي تقتضيها حاجة المسلمين، وأن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يتوصلوا إلى جمع كلمة الأمة السياسية كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم كلمتها الدينية، لأنه فاتهم تأسيس الدولة على أصول الحكم النيابي الثابت الذي تتحد به مصالح الشعوب مهما افترقوا في المشارب والأحزاب، وكان مبلغ اجتهادهم - رضوان الله عليهم - أن حاولوا جمع كلمة الأمة على إمارة المؤمنين باسم الدين على أن الأمة لم تكن وقتئذ مفترقة في الدين بل في السياسة، وإنما حصل هذا الافتراق لما رسخ في أذهان العامة من أن السياسة هي الدين، وأن فلانًا أو فلانًا أحق دينًا بإمارة المؤمنين، والصحابة إنما أرادوا جمع كلمة الأمة باسم الدين اعتقادًا منهم بأن الدين أنفذ إلى القلوب وأملك للضمائر، فهم على كل حال مثابون مأجورون؛ لأنهم لم يريدوا للأمة إلا الخير، ولكن تعذر عليهم الوصول إلى جمع كلمة المسلمين السياسية التي لا تجتمع إلا إذا كان النظام الأساسي لكل دولة في كفالة الأمة بأسرها لا كفالة الأمير وحده، وإلى هذا أشرت في مقالتي الماضية بقولي: إن العرب فاتهم أن يجاروا أقرب الأمم جوارًا لهم وهم الرومان في تأسيس الحكومات ذات الصبغة الدستورية، ولم أشر إلى غير الرومان من الدول القديمة ولا الحديثة كما اتهمني مناظري الفاضل، ذلك لأن الحكم النيابي الذي يعطي الأمة حق المشاركة للحكومة في الرأي، وتقوم به الدول بالتكافل بين الأحزاب إنما هو من وضع الرومان، ولم يعرف عن الفرس ولا الهنود وغيرهم. والدولة الرومانية وإن كانت في أيام الفتح وظهور دولة الإسلام قد صارت إلى ما صارت إليه من الضعف والهرم وفقدان أصول الشورى، إلا أن لحكوماتها تاريخًا معروفًا يرجع إليه، لذا تأصلت في الغرب دون الشرق روح الشورى والحكم النيابي، فكانت تظهر تارة وتختفي أخرى، حتى كانت الثورة الفرنساوية الشهيرة، ونسفت قواعد الحكم المطلق من المملكة الفرنساوية وتبعتها بعد ذلك بقية الممالك الأوربية، وكان من آثار الحكومات النيابية في أوربا ما لا يحتاج إلي بيان بعد أن شهد به العيان. والخلفاء الراشدون أخذوا كثيرًا من أمور الدولة عن الأعاجم كالديوان ونحوه , فماذا يضر قولنا: إنهم لو أخذوا عن الرومان أصول الحكومة النيابية لكان أنفع للمسلمين. أجل , إن الله تعالى مدح في كتابه الكريم قومًا كان أمرهم شورى بينهم، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة فجنح الخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - إلى الاستشارة في بعض أمور الدولة عملاً بأمر الله، وذلك لمكانتهم من التقوى والصلاح والعدل , لكن هذا المبدأ الشوري السامي صدر عنهم بمحض الإرادة وأدبًا مع الشارع، ولم يضعوه موضع المبدأ الأساسي العام، ويشيدوا عليه بنيان الدولة بطريقة تشعرأن لكل فرد من أفراد الأمة حقًّا بمكاتفة الحكومة ومشاركتها كما هو شأن الحكومات النيابية الصحيحة، بل اعتبروا الخليفة مصدر كل شئون الدولة، وكل ما يتعلق بأمور الأمة السياسية والدينية منوط به وموكول إليه، لذا لما مضى عصرهم الذي هو خير العصور الإسلامية قلب الخلفاء للمسلمين ظهر المجن واستأثروا بكل مصالح الدولة , واتخذوا اسم الإمامة والخلافة سلاحًا يضربون به وجوه المسلمين واستعبدوا به الأمة أي استعباد لما أوجدوه في نفوس الناس من الاعتقاد بأن الإمامة ركن من أركان الدين , والإمام خليفة الله ورسوله على المؤمنين، وبلغ غلوهم في الاستبداد والترفع عن عامة الأمة أن خطب عبد الملك بن مروان (من الأمويين) يومًا خطبة قال في آخرها: (والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه) . واحتجب الخلفاء العباسيون عن أنظار الناس داخل القصور فكانوا في أواخر دولتهم وسائل للتبرك وآلات للتعظيم مع أنه ليس لهم من الأمر شيء. وادعى الخلفاء الفاطميون في مصر الألوهية , وأوجبوا تعظيمهم على الناس تعظيم عبادة لا سيادة، ولما زالت سطوة الخلافة، وتقلص ظلها عن الناس، وآل الملك إلى أهل العصبيات الجديدة من الملوك والسلاطين وكانت الأمة رضخت للاستعباد واستنامت لعوامل الاستبداد؛ استمرأوا مرعى السلطان المطلق على الأمة، وبسطوا عليها يد القوة والقهر حتى آنست لهذا العهد بالضعف , واستسلمت لحكم السلطة الاستبدادية، حتى ما تطيق الحرية وتأبى التخلص من هذا الأسر، وهي ترى بعينها نتائج الحرية والعدل في الأمم الأخرى , وتشاهد تفاني الشعوب واستهلاكهم في سبيل التخلص من حبائل الاستبداد، ولا ينبض لفرد من أفرادها عرق أو يتحرك منها ساكن، وإذا نادى منادٍ من المسلمين بالإصلاح، ودعا داعٍ إلى قَدَّ قيود الأسر والانطلاق من سجن العبودية والقهر؛ عَدُّوه من المارقين وأقاموا في وجهه ألف سد باسم الدين حتى جعلوا الدين مضغة في أفواه الغربيين، ووسيلة من وسائل الحجر على العقول , والله يشهد والملائكة والرسول أن الإسلام أدعى إلى الخير وأهدى إلى سعادة الأمم مما يعتقدون. وإنما إلصاقهم كل شيء بالدين وتكييفهم للدين كما يريدون؛ جعلنا نتخبط في ظلام هذه الحيرة التي أودت بنا إلى العدم دون كل الأمم , وقد أشار إلى هذا أخونا الهندي في مقالته بما يغنينا عن إطالة البحث والاسترسال في الآلام لا في الكلام , وحسبنا شاهدًا على ذلك ما وصل إليه المسلمون والإسلام , والله يتولى هدانا جميعًا وهو خير المرشدين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق) (المنار) قراء المنار يعرفون رأيه في هذه المسائل التي تناظر فيها هذان الكاتبان الغيوران على ملتهما وأمتهما إلا مسألة نصب الخليفة , فإن المناظرة تشعر بأنه أصل من أصول الدين وليس كذلك , وإنما هو من الأحكام الشرعية العلمية الاجتهادية , والقرآن قد وضع أساس الشورى، وعمل بها النبي ليبني عليه المسلمون هيكل حكومتهم , وترك التفصيل لاجتهادهم. فالسياسة دينية من جهة اجتهادية من جهة أخرى , وسنوضح ذلك في مقال مخصوص يكون فصل الخطاب إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))