للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نموذج من كتاب دلائل الإعجاز
للإمام عبد القاهر الجرجاني
(وهو يطبع الآن)

فصل
في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه
وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه
لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور (أحدها) : أن يكون رفضه له وذمه إياه
من أجل ما يجده فيه من هزل أو سُخْف وهجاء وسب وكذب وباطل على الجملة،
(والثاني) : أن يذمه لأنه موزون مُقفّى، ويرى هذا بمجرده عيبًا يقتضي الزهد فيه
والتنزه عنه (والثالث) : أن يتعلق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر،
ويقول: قد ذُمُّوا في التنزيل، وأي كان من هذه رأيًا له فهو في ذلك على خطأ ظاهر
وغلط فاحش، وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر، بالضد مما جاء به الأثر،
وصح به الخبر.
أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسُخْف وكذب وباطل،
فينبغي أن يذم الكلام كله. وأن يضل الخرس على النطق والعيَّ على البيان فمنثور
كلام الناس على كل حال أكثر من منظموه، والذي زعم أنه ذم الشعر بسببه، وعاداه
بنسبته إليه أكثر؛ لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون، والعامة ومن لا
يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل. ونحن نعلم أنه لو كان منثور الكلام يجمع كما
يجمع المنظوم. ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثرًا في عصر
واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظمًا في الأزمان الكثيرة، ولغمره حتى لا
يظهر فيه، ثم إنك لو لم تَروِ من هذا الضرب شيئًا قط ولم تحفظ إلا الجِدّ المحض
وإلا ما لا يعاب عليك في روايته وفي المحاضرة به وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك
غنى ومندوحة، ولو وجدت طلبتك ونلت مرادك حصل لك ما نحن ندعوك إليه
من علم الفصاحة، فاختر لنفسك ودع ما تكره إلى ما تحب (هذا) وراوي الشعر
حاكٍ وليس على الحاكي عيبٌ. ولا عليه تبعة، إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر
باطلاً أو يسوء مسلمًا. وقد حكى الله تعالى كلام الكفار، فانظر إلى الغرض الذي له
روي الشعر، ومن أجله أُرِيدَ وله دُوِّنَ، تعلم أنك قد زغت عن المنهج، وأنك مسيء
في هذه العداوة، وهي العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماء لغريب
القرآن وإعرابه بالأبيات، فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك إذا
كانوا يقصدون إلى ذلك الفحش، ولم يريدوه ولم يرووا الشعر من أجله. قالوا:
وكان الحسن البصري رحمه الله يتمثل في مواعظه وكان من أوجعها عنده:
اليوم عندك دلها وحدثيها ... وغدًا لغيرك كفها والمعصم
وفي الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذكر المَرْزُباني في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال: (أوتي عمر - رضوان الله عليه -
بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصديق
ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي
الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء المحمَّدون بالباب يطلبون الكسوة فقال: ائذن
لهم يا غلام فدعا بحلل فأخذ زيد أجودها، وقال هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه
عنده وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه: أَيْهَاتَ أَيْهَاتَ، وتمثل بشعرعُمارة
بن الوليد:
أسرك لما صرع القوم نشوة ... خروجي منها سالمًا غير غارم [١]
بريئًا كأني قبل لم أك منهم ... وليس الخداع مرتضى في التنادم
رُدّها، ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل، وقال: أدخل يديك فخذ حلة
وأنت لا تراها فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها. وعُمارة هذا هو
عمارة بن الوليد بن المغيرة خطب امرأة من قومه، فقالت: لا أتزوجك أو تترك
الشراب، فأبى ثم اشتد وجده بها، فحلف لها أن لا يشرب، ثم مر بخمَّار عنده شَرْب
يشربون [٢] فدعوه، فدخل عليهم، وقد أنفدوا ما عندهم فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه
ومكثوا أيامًا، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته امرأته قالت: ألم تحلف أن لا تشرب
فقال:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى عندهم كالغنائم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الرَّيان ليس بعائم [٣]
أسرك البيتين. فإذنْ: رُبَّ هزل صار أداة في جد، وكلام جرى في باطل، ثم
اُستعين به على حق؛ كما أنه رُب شيء خسيس، تُوصِّلَ به إلى شريف، بأن
ضرب مثلاً فيه، وجعل مثالاً له؛ كما قال أبو تمام:
والله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس
وعلى العكس، فرب كلمة حق أريد بها باطل، فاستحق عليها الذم كما عرفت
من خبر الخارجي مع علي، رضوان الله عليه. وربَّ قول حسن لم يحسن من
قائله حين تسبب به إلى قبيح كالذي حكى الجاحظ قال: رجع طاوس يومًا عن مجلس
محمد بن يوسف وهو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أن قول سبحان الله يكون
معصية لله حتى كان اليوم سمعت رجلاً أبلغ ابن يوسف عن رجل كلامًا فقال رجل من أهل المجلس: سبحان الله، كالمستعظم لذلك الكلام ليغضب ابن يوسف، فبهذا
ونحوه اعتبر، واجعله حكمًا بينك وبين الشعر.
(وبعد) فكيف وضع من الشعر عندك وكسبه للمقت منك أنك وجدت فيه
الباطل والكذب، وبعض ما لا يحسن ولم يرفعه في نفسك، ولم يوجب له المحبة من
قلبك، وأن كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب. وأن كان مَجْنَى ثمر
العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة،
وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى
الولد عن الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار
الماضين، مخلدة في الباقين، وعقول الأولين، مردودة في الآخرين، وترى لكل من
رام الأدب، وابتغى الشرف، وطلب محاسن القول والفعل، منارًا مرفوعًا، وعلمًا
منصوبًا، وهاديًا مرشدًا، ومعلمًا مسددًا، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر،
والزاهد في اكتساب المحامد، داعيًا ومحرضًا، وباعثًا، ومحضضًا، ومذكرًا
ومعروفًا وواعظًا ومثقفًا، فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا
الرأي منك، وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه، ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به،
ولكنك أبيت إلا ظنًّا سبق إليك، وإلا بادئ رأي عنَّ لك، فأقفلت عليك قلبك،
وسددت عما سواء سمعك، فعيّ الناصح بك [٤] ، وعسر على الصديق الخليط
تنبيهك، نعم وكيف رويت (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا فَيَرِيَه [٥] خير له أن يمتلئ
شعرًا) ، ولهجت به وتركت قوله صلى الله وعليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة
وإن من البيان لسحرًا) [٦] وكيف نسيت أمره صلى الله وعليه وسلم بقول الشعر
ووعده عليه الجنة، وقوله لحسان: (قل وروح القدس معك) ، وسماعه له،
واستنشاده إياه، وعلمه صلى الله عليه وسلم به، واستحسانه له، وارتياحه عند
سماعه؟
(أما) أمره به فمن المعلوم ضرورة، وكذلك سماعه إياه فقد كان حسان وعبد
الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويسمع منهم، ويصغي إليهم، ويأمرهم
بالرد على المشركين [٧] فيقولون في ذلك ويعرضون عليه , وكان عليه السلام يذكر
لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب: (ما نسي ربك
وما كان ربك نسيًّا شعرًا قلته) [٨] قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: (أنشده يا أبا
بكر) فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه:
زعمت سَخِينةُ أن ستغلب ربها ... وليغلبنّ مُغالب الغَلابِ [٩]
(وأما) استنشاده إياه فكثير، من ذلك الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسُقِيَ قول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامي عصمة للأرامل
يطيف به الهلاَّك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
الأبيات. وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق عن عبد الله قال: لما نظر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتلى يوم بدر مصرّعين، فقال صلى الله عليه
وسلم لأبي بكر رضي الله عنه (لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت
بالأنامل) قال: وذلك لقول أبي طالب [١٠] :
كذبتم وبيت الله أن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأنامل
وينهض قوم في الدروع إليهم ... نهوض الروايا في طريق حلاحل
ومن المحفوظ في ذلك حديث ابن مسلمة الأنصاري [١١] ...
جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق، قال: فتذاكرنا الشكر والمعروف، قال: فقال محمد: كنا يومًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت:
(أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإن الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها
وروايته) فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة عُلاثة:
علقمَ ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد
مجلسك هذا) فقال: يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر فقال
النبي صلى الله وعليه وسلم: (يا حسان، أَشْكَرُ الناس للناس أَشْكَرَهُم لله تعالى،
وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني، وفي خبر آخر: فشعَّث مني
وإنه سأل هذا عني فأحسن القول) فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
وروي من وجه آخر أن حسان قال: يا رسول الله من نالتك يده وجب علينا شكره،
ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول (أبياتك) فأقول:
ارفع ضعيفك لا يَحُرْ بك ضَعفُه ... يومًا فتدركه العواقب قد نَمَى
يجزيك أو يثني عليك وأنَّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
((يتبع بمقال تالٍ))