(أمالي دينية - الدرس السابع) (٢٤) المحكم والمتشابه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: ٧) . الكلام في أي لغة من اللغات منه نصوص واضحة المعنى لا إجمال فيها ولا إبهام، يُعرف مراد المتكلم منها بمجرد إطلاقها، ومنه ما يجيء في لباس الإجمال أو الإبهام، أو في طريق من طرق المجاز أو الكناية بحيث يخفى المعنى المراد منه لاشتباهه بغيره، إلا على الراسخ في العلم الذي جاء الكلام المشتبه أو المتشابه فيه وفي لغة ذلك: الكلام مفرداتها وتراكيبها وأساليبها، وما عساه يكون للموضوع من الاصطلاحات الخاصة ليتسنى لذهنه رد الفروع إلى أصولها وإلحاق الأبناء بأمهاتها التي تولدت منها، أضرب لكم مثل النحاة فإن معنى لفظ (الفعل) عندهم (اللفظ الذي يدل على معنى مستقل بالفهم مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة) وقد يجيء في كلامهم بمعناه اللغوي وهو الحدث، فمن لا يكون عارفًا باصطلاحاتهم وباللغة يضل في فهم المراد من هذا اللفظ في هذه الحالة، والراسخ يصرف الكلام إلى ما ينطبق على قواعد الفن العامة، فلا يضل ولا يجهل. نطقت الآية التي صدَّرنا بها الكلام بأن في القرآن آيات محكمات لا يشتبه العقل في فهمهن هن أم الكتاب وأصل الدين , ترجع إليهن وتحمل عليهن سائر الآيات التي سماها متشابهات، ومن هذه المحكمات قوله تعالى في تنزيه ذاته العلية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: ١١) وقوله عزّ من قائل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) ومن الآيات التي جمعت بين المحكم والمتشابه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: ٦٧) ومن المتشابهات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: ١٠) وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: ٦٤) وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل: ٥٠) وقوله تعالى جده: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: ١٨) وقوله جل ثناؤه: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) فأمثال هذه الآيات كانت مضلة لأهل الزيغ والتأويل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويضلون الناس بأهوائهم بغير علم، فذهب منهم قوم إلى التجسيم وقوم إلى الحلول؛ افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة:١٦) ومن المتشابه بعض ما أخبر الله تعالى به من علم الغيب، كقوله تعالى في جهنم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: ٣٠) وقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ} (الدخان: ٤٣-٤٥) ومن العلماء مَن يقول: إن جميع ماجاء في القرآن عن عالم الغيب من المتشابه كالجنة وما فيها، والنار وما فيها، وسائر أمور القيامة كالملائكة والجن والشياطين، وكون السماوات سبعًا، والعرش والكرسي، فإن هذه الأشياء أمثالها لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وربما يعلم تأويلها الراسخون في العلم، ولقد افتتن بها خلق كثير، وفتنوا الناس بتأوبلها حتى يكاد يكون الضالون في فهمها أكثر من الضالين بآيات الصفات، ومن وقف على تاريخ الباطنية , لا سيما دعاة العبيديين في مصر ودعاة البابيين والبهائيين في هذا العصر يتبين له تفصيل ما أجملنا. (٢٥) مذهب السلف والخلف في المتشابه: عُلم مما ذكرنا آنفًا أن المتشابه على ضربين: أحدهما ما أطلق على الله تعالى من الصفات التي أطلقت على البشر وما عزي إليه من الأشياء والشؤون التي تعزى إليهم، وثانيها ماذكر من أحوال عالم الغيب المخلوق له تعالى مما له نظير في عالم الشهادة، ومما لا نظير له، والإيمان بمثل هذه الأشياء هو الإيمان بالغيب، وهو دعامة كل دين وأساسه، ومعيار اليقين فيه وقسطاسه، ويشترط في الديانة الإسلامية أن يكون الإيمان خاضعًا لحكم العقل، فلا يكلف أحد أن يؤمن بما يحكم العقل باستحالته، بل تأويل ما عساه يوجد مخالفًا للعقل من ظواهر الشريعة وتطبيقه عليه - واجب، وأجمع المسلمون الذين يُعتد بإسلامهم على أن أصول الدين وأسسه مؤيدة بالبراهين العقلية وإليها يرد سائر ماجاء فيه. أما المتشابه من آيات الصفات وأحاديثها، فقد اشتهر على ألسنة أهل التوحيد، وفي كتبهم أن للمسلمين فيها مذهبين: مذهب السلف وهو الإيمان بها على ظاهرها مع تنزيه الله تعالى عما يوهمه الظاهر من التشبيه المحال عقلاً، ويقولون: الله أعلم بمراده باليد واليمين والاستواء على العرش وما ماثل هذا، ويسمون هذا المذهب مذهب التفويض، ويقولون: إنه أسلم، ومذهب الخلف هو تأويل هذه الكلمات وتخريجها على وجه ينطبق على قواعد التنزيه بما تقتضيه أساليب اللغة من ضروب التجوز والكناية، ويسمونه مذهب التأويل، ويقولون إنه أعلم وأحكم، والصواب أن الأقوال في هذا المقام ستة، استوفينا الكلام عليها في كتابنا (الحكمة الشرعية) . والذي يجب أن لا يختلف فيه هو أن هذه الآيات ما أنزلت عبثًا، وأنها ليست فوق عقول البشر، بل جاءت على أساليب كلام العرب، وحسبكم من فائدتها أنها تفيض على الأرواح من خشية الله وقوة الإيمان بعظمته وسلطانه ما يطهرها من الرجس، ويجذبها إلى عالم القدس ويبغض إليها الرذائل، ويحبب إليها الفضائل تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لما عنده، ومن كان ذا سليقة عربية وعقيدة صحيحة مرضية، وتلا أو تُلي عليه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (الزمر: ٦٧) الآية، يشعر بأن الهيبة والجلال قد ملآ أركان قلبه، وملكا عليه أمر وجدانه سواء كان يعتقد بأن لله يدًا لا كالأيدي، ويمينًا لا كالأيمان، وأن القبض على الأرض، وطيّ السماوات هو من وظيفة اليد واليمين الإلهية من غير تشبيه ولا تمثيل، أو يعتقد أن الكلام تمثيل لعظمة سلطان الله تعالى وانفراده في ذلك اليوم بشؤون العوالم العلوية والسفلية بحيث لا يكون لغيره فعل ولا كسب، ولا أمر ولا نهي ولا ضر ولا نفع، وهذه الآية هي بمعنى قوله تعالى في الآية المحكمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: ٤) ، ولا ينكر أحد من نفسه أن المعنى الواحد تختلف آثاره في الوجدان باختلاف العبارات التي يتجلى بلباسها، وأن التمثيل أبلغ ضروب الكلام تأثيرًا، وأكثرها ضياء ونورًا، وأي ذوق عربي يطوف به من قراءة هذه الآية تشبيه الله تعالى بخلقه، وهو يعهد مثل هذا التعبير في اللغة حتى من الصبيان، يقولون: إن هذه البلاد أو تلك القبيلة في قبضة فلان، وإن زيدًا في أصبع عمرو كالخاتم، على أن الآية يحيط بها التنزيه من طرفيها كما ترى، مَن علم أن جميع ما جاء في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة من هذا النوع من المتشابه يُراد به تقرير العقائد الثابتة بالعقل والنصوص المحكمة وكبح النفوس - بذكر صفات الجلال والعظمة - عن الشرور، وجذبها بصفات الجمال إلى معاهد الضياء والنور، ليكون المؤمن بالأولى من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وبالأخرى من الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟ مَن عَلِم هذا ولاحظه لا يشتبه عليه متشابه، سواء فَوَّض أو أَوَّل، وصرح غير واحد من المحققين بأن جميع ما أطلق على الله تعالى من الصفات الثبوتية من المتشابه لا أنه مخصوص بما لا يعرف إلا بالسمع، وصرَّح الإمام الغزالي بأن لفظ القدرة مستعار للصفة الإلهية التي يوجِد بها ويُعِدم، وأن معنى هذه الصفة هو أجلّ وأرفع من أن تلمحه أعين واضعي اللغات، فيضعون له لفظًا يدل عليه حقيقة، وحقًّا قال فإن هذا اللفظ وضع لمعنى في الإنسان لا يصدر عنه إيجاد ولا إعدام، والحكماء والعقلاء متفقون على أن قدر البشر إنما تتصرف في الموجود فحسب. وأما المتشابه بالمعنى الآخر، فقد كلفنا بالإيمان به على ظاهره إذا لم يكن مخالفًا لأحكام العقل والأصول المقررة بالشرع، وكانت النصوص به قطعية، وسيأتي تفصيل القول به في السمعيات إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))